"الشعارات الفارغة هي التي أوصلتنا إلى ما نحن إليه" يصرخ علي فرزات، متّهماً المثقّفين بالعجز عن الحوار، وفنّاني الكاريكاتير بأنّهم أصبحوا "مثل عمّال الدهان". والرسام السوري الذي عرف معرضه الأخير في "غاليري السيد" نجاحاً واسعاً، يتناول في هذا الحوار التحديات التي تواجهه، مدافعاً عن استعمال اللون، ومصرّاً على نبذ الحوارات من رسومه. كما يردّ على تهمة التهرّب من مواجهة الواقع، مراهناً على ذكاء المتلقّي القادر على التقاط الرموز، والذي يفهم في النهاية كلّ شيء! يتمتّع علي فرزات داخل بلاده وخارجها بمكانة فنيّة خاصة، خصوصاً أنّه يخوض في مجال تعبيري جماهيري من جهة، ويجلب لصاحبه المتاعب من جهة أخرى، في زمننا العربي الصعب، ألا وهو فن الكاريكاتير. معرضه الدمشقي الأخير تحول "مهرجاناً جماهيرياً"، بتعبير أحد المعلّقين، اذ غمر "غاليري السيد" طوال أيّام المعرض حشد بَشري مفاجئ من مختلف الأعمار والمستويات ومن الجنسين، جاء يبحث في لوحاته عن فسحة للتأمل والسخرية والانتقاد واعادة النظر بالمسلّمات... ولعلّ هذه "النجومية" ثمرة 27 عاماً من العطاء، صقل خلالها الفنّان وعيه وأسلوبه، وفرز جمهوره. علي فرزات حالة متفردة في الكاريكاتير العربي، تتميّز رسومه بطاقة تعبيريّة، ايمائيّة، وبخط رشىق ورموز تتوالد من التجربة اليوميّة بقدر توالدها من المخزون الثقافي والرمزي. كما تتميّز بهجاء لاذع لكل أشكال الظلم والطغيان والتسلّط واستغلال الانسان. "الوسط" زارت الفنّان الذي يلقّب في بلاده ب "فنان الكاريكاتير العالمي"، والذي اعتبرته جريدة "لوموند" الفرنسيّة بين أبرز رسامي الكاريكاتير. وكان هذا الحوار الذي نجحنا في اجرائه على رغم مقاومة فرزات للكلمات، وخوفه من الثرثرة، وميله للتكثيف والاختزال. أسلوبك قائم على نبذ العبارة المكتوبة، فهل هذا من أسباب وصولك إلى العالم؟ - حتماً. وإضافة إلى عدم استخدامي اللغة الأدبية للمخاطبة، تدور رسومي حول المواضيع الثابتة في حياة الانسان. انا لا أتجه إلى التفاصيل المحلية الصغيرة، بل إلى القضايا العامة التي تأخذ بعداً قيمياً. المحلية تقضي على القيمة الفنية للعمل. هناك من يرى في رسومك هروباً من مواجهة الواقع، عبر التركيز على العموميات... - لا يهمّني تبرير توجّهاتي واختياراتي. أنا أؤكد دائماً على أن أسلوبي الغرافيكي، الذهني، التحليلي، الانساني، البعيد عن التعليق، البعيد عن المباشرة، هو الذي أوصلني إلى العالمية، من دون أن أضحّي بالمحلية على الاطلاق. ليس تهرّباً من استحقاقات الواقع، أن نحاول الارتقاء بالهم اليومي كي يصبح قيمة عامة. ومن جهة أخرى، فان لوحتي تدعو المشاهد إلى المشاركة فيها، تحثّه على الاجتهاد في القراءة وتتيح له الاضافة إلى العمل. لا أفترض أن المتلقي خالي الذهن وساذج، فلماذا ألجأ إلى تلقينه؟ لماذا أتوجّه إليه بمفردات مباشرة تحجّم رؤيتي؟ هذا استخفاف بعقل المتلقي الذي يجب أن يساهم في صياغة العمل الفني. بعض فناني الكاريكاتير يتعاملون مع الكلمة كعنصر غرافيكي. - ربّما وفّق بعضهم في هذا الطرح. أما أنا فأعتقد بأن استخدام الكلام، بشكل عام، تعبير عن ضعف لدى الرسام في وسائله التعبيرية. اللغة من اختصاص الأدب، فهل رأيت أديباً يرسم بين السطر والسطر كي يعبر عن أفكاره؟ بين التحريض والتنفيس ينظر العرب إلى الكاريكاتير غالباً بصفته نكتة مصورة... - هناك اتجاهات عدة في هذا الفن، ولا أنكر أن الاتجاه الغالب هو الذي كرّس النكتة والتهريج. أنا اعتبره تناولاً سطحياً للأمور من خلال الضحك عليها. ثمة فارق جوهري بين الكاريكاتير الذي يهدف إلى التحريض من أجل التغيير، والكاريكاتير الذي يقوم بالتنفيس، بمعنى انه يسطّح المشكلة ويحوّلها مادة للضحك والتندّر والتسلية. هكذا يصبح المتلقّي في انتظار مشاكل ومآس أخرى كي يتسلّى ويضحك! هل تقصد أن أعمالك ذات جذر تشكيلي، فيما الرسوم التي تعتمد على الكلام ذات جذر أدبي؟ - إذا شئت. اللوحة عندي شكل ومضمون، عندما أبني لوحة اضع في اعتباري الجانب التشكيلي، المساحة، الخط، التكوين، المعالجة اللونية. اضافة إلى المضمون المطروح المتآلف مع هذه البنية. استخدامك للألوان حديث نسبياً، هل هو نتيجة حاجة فنية؟ - ما المانع من لجوء فنان الكاريكاتير إلى التعبير عن أفكاره باللون؟ أعدت تلوين بعض رسومك التي اشتهرت بالأبيض والأسود. - أشبه هذه العملية بأغنية قديمة أحبّ مبدعها ان يوزعها توزيعاً جديداً، كما حصل مثلاً مع عبدالوهاب. أليس هناك نوع من مواكبة للعصر، وتلبية لمتطلّبات الصحافة الحديثة مثلاً؟ - ليس الأمر كذلك، بقدر ما هو رغبة ملحة في داخلي. قبل أن ادخل تجربة اللون، كنت أخشى أن يفسر ذلك بشكل خاطئ. كيف؟ - خفت أن يُعطى هذا التحوّل معنىً معاكساً لما أريد. لذا بقيت أعالج اللون عامين، حتّى وصلت إلى قناعة بأنه ليس بهرجة أو ترفاً أو نزولاً عند رغبة الناشر. استطيع الآن القول بأن اللون عندي مدروس، بحيث يعطي الاتزان نفسه والقيمة نفسها اللذين عهدهما المتلقي في رسومي. واستعمال اللون ليس مجّانيّاً أو من الكماليّات، بل من أساس الفكرة. وقد تيقّنت من نجاحي في تحقيق ذلك، من خلال ردود فعل الجمهور خلال معرضي في "غاليري السيد". لا بدّّ من البحث وتحدي السائد اذا شئنا التجديد. الديموقراطية مسألة نسبية! عند الحديث عن الكاريكاتير يتبادر إلى الذهن موضوع الديموقراطية... - الديموقراطية مسألة نسبية في هذا العالم. اذا اعتبرنا أن الديموقراطية هي المساحة الممنوحة للفنان من قبل الأجهزة والمؤسسات، فالمسألة لا تدعو للتفاؤل. لأن السلطة تفصّل الديموقراطية حسب حاجتها، عملاً بالمثل القائل "على قد لحافك مد رجليك". وإذا زاد من القدمين شيء فإنها تقطعه بدلاً من ايجاد لحاف أوسع. رسام الكاريكاتير لا تكفيه هذه المساحة الممنوحة وتجده دائماً يبحث عن مساحته هو. هناك من يعتبر أنّك تنجح في التأقلم مع الأوضاع بلجوئك إلى التعميم! - يكفيني أن أطرح هماً انسانياً وقضايا عامة، فتحديد الأشخاص لا يعنيني. ما النفع من تحقيق أعمال تبقى في الدرج؟ أين العيب في معالجة المسائل بشكل يجد طريقه إلى النشر؟ الوصول إلى الناس مهم جