انطلق "اليورو" في مطلع الشهر الجاري عملة موحدة لأكبر كتلة سياسية واقتصادية في العالم. فيه من الانجاز الاقتصادي بقدر ما فيه من رموز الانتصار السياسي في منطقة قاد نزاع أعراقها وقومياتها ومصالحها الفردية الى أكبر حربين عالميتين في التاريخ. وكانت كوارثها من عوامل الدفع لبناء عالم جديد تنتصر فيه المصلحة المشتركة والتعاون - بل والاندماج - على العنجهيات العرقية واللغوية، سواء ما تعلق بالقرار سياسياً، أو ما تعلق بالعملة والنظام النقدي اقتصادياً، انطلاقاً من حقيقة ان العالم أصبح ميدان صراع كتل كبرى. يشكل الخلاف وتباين المواقف في مراحل التأسيس والانطلاق علامات صحة هي في صلب عمليات التعاون والتلاحم والاندماج بين دول متعددة المصالح والقوميات واللغات. ومع ذلك تحقق الاتفاق الذي كان لسنوات قليلة ماضية نوعاً من الأحلام. تجاوز انطلاق العملة الأوروبية الموحدة اليورو العقبات السياسية بتنازلات وتسويات في اللحظات الأخيرة من قمة بروكسيل في الأول من هذا الشهر، بتقسيم رئاسة المصرف المركزي الأوروبي زمانياً بين المرشح الذي تدعمه الدول الأربع عشرة، وهو وايم دوسنبرغ رئيس المصرف المركزي الهولندي الذي وعد بالاستقالة بعد أربع سنوات، وبين المرشح الفرنسي جان كلود تريشيت الذي سيكون حاكم المصرف لثماني سنوات وفق ما تنص اتفاقية "ماستريخت"، التي حددت أيضاً برنامج انطلاق العملة اليورو في كانون الأول ديسمبر 1991. وفي الوقت الذي يرى المتفائلون ان التسوية هي انتصار لليورو ولرئيس الوزراء البريطاني توني بلير في فترة رئاسة بريطانيا للاتحاد الأوروبي إذ حققت ديبلوماسيته النجاح لهذه القمة الحاسمة، يرى الذين يريدون انطلاقة راسخة للمصرف المركزي الأوروبي، ان ما جرى يفتح شهية المعارضين الذين وجدوا في التسوية ذات الخلفيات السياسية، وسيلة لوضع العصي في العجلات، باثارة اشكالات دستورية انطلاقاً من البرلمان الأوروبي وصولاً الى سلطات الرقابة الدستورية في الدول الأعضاء، على رغم ان اللجنة السداسية المعينة ستشارك رؤساء المصارف المركزية الأوروبية مسؤولية رسم سياسات المصرف. وروعي في اختيارهم التوازن السياسي بين الدول، مثلما هو اختيار مهني لنخبة من الماليين والاقتصاديين المرموقين وهم: ويم دوسنبرغ، رئيساً، اوتمار ايسننغ: اقتصادي من المصرف المركزي الألماني، كريستيان نوبر: الرئيس السابق للخزانة الفرنسية، توماسو بادوا سكيوبا: الرئيس السابق للمصرف المركزي الايطالي، ستيركا هاماليانن: رئيس المصرف المركزي الفنلندي، ايوجينو دومنغو سولانا: رئيس المصرف المركزي الاسباني. ويحاجج المتشائمون أيضاً، بأن التسوية السياسية تضعف صدقية مشروع العملة الموحدة، وتخفض ثقة الأسواق المالية باستقلالية المصرف المركزي الأوروبي، وتزيد عدم وضوح مستقبل اليورو بمواجهة الوضع الاستقلالي الممتاز للجنيه الاسترليني، بسبب عدم انضمام بريطانيا في الموجة الأولى. وهو وضع يزيد من جانب آخر متاعب المصدرين البريطانيين. ومن منظور سياسي، يرى بعضهم النقاش الخلافي على رئاسة المصرف هزيمة للمصرف المركزي الألماني والمؤسسة السياسية بمواجهة السباق الفرنسي - الألماني والمؤسسة السياسية بمواجهة السباق الفرنسي - الألماني التقليدي على زعامة أوروبا، وهذا سيضعف المارك، ولهذا عارض رئيس "البوندزبانك" هانز نتماير تقسيم فترة رئاسة المصرف المركزي الأوروبي. وانطلقت تكهنات بأنه قد ينتقم من السياسيين بزيادة سعر الفائدة هذا الصيف، اذ يكون له كامل السيطرة على السياسة المالية الألمانية حتى مطلع السنة المقبلة، موعد انطلاق اليورو، الذي يسبق بدء عملية تخلي الدول المنضمة 11 دولة عن عملاتها. مهما تكن التغييرات المالية والاقتصادية الناجمة عن تشكيل المصرف المركزي الأوروبي وانطلاق العملة الموحدة، فانها تظل بمنأى عن معرفة وفهم الرأي العام لها، قياساً على التغييرات السياسية، وخصوصاً الاجتماعية التي بدأت الشعوب الأوروبية تحس بوطأتها منذ بدأت الدول المنضمة للاتحاد النقدي بتطبيقها وصولاً الى معايير اتفاقية ماستريخت، مثل تخفيض الانفاق العام، الذي زاد البطالة، ورفع سعر الفائدة لمكافحة التضخم. ومع ان العملة الموحدة تدمج أوروبا في كتلة مالية واقتصادية وفق ما يسمى ب "منطقة اليورو"، فانها لن تتحول