التصحيح السريع الذي شهدته أسواق المال لمصلحة الدولار الاميركي قبل ايام، في أثر قرار المصرف المركزي الاوروبي زيادة معدلات الفوائد بواقع نصف نقطة مئوية، لم يكن مفاجأة في ذاته بمقدار ما كان حجم الزيادة هو المفاجأة. اذ ان الاسواق كانت تنتظر زيادة بواقع 25.0 في المئة. فبعد الزيادة للتو، ارتفع سعر صرف اليورو الى 96،53 من الدولار الاميركي ليصل الى 97 سنتاًِ، وسرعان ما تراجع من جديد الى ما دون 96 سنتاً عقب عمليات تحقيق أرباح وتغطية مراكز من الدولار لقاء عروض من اليورو. وكان ذلك إشارة من الأسواق الى ان اليورو ما زال يحتاج الى مزيد من عناصر الثقة والدعم على المستوى الاقتصادي، خصوصاً وان حجم الزيادة الذي رفع معدّل الفائدة الأساس الى 25،4 في المئة يُنبئ بضغوط على أسواق الأسهم الأوروبية وعلى تكلفة السيولة المخصصة للمبادلات في تلك الأسواق. ويُرخي هذا الوضع ظلالاً من الشك حول قدرة الدول الاعضاء في "اليورو" الإحدى عشرة، على إنجاز المرحلة الانتقالية التي بدأت في 1999 وتنتهي في 31 كانون الاول ديسمبر 2001، اذ سيتم التعامل باليورو والعملات الوطنية للدول الاعضاء في وقت واحد، على ان يبقى التعامل بعملات الدول الاعضاء محصوراً بالدفع النقدي إلى حين اصدار الاوراق النقدية من "اليورو"، شرط عدم جواز اعادة فتح أي حساب يحوّل من العملات الوطنية إلى "اليورو" لدى المؤسسة المصرفية نفسها. ومن المسلّم به، ان أي خلل في تنفيذ المرحلة الانتقالية، وعدم الاستعداد الكافي لها، ومن دون ذلك ايضاًً استجابة أسواق المال لليورو، وكبح الضغوط التي يواجهها، فان تنفيذ المرحلة الاخيرة من "اليورو"، وولادته كامل المواصفات والشروط في كانون الثاني يناير من سنة 2002 سيقى هو الآخر موضع سؤال وتحدّ في آن. ففي كانون الثاني سنة 2002 سيعرض اليورو - كما هو مقرر - ورقة نقدية في الأسواق، وستتم كل المدفوعات باليورو، حتى اذا ما حل تموز يوليو من السنة نفسها حداً اقصى سيكون "اليورو" العملة الوحيدة المسموح تداولها بين الدول الاعضاء والتعامل بها، وتبدأ مرحلة استبدال العملات الورقية باليورو وتمتد لعشر سنوات. السؤال الآخر الذي يُطرح في حال استمرار الضغوط على "اليورو"، وبصرف النظر عن التوقيت الزمني المحدّد للمرحلة النهائىة لولادة العملة: هل سيتمكن اصحاب العقود والمعاملات المبرمة بالعملات الاوروبية الوطنية وقيمتها تريليونات، من انهاء عقودهم بتلك العملات في المرحلة الانتقالية، وهل سيقبلون على ابرامها باليورو الضعيف، والمعرض لخسارة قبل حلول كانون الثاني 2002؟ من الطبيعي، ان ردود فعل المسؤولين الاوروبيين لم تكن كافية لكبح وتيرة تراجع سعر صرف "اليورو" الذي خسر خُمس قيمته على الدولار الاميركي منذ انطلاقته في اول كانون الثاني 1999، وتم تسعيره بواقع 17،1 دولار ليتراجع تدريجاً في 4 نيسان ابريل 2000 إلى 44،88 سنتا اميركيا، اي السعر الادنى له السعر الاعلى 1966،1 دولار سجله في 4 كانون الثاني 1999. وتجاهلت اسواق المال ما قاله رئيس المفوضية الاوروبية رومانو برودي في كوبنهاغن يوم 12 ايار مايو الماضي ومفاده انه ليس قلقاً على اليورو "وسيعود في وقت قريب اقوى من الدولار الاميركي... صحيح انه طفل، لكنه طفل قوي". وهكذا كانت الحال في تصريح لرئيس البوندسبنك الالماني وعضو المصرف المركزي الاوروبي ارنست ولتكه وفيه ان "سعر صرف اليورو لا يعكس الاساسيات الاقتصادية لدول منطقة اليورو". لا جدال في ان قوة الاقتصاد، واداءه، كما هي الحال نسبياً في اقتصادات اوروبا في الوقت الحاضر، هما العاملان الاكثر تثقيلاً في معادلة سعر صرف العملة. بيد ان رجل البوندسبنك القوي كان يقصد في المقام الاول اقتصاد المانيا. وربما تكمن هنا في الذات الاجوبة المكتومة عن اسباب تراجع سعر صرف "اليورو". فسعر صرف اي عملة، هو مرآة لاقتصادها، بيد ان معادلة سعر صرف "اليورو" كعملة واحدة، تتكئ على اقتصادات احد عشر، متباينة الاداء وتعمل في ظروف يختلف واحدها عن الآخر، مسألة اخرى، وان كانت تلك الاقتصادات تنتهج فلسفة اقتصادية واحدة ونظماً اقتصادية متشابهة. اقتصادات متباينة الاداء فالمصرف المركزي الاوروبي، الذي اوكلت اليه معاهدة ماستريخت الثانية السياسة النقدية الاوروبية، يواجه هو الآخر في سياق سياسته اداء اقتصادياً متبايناً في احدى عشرة دولة في منطقة "اليورو"، وبالتالي فان تبنيه سياسة ما، لا بد وان يراعي شروط النمو الاقتصادي في تلك البلدان، وكبح التضخم وخلق فرص عمل جديدة، وهي اهداف رئيسة يجب ان تأخذها المصارف المركزية في الاعتبار، من دون ان تثير حفيظة اي من الدول الاعضاء. ولا شك في ان معدلات الفوائد الرئيسة وحجم السيولة في الاسواق، هي من اهم العناصر المكونة للسياسة النقدية، اللصيقة مباشرة بالاهداف المشار اليها. لهذه الاسباب، تأخّر المصرف المركزي الاوروبي، وعلى رغم التراجع الكبير في سعر صرف "اليورو"، في زيادة الفائدة الاساس على "اليورو" من 75،3 في المئة، خشية تأثير الزيادة سلباً على النمو الاقتصادي لدول منطقة "اليورو"، في حين ان مثل هذه الزيادة كان لا بد منها بالضرورة في حال بروز ضغوط تضخمية في المنطقة. وهذه المسألة في الذات، كانت من بين اهم عوامل الضغوط على "اليورو" لاسيما في مقابل الدولار الاميركي الذي بات هامش الفائدة لمصلحته في حدود ثلاث نقاط، بعد ان زاد مجلس الاحتياط الفيديرالي الاميركي الاربعاء الماضي 24/5/2000 سعر الفائدة على الاموال الاتحادية بواقع نصف نقطة مئوية إلى 5،6 في المئة، وعلى سعر الحسم بواقع مماثل إلى 6 في المئة. والضغط الذي تمثله هذه الفجوة في الفوائد لمصلحة الدولار على "اليورو" لا يمكن ان تردم الا بخطوة مماثلة وجد المصرف المركزي الاوروبي نفسه امامها عاجلا ام آجلا، خصوصاً وان عناصر القوة الاقتصادية التي يستند اليها الدولار هي امتن منها من عناصر "اليورو" في ما يتعلق باقتصاد دول منطقته مقارنة بالاقتصاد الاميركي. الصراع الخفي لذلك، فان دور المصرف المركزي الاوروبي في السيطرة على النوازع الفردية والاقتصادية لدول اليورو: فرنسا، ايطاليا، هولندا، بلجيكا، اسبانيا، البرتغال، النمسا، فنلندا، ايرلندا ولوكسمبورغ من خلال سياسة نقدية واحدة وفاعلة، مسألة قد تحتاج إلى وقت، يتجاوز الروزنامة المعدة لاعتماد "اليورو" عملة قانونية وحيدة لكل اشكال الدفع والتبادل. والادخال والاستثمار في تموز يوليو 2002 - كما سبقت الاشارة - وكل ذلك من دون ان نتجاهل المنافسة الاقتصادية بين دول