نائب أمير تبوك يطلق حملة نثر البذور في مراعي المنطقة    منتدى المدينة للاستثمار.. يراهن على المشروعات الكبرى    انطلاق منافسات سباقات الخيل في ميدان الفروسية بالدمام الجمعة المقبل    عبد العزيز بن سعد يشهد الحفل السنوي لجمعية الأطفال ذوي الإعاقة بحائل 2024    المملكة تُطلق الحوافز المعيارية لتعزيز الصناعة واستقطاب الاستثمارات    مدرب البحرين مازحاً: تمنياتي للعراق التوفيق في كأس العالم وليس غداً    سفير المملكة لدى أوكرانيا يقدّم أوراق اعتماده للرئيس فولوديمير زيلينسكي    خطة تقسيم غزة تعود إلى الواجهة    225 مليون مستفيد بجمعية هدية الحاج والمعتمر    مسفر بن شيخة المحاميد في ذمة الله    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    فرصة لهطول الأمطار على الرياض القصيم الحدود الشمالية والشرقية    من رواد الشعر الشعبي في جازان.. عبدالله السلامي    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    "الوعلان للتجارة" تحتفل بإطلاق "لوتس إمييا" 2025 كهربائية بقدرات فائقة        "البروتون" ينقذ أدمغة الأطفال.. دقة تستهدف الورم فقط    الترفيه تعلن عن النزالات الكبرى في فعالية UFC ضمن «موسم الرياض»    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    قبل عطلات رأس السنة.. أسعار الحديد ترتفع    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    محمد بن سلمان... القائد الملهم    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    لتعزيز الروابط النيابية وتوعية الجمهور.. تدشين الموقع الالكتروني لجمعية النواب العموم العرب    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشكلة جنوب السودان ودور النخبة المهووسة بالسلطة شمالاً وجنوباً
نشر في الحياة يوم 23 - 03 - 1998

منذ ان اندلع التمرد المشهور في 1955، في حامية توريت في جنوب السودان، قبل استقلال البلاد بقليل، ذهب ضحية لهذه الحرب ما يقارب 1.5 مليون قتيل من الجنوب والشمال. وتشرد في مختلف الأصقاع ما يقارب 2.5 مليون شخص. وما زالت هذه الثمار المرة تؤتي أكلها شهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، وما تزال انهار الدماء هادرة في مسارها الى مدى لا يعلمه الا الله وحده. اذا قال قائل بأن كل هذا لعبت فيه الصدفة المحضة والغفلة، كل هذا الدور المدمر الذي أقعد دولة فتية وليدة تكمن في احشائها كل عناصر المنعة والقوة والرخاء، فربما اتهمه الناس بالجنون، لكن الحقائق وحدها، لا تقول بكل أسف بغير هذا.
طلبت الخرطوم - المركز من قائد حامية الاستوائية عشية الاستقلال ان تشترك الكتيبة التابعة لفيلق الاستوائية المرابطة في توريت في العرض العسكري الخاص بأعياد الاستقلال في الخرطوم مثل غيرها من الوحدات العسكرية من قوة دفاع السودان الجيش حالياً.
كان من المفترض ان تذهب القوة من دون سلاح، على ان يتم تسليح أفرادها في حامية الخرطوم. وقد اتخذ هذا القرار نتيجة الاشاعات، وخلق حالاً من الشك والريبة وسط أفراد الفيلق الاستوائي، لانعدام الثقة الذي غذته وأذكت ناره البعثات والمدارس التبشيرية منذ اعلان "قانون المناطق المقفولة" في العشرينات. الذي حرم الشماليين من دخول الجنوب الا باذن مسبق من السلطات الاستعمارية البريطانية.
حادث صغير فردي لاحتكاك مباشر بين ضابط الحامية صلاح عبدالماجد شمالي وسائق سيارته الجنوبي أدى الى ان يطلق الضابط عياراً نارياً أصاب سائقه الجنوبي وأدى الى هجوم باقي أفراد الحامية على مستودع السلاح، وحدثت المذبحة التي أودت بحياة كل الشماليين الموجودين هناك. وهكذا اندلع تمرد توريت الذي ما زالت تداعياته وارتداداته تترى بمختلف الصور والأشكال الى يومنا هذا.
بعد الاستقلال شهدت أوضاع الجنوب هدوءاً نسبياً بعد ان حاولت الحكومة الوطنية تجاوز آثار تمرد الفيلق الاستعراضي في توريت وتطويق تداعياته والجرح النفسي العميق الذي خلفه بين أبناء الوطن الواحد حتى عام 1963، عدا بعض الاحتكاكات الصغيرة التي لا تذكر.
ولأسباب لا تزال خفية، كان السيد علي بلدو - وهو من أبكار الاداريين السودانيين مديراً في المديريات الجنوبية خلال السنين الأخيرة لحكم الفريق ابراهيم عبود، بدأ السيد بلدو حملة اعتقالات منظمة لنواب البرلمان السوداني السابق من الاقليم الجنوبي، بعد ان حل الفريق عبود هذا البرلمان اثر نجاح انقلابه في 17 تشرين الثاني نوفمبر 1958.
ودفعت أحداث الاعتقالات غير المعروفة الأسباب بالأب ساتلينو، والسيد جوزيف أودوهو الى الهروب الى دول الجوار جنوباً. وكلاهما من منطقة الاستوائية وينتميان الى قبيلة اللاتوكا.
وفي كمبالا التي لجأ اليها أدوهو، بدأ الثنائي الاستوائي حملة اعلامية مكثفة تطالب بالفيديرالية للجنوب. ولحق بهما وليام دينق من قبيل الدينكا أكبر القبائل السودانية، نائباً لمفتش المركز في منطقة شرق الاستوائية من كمبالا خوفاً من ان تحرز حركتهما نجاحاً يضع الجنوب بكامل هيئته في يد الأقلية الاستوائية على حساب النيليين الدينكا والنوير والشلك.
كان اللواء جوزيف لاقو، نائب رئيس الجمهورية خلال عهد الرئيس السابق جعفر نميري الذي توصل الى اتفاقية اديس ابابا للسلام 1972، وأعطت السودان عقداً كاملاً من الاستقرار النسبي، في ذلك الوقت ضابطاً برتبة نقيب في الجيش السوداني، يقضي اجازته السنوية في بلدته الوادعة، يخولي، على الحدود السودانية - اليوغندية في أقصى الجنوب، وينتمي لافو الى قبيلة الآمادي الصغيرة، وهي من القبائل الاستوائية. اتصل به الأب ساتيلينو وأودوهو وطلبا منه الالتحاق بهما في يوغندا ليشرف على الجانب العسكري للحركة الوليدة ضد نظام الخرطوم. لم يتردد الضابط الصغير وقتها كثيراً خصوصاً بعدما علم ان الأب ساتيلينو يحظى بدعم مجلس الكنائس العالمي، تمويلاً وتسليحاً. ولم تمض بضعة أشهر حتى أعلنت "حركة الأنيانيا" أولى عملياتها العسكرية في غرب الاستوائية ضد القوات الحكومية في 19 حزيران يونيو 1963. واستمرت في حرب عصابات منهكة كانت أحد أسباب انهيار نظام الفريق عبود في الخرطوم في 21 تشرين الأول اكتوبر 1964.
بعد انهيار نظام عبود وعودة الديموقراطية النيابية، واصلت حركة "انيانيا" حربها ضد النظام الجديد، بل سعت الى تقنين الجانب السياسي منها باجراء انتخابات وسط اللاجئين والنازحين من آثار الحرب بدعم وتمويل من مجلس الكنائس العالمي، وانضم اليها كثير من المرتزقة البيض الذين كانوا سبباً في الماضي القريب في تدمير نظام القائد الكونغولي الشهير باتريس لوممبا، ومنهم المرتزق الألماني شتاينر.
وترك أقرى جارين الاستوائي المنشأ والانتماء الحكم الديموقراطي في الخرطوم والتحق بالمتمردين في يوغندا، وبدعم من جوزيف لاقو اختير رئيساً جديداً للحركة. مضيفاً بعداً استوائياً ومذهبياً بسيطرة الكاثوليك على مقاليد الأمور في حركة انيانيا.
لم يعجب ذلك وليام دينق ابن قبيلة الدينكا النيلية، وهو الانجليكاني، ولاشارات ونداءات كثيرة تلقاها من أفراد قبيلته، قرر التعاون مع حكومة الخرطوم، فعاد الى السودان وأسس في الداخل "حزب الاتحاد الوطني الافريقي" سانو وخاض انتخابات العام 1965، وانتخب عضواً في البرلمان الجمعية التأسيسية اثر سقوط نظام الفريق عبود.
كان حزب سانو أسسه في الخارج الأب ستالينو وأودوهو ووليام دينق. لكن أقري جارين كان أول رئيس له في الخارج وهو حزب تأسس على أسس حركات التحرر الافريقية التي ظللت الساحة في النصف الأول من الستينات كحزب "زانو" في زيمبابوي، و"كانو" في كينيا و"تانو" في تنزانيا.
بعد عودة وليام دينق وحلفه مع السيد الصادق المهدي في الداخل، غير اقري جارين اسم الحركة من "سانو" الى "سالف" SALF، أي "الجبهة السودانية الافريقية للتحرر". ولأسباب مذهبية اخرى انفصل الأب ساتيلينو وأودوهو من الحركة وكونوا "آلف" ALF أي جبهة التحرر الافريقية، لكنهما بعد مدة توحدا تحت قيادة أودوهو، وعين اقري جارين نائباً للرئيس وتخطيا في التعيين الجديد القائد الميداني للأنيانيا جوزيف لاقو، الذي لم يهتم للأمر كثيراً ووسع نطاق عملياته في شرق وغرب الاستوائية بعد شهر من رئاسة أودوهو للجانب السياسي للحركة فصل نائبه اقري جارين ودار بينهما قتال ضار صيف 1966. انتهز الأب ستالينو فرصة القتال بين الأصدقاء الألداء ورأى ان الأمر على أرض الواقع يميل الى صالح القائد العسكري جوزيف لاقو، فانضم اليه وأتحد معه وأهملا معاً أدوهو الذي لم يجد بداً من الهروب الى كينيا.
أقامت الحكومة السودانية حلفاً تكتيكياً موقتاً مع نظام ملتون اوبوتي في يوغندا لمحاصرة الحركة في الاستوائية، قتل على أثره الأب ستالينو في نقطة حدودية يوغندية على يد قوات أوبوتي في 1967. وقتل في اقليم بحر الغزال رداً على ذلك وليام دينق حليف الحكومة الذي لاتزال قضية موته لغزاً حتى الآن.
عزز موت القادة الكبار والصراع المرير بينهم قبضة جوزيف لاقو على الأرض، فالتحق به غريمه اقري جارين الذي أعلن حكومة موقتة في الجنوب باسم "حكومة جنوب السودان الموقتة" وعند اعلان هذه الحكومة ترك أحد قادة الدينكا في منطقة البحيرات موقعه الوزاري في الشمال وهو غوردون مورتات ووصل الى كمبالا واتحد مع جارين. أثار خروج مورتات، الذي ينتمي الى الدينكا ريبة جارين وشكوكه، واعتقد ان الدينكا قرروا الاستيلاء على الحركة وتصفيته، فدخل بعد شهرين في نزاع سياسي وقتال مرير مع حليفه الجديد. خرج مورتات على أثره من حكومة جارين الموقتة وأعلن حكومة أخرى سماها "حكومة النيل الموقتة" وعين اللواء تافينق قائداً لجناحه العسكري برتبة جنرال في 1967.
ولم يمض وقت طويل حتى اندلع القتال في الاستوائية بين الدينكا الذي يقودهم مورتات وبين الاستوائيين بقيادة جارين ولافو الذي كان يؤيد جارين سراً وان التزم الحياد علناً. وعلى الاثر رجع قائد قوات مورتات الى لاقو الذي انزل رتبته الى مقدم وتشتت قوات مورتات لعوامل متعلقة بالمنطقة التي دار فيها القتال غرب الاستوائية. وبحلول 1969، صار لاقو قائد الأنانيا سيداً على الجنوب الاستوائي - مع بعض الجيوب الصغيرة في منطقة البحيرات في اقليم بحر الغزال وأعالي النيل.