الى قوة عظمى في المدى القريب، مع ذلك سيقود هذا الانتصار الى ضغوط سياسية دولية بعضها ناجم عن الخشية من القوة الوليدة. ومثال ذلك، انه حين انهارت الأوضاع المالية في الشرق الأقصى - وكانت المصارف الأوروبية الأكثر تضرراً - لم تستطع حكوماتها أكثر من تقديم النصائح والاستشارات، واعتمدت على الولاياتالمتحدة لقيادة خطط الانقاذ. وإذا نجح اليورو، ستتغير خريطة الكتل الاقتصادية الدولية. وخلال سنة من نجاح اليورو، ستكون كتلة الدول الصناعية السبع مكونة من اقتصادات ضخمة: الأميركية والأوروبية، وبقدر مشابه اليابان، وربما كندا، وبريطانيا إذا بقيت خارج منطقة اليورو. وبذلك ستتعامل اميركا مع محاور اوروبي يتمتع بصلاحيات أكبر مما هو لدى الاتحاد الأوروبي الآن. أي نوع من العملة سيكون اليورو الذي سيخص النمساوبلجيكا وفنلندا وفرنساوالمانيا وايطاليا وايرلندا ولوكسمبورغ وهولندا والبرتغال واسبانيا، وهي تشكل 19.4 في المئة من الناتج القومي في العالم، مقابل 19.6 في المئة لأميركا، و7.7 لليابان؟ تمثل الدول الأوروبية المشكلة لمنطقة اليورو 18.6 في المئة من التجارة العالمية ما عدا التجارة الداخلية، ولأميركا 6.6 في المئة واليابان 8.2 في المئة، وبهذا سيكون اليورو العملة العالمية الثانية. والسؤال: هل سيكون اليورو قوياً ومستقراً. يعتقد كثير من المتاجرين بالعملات انه سيكون كذلك. ومع ان هناك مزاعم بوجود خداع يتعلق ببعض الأرقام، فإن المعايير الأساسية شهدت تحسناً واضحاً، مثل التضخم الذي تقلص الى 1.6 في المئة، وعجز الموازنات الذي هبط الى 2.4 في المئة سنة 1997. ما عدا فرنسا التي كانت نسبة العجز لديها أعلى من 3 في المئة بقليل. أما الدين العام فأمره مختلف، فهناك ثلاث دول من اصل 11 دولة هي دون سقف ال 60 في المئة تصل في بلجيكا الى 122.2 في المئة وايطاليا 121.6 في المئة. ولكن الديون آخذة في الانخفاض، ويشفع لها عموماً، - العجز والديون - انها ليست ذات تأثير كبير في قوة اليورو، يضاف الى ذلك ان السياسات المالية التي سيرسمها المصرف المركزي الاوروي ستكون صارمة، وفوق ذلك كله تلوح علامات الشفاء من الكساد في اوروبا. وتحتاج السياسات المالية الصارمة والنتائج المترتبة على ايجاد منطقة اليورو الى ذراع سياسية تحمي وتدافع بمواجهة دول غير مرتاحة من النتائج السياسية لقرارات المصرف، وهذا يعني اتخاذ قرارات سياسية. وابرز تعبير عن ذلك التسييس الجدال الطويل بين المانياوفرنسا على رئاسة المصرف. وهذه الفرضيات تدفع النقاش في اتجاهين: الاول هو عدم ترجيح تسييس المصرف استناداً الى ضمانات استقلاليته المعبّر عنها في اتفاقية ماستريخت. الثاني: بروز خطر عدم وجود اساس ديموقراطي شرعي في صناعة القرار الاقتصادي. وهناك خطر معارضة السياسات الضريبية، والاجور وحتى الضمان الاجتماعي. وهذا كارثي اقتصادياً. كما يجعل انضمام الدول الاوروبية الاخرى اكثر صعوبة، ويقود الى معالجة المشاكل السياسية الناجمة عن اليورو بطرق ذرائعية. لذلك يجري التركيز على ايجاد اتحاد نقدي مصمم بشكل جيد، يسهم في تحقيق الاندماج الاوروبي حين يتوسع شرقاً، ويقلل من خطر تنامي اليمين المتطرف في بلدان مثل فرنساوالمانيا. لهذا يركز الذين يفضلون التريث في بلدان مثل بريطانيا والدنمارك على ان يدعم الانضمام باستفتاء. ويقتضي ذلك قيام سياسيين باقناع ناخبيهم بمزايا الالتزام الذي قاموا بها نيابة عنهم، وبأن الانجاز يحقق تطلعات الناس، وليس عملة فرضت عليهم من الاعلى. مواعيد تطبيق اليورو 3 ايار مايو 1998 تحديد الدول المشاركة في الموجة الاولى ووضع تقويم لعملاتها. 31 كانون الاول ديسمبر 1998: نظام دستوري جاهز لبدء التعامل باليورو. وستسجل به ديون الحكومات، مع ان التعامل به ليس اجبارياً في تلك المرحلة. ويتوقع ان تكون مبيعات الجملة والتحويلات بين المؤسسات المالية بالنقد الجديد. 1 كانون الثاني يناير 1999: اليورو يصبح العملة الرسمية ل 11 دولة اوروبية. 4 كانون الثاني 1999: يبدأ التعامل التجاري الالكتروني باليورو، بسبب عدم وجود عملة ورقية او معدنية في هذه المرحلة. 1 كانون الثاني 2002: طرح العملة الورقية والمعدنية في الاسواق، وفرض استخدامها في التعامل. 1 تموز يوليو 2002: سحب العملات المحلية من التعامل.