العملة الواحدة، وهي منافسة يسهل فهمها ليس استناداً إلى الفلسفة المشتركة لاقتصاد السوق، بل لطموحات ودوافع سياسية وقومية وتاريخية لا تلغيها العملة الواحدة وفي فترة زمنية محددة. من هنا يمكن تفسير الصراع الخفي بين المصرف المركزي الاوروبي والمصارف المركزية الوطنية في دول "اليورو"، اذ ما تزال الاخيرة هي التي تتحكم كلياً بسياساتها وحاجات نموها، وضرورات جبه البطالة والتضخم، على النحو الذي يحد من فاعلية قرارات المصرف المركزي الاوروبي، ومن باب اولى من اصدار القرارات الملائمة دائماً، ما دام اصحاب القرار في مجلس المصرف هم انفسهم محافظو المصارف المركزية الاوروبية. خلافاً لبديهيات السوق ليس تراجع سعر صرف العملة مشكلة على الدوام. فاحياناً يستهدف التراجع لاسباب اقتصادية، انما الوضع خلافاً عليه كما هي الحال في "اليورو" الذي يتعرض لضغوط شبه مستمرة منذ اكثر من سنة. ويذكر ان "اليورو" استمر في السير خلافاً لبديهيات السوق المتعارف عليها. اذ انه لم يتمكن من الصمود امام الدولار الاميركي حين كان الاخير يتراجع باستمرار على الين الياباني لاسيما في الفترة التي انتهت في شباط فبراير الماضي. الوضع نفسه واجهه "اليورو" على الجنيه الاسترليني الذي بقي مع الكورون الدانماركي، والكورون السويدي، والبيزيتا اليونانية خارج العملة الموحدة. اذ ان "اليورو" استمر ضعيفاً جداً على الجنيه الاسترليني على رغم تراجع الاخير في خلال ايار الماضي إلى المستوى الادنى له على الدولار الاميركي في اربع سنوات 4932،1. وجرت العادة ان تفيد العملات الضعيفة من فرص تراجع سعر صرف الدولار الاميركي. ومن العبث البحث عن اسباب ذلك خارج المعطيات الاقتصادية المتباينة لدول هذه العملة، على رغم الاداء الجيد لمعظم دول منطقة "اليورو" في 1999. انما ذلك الاداء لم يستجب كلياً إلى ما سمي "معايير التوافق" الخمسة للاتحاد النقدي الاوروبي التي نصت عليها معاهدة ماستريخت الثانية، ومؤداها وجوب عدم زيادة معدلات التضخم خلال سنة عن 5،1 في المئة فوق متوسط معدل التضخم لدى الدول الاعضاء الثلاث الافضل اداء، وعدم زيادة اسعار الفائدة الطويلة الاجل خلال سنة عن 2 في المئة فوق متوسط معدلاتها لدى الدول الاعضاء الثلاث الافضل اداء لناحية استقرار الاسعار، وضبط عجز الموازنة السنوي في حدود 3 في المئة إلى الناتج المحلي. واخيراً ينبغي ان تبقى عملات الدول الاعضاء في المرحلة الانتقالية ضمن حدود التقلبات التي تتيحها آلية سعر الصرف في النظام النقدي الاوروبي. هل وفت دول "اليورو" المعايير تلك؟ المؤكد ان عدداً قليلاً من تلك الدول قد تمكن من ذلك. الواقع... والطموح التناقضات البنيوية كثيرة في "اليورو" كعملة واحدة لدول عدة. هنا يجدر ان يكون البحث عن الاسباب واستجابة معايير العملة الواحدة وشروطها. ما يمكن تأكيده، ان ليس كل شيء يسير في الاتجاه المصمم لبلوغ عملة اوروبية واحدة في سنة 2002، وقد يظهر ذلك إلى العلن في وقت قريب ولن تكون المملكة المتحدة يقيناً منزعجة من ذلك. اما تحقيق الطموح الاوروبي بعملة دولية منافسة للدولار الاميركي على مستوى التجارة والمدفوعات والتسويات وخلافها فأمر مشكوك فيه، في المدى المنظور على الاقل. * كاتب لبناني