ونجح لاقو في فرض سيطرته لأسباب، أهمها انه كان ينتمي الى قبيلة صغيرة الأمادي لا تثير الخوف. ولأنه انتهج نهجاً قومياً في حركته اذ لم يقرب أبناء قبيلته حتى لا يثير حساسية القبائل الكبيرة، ومكنه من ذلك معرفته التامة بقبائل الاستوائية.
وفي تموز يوليو 1971 نجح الانقلاب المضاد الذي قاده بعض الضباط الموالين لجعفر نميري بعد ان أطاح به زميله الرائد هاشم العطا لمدة ثلاثة أيام في انقلاب شيوعي دموي. عاد نميري الى السلطة وضرب الحزب الشيوعي وأعدم قادته السياسيين والعسكريين. وبدأ النميري الذي جاء الى السلطة على أكتاف الشيوعيين والقوميين العرب، في الاتجاه نحو الغرب.
ودفع انفراج الجنرال جوزيف لاقو بالسيطرة على مقاليد حركة التمرد في الجنوب وظهوره كقيادة لا تواجه أي تحد ملحوظ أو محتمل، وتحول نظام النميري من توجهاته نحو الغرب، بمجلس الكنائس العالمي - راعي حركة التحرر الجنوبية - وبعض المصالح الغربية التي دعمت التمرد سراً بالمال والمرتزقة البيض، ووكيل كل هذه المصالح في القرن الافريقي الراحل هيلاسيلاسي، الى التفكير في ايجاد حلف بين لاقو في الجنوب ونميري في الشمال.
بدأت اتصالات سرية في أديس أبابا برعاية الامبراطور هيلاسلاسي ومجلس الكنائس العالمي بين اللواء محمد الباقر أحمد نائب رئيس الجمهورية ولاقو وطاقمه، اسفرت عن توقيع اتفاقية اديس أبابا في 1972، عاد على أثرها لاقو الى البلاد نائباً لرئيس الجمهورية. وبدأ عقد حقيقي من السلام في السودان تدفقت على أثره المعونات والاستثمارات الغربية التي وصلت الى 10 بلايين دولار مطلع الثمانينات.
في هذه الفترة 1972 - 1982 أظهر لاقو مقدرة فائقة في عقد التحالفات والتكتيكات المرحلية بصورة جعلته يهزم زعيم الدينكا القاضي الوقور أبيل الير مرتين في انتخابات حرة نزيهة لزعامة الجنوب ومجلس الحكم الاقليمي في الجنوب، وهو ابن القبيلة الصغيرة الاستوائية التي لا ذكر لها حتى بين القبائل الاستوائية.
لم تشب هذه الفترة شائبة تذكر غير تمرد حامية "أكوبو" الحدودية، وجلها من أبناء قبيلة النوير العائدين من حركة التمرد الذين استوعبوا في الجيش الوطني اثر اتفاقية اديس أبابا.
خرج أفراد هذه الحامية بسلاحهم الى الحدود الاثيوبية وعسكروا داخلها ووجدوا الدعم والمؤازرة من النظام الاثيوبي. قام النظام السوداني بتسريح بعض السرايا في منطقة أعالي النيل بالقرب من الحدود الاثيوبية، وجلهم من أبناء قبيلتي الشلك والنوير، في خطوة احترازية، خوفاً من القلاقل في أعالي النيل، وكانت خطوة لها ما بعدها لاحقاً.
ودفع الهدوء النسبي وحركة الاعمار والتنمية التي شهدتها البلاد في النصف الثاني من السبعينات بأبناء الجنوب للتدفق نحو الخرطوم بحثاً عن العمل والسكن. ولما كانت العاصمة نفسها تفتقر الى البنى التحتية والتخطيط السليم، لم تتحمل نزوح مليون من أبناء الجنوب اليها في أقل من 5 سنوات، وتوسعت أحياء حزام الفقر الذي يحيط بالعاصمة.
في 1981 رأى محافظ الخرطوم السابق مهدي مصطفى الهادي خطراً أمنياً في هذا النزوح والسكن العشوائي غير المنظم وبدأ في حملات شرسة ومنظمة لاخلاء العاصمة من أبناء الجنوب من دون ايجاد بديل سكني. كان ضمن هؤلاء بعض العسكريين المسرحين اثر حادثة اكوبو، ولما رأوا القوات المسلحة لم تحتمل وجودهم فيها، ولم تحتمل الدولة وجودهم في العاصمة الوطنية لبلادهم قرروا الرجوع الى قتال الدولة، انضموا الى القوة التي كانت داخل الأراضي الأثيوبية. وأعلنوا تأسيس حركة "الانيانيا الثانية" بقيادة غوردون أشول عبدالله، والعقيد صمويل قايتوت قائد حادثة أكوبو.
بموجب اتفاقية 1972 أضحى الجنوب اقليماً واحداً. وعلى رغم ان السيطرة خلال عقد الهدوء النسبي الذي أعقب الاتفاقية كان للاقو، فأن حادثة أكوبو وسيطرة الدينكا على جل الوظائف السياسية والادارية والعسكرية في الجنوب دفعت به ان يقترح على نميري اعادة تقسيم الجنوب الى اقاليمه الثلاثة القديمة الاستوائية وأعالي النيل وبحر الغزال لأن بقية القبائل حتى النيلية منها الشلك والنوير اشتكوا من تسلط الدينكا واستئثارهم بالسلطة والثروة.
وافق نميري على اعادة التقسيم الاداري للجنوب وذلك بالرجوع للعمل بنظام المحافظات القديمة. الأمر الذي دفع بالمقدم كاربينو، من دينكا بحر الغزال، لاعلان تمرد كتيبته الرقم 105 في منطقة بور على قيادة الفرقة الأولى في جوبا، وشق طريقه عبر اقليم أعالي النيل الى اثيوبيا حيث يرابط زملاؤه ولحقت به الكتائب 106 و107 و104، والعقيد جون قرنق الذي كان يقضي اجازته السنوية في مسقط رأسه بور.
في المعسكر أعيد، تشكيل الحركة كلها. وولدت "الحركة الشعبية لتحرير السودان" في 16 أيار مايو 1983 برئاسة أكواد اتيم واختير قرنق قائداً للجيش الشعبي لتحرير السودان. وبعد فترة قصيرة اندلع القتال بين الحلفاء داخل المعسكر، فقتل أكواد اتيم دينكا بحر الغزال منطقة قوقريال، واختلف قرنق مع صمويل قايتوت وزميله عبدالله أشول، مؤسسا الأنيانيا الثانية فرجعا الى السودان ونسقا عملهما مع الجيش الحكومي ضد حركة قرنق الجديدة وأصبحت تحمل اسماً جديداً داخل السودان في النصف الثاني من الثمانينات هو "القوات الصديقة"، اذ انها حاربت قرنق جنباً الى جنب القوات الحكومية.
وأطاحت انتفاضة شعبية في 6 نيسان ابريل 1985 حكم الرئيس نميري وبدأ العهد الديموقراطي الثالث في السودان، لكن العقيد قرنق الذي حارب نميري لم يعد الى السودان ضمن من عادوا، وصبغ حركته بمسحة ماركسية متناقضة مع التوجه الليبيرالي الجديد للدولة التي تلت نميري، وعمل قائد تمرد حامية بوير الأول كاربينو كنائب لقرنق حتى 1987، ثم اعتقله قرنق في أديس أبابا بعد أحداث احتلال الكرمك في جنوب النيل الأزرق، حيث كان قائداً لهذا القطاع العسكري وسجنه في الاستوائية حتى 1994.
وكان الدكتور لام أكول استاذاً في جامعة الخرطوم، وهو من قبيلة الشلك فآثر الانضمام الى قرنق ليجد ان زميله استاذ الهندسة الدكتور رياك مشار من قبيلة النوير سبقه اليها.
تاريخياً العقيد قرنق هو الذي جند الدكتور مشار للحركة، وكاربينو أشرف على تدريبه العسكري، هذه الحقيقة اضافة الى ان الدكتور مشار ينتمي الى قبيلة النوير كانت كافية لعدم قبول اللواء كاربينو العمل تحت قيادة تلميذه مشار الأصغر منه سناً والأقل منه خبرة ميدانية والأقل منه عصبية قبلية ونفوذاً، كما وضح ذلك في أحداث واو الأخيرة مطلع هذا العام.
الدكتور لام زميله مشار الشلك والنوير شعرا داخل الحركة بديكتاتورية قرنق، وبسيطرة دينكا بور على مقاليد الأمور بعد اعتقال وسجن كاربينو، ومقتل مارتن ماجير الذي كان عقل الحركة السياسي في اثيوبيا. فأعلنا الانفصال عن حركة قرنق وتأسيس تنظيم الناصر المناوئ لقرنق في أعالي النيل. وبعد فترة قصيرة انشق عن قرنق رئيس أركانه وليام نون بافي من النوير أيضاً، فاطلق كاربينو والعميد أروك طون أروك الذي راح ضحية حادث طائرة الناصر في 12 شباط فبراير 1998.
توجه اللواء كاربينو الى عصبته في بحر الغزال، وتوجه العميد أروك طون الى عصبته في بور لينازعا قرنق في منطقة بور نفسها.
وفي 1995 اغتيل وليام نون، وتشير أصابع الاتهام الى قرنق. وبدأت مفاوضات سرية في نيروبي توحدت على أثرها الفصائل الستة المنشقة عن قرنق بقيادة كاربينو ومشار وأروك طون ومارتن كيني ولام أكول، ووقعت اتفاقية "السلام من الداخل" مع الحكومة في 21 نيسان ابريل 1997. وبموجبها جرت انتخابات ولاة الأقاليم الجنوبية العشرة ومجلس التنسيق الأعلى للجنوب الذي يرأسه مشار.
لم يرض الأمر اللواء كاربينو كما أشرنا، فنسق معپغريمه السابق وعدوه اللدود العقيد قرنق الهجوم على واو. ومن كل ما ذكر يتضح لنا ان هنالك مشكلة حقيقية في الجنوب نفسه قبل ان تكون هنالك مشكلة بين الشمال والجنوب، اذ انه - عندما يشتد أوار الحرب بين الجنوبيين انفسهم، وبين القوات الحكومية التي يشكل الجنوبيون وأبناء جبال النوبة 80 في المئة منها ينزح أبناء الجنوب لطلب الأمن والأمان في الشمال، والدليل أعدادهم التي تفوق المليونين في كل من مدن الشمال حتى حلفا شمالاً وبورتسودان شرقاً. ومنهم أكثر من 1.5 مليون نسمة في محافظة الخرطوم. وعادة لا يلجأ الشخص لمكان يضطهد فيه أو لا يكون آمناً فيه على نفسه.
- صاحبت هذه الحرب اللعينة أخطاء ادارية وسياسية وسوء تقدير قاتل خلق من الصدف المحضة قضية يعاني السودان من آثارها حتى اليوم.
- تغذى هذه الحروب والانقسامات أصابع ومصالح ومطامح أجنبية وجدت مناخاً مريحاً وسط الطموحات الشخصية المخيولة للنخب السياسية والعسكرية الجنوبية.
- انفرط عقد الانضباط العسكري وبدأ في التلاشي في المؤسسة العسكرية السودانية، وتلاشت أسس قواعد الاشتباك بدءاً من عهد اللواء حسن بشير نصر نائب الفريق عبود الذي أعمل في الجنوب سياسة "الأرض المحروقة" لتصب الزيت على نار متقدة، وكان من الممكن تلافي هذا الأمر بقليل من الحكمة والبصيرة والحزم.
وأخيراً فإن مقررات أسمرا 1995، واتفاقية السلام 21/4/1997 لن تحل المشكلة، فدستور 1956 - المعدل للعام 1964، والمعدل للعام 1985 بل حتى دستور النميري 1973 تعتبر من أعظم الوثائق الضابطة للحريات والحقوق المدنية، ومهما اجتهدنا سنجد اننا سندور في اطارها. فهي جزء من الموروث السوداني وخلاصة فكره الوطني، على رغم ذلك ظلت المشكلة تكبر وتكبر، وترتدي كل يوم لباساً جديداً، وذريعة جديدة. والأساس بدائية فكر الدولة، وافتقارها للبنيات الأساسية وهشاشة التركيب الاجتماعي، وغياب قوة الردع المؤثرة واختزال دور المجتمع في دور دولة عاجزة تحكمها نخب مرتبكة مهووسة بالسلطة والجاه في الشمال والجنوب معاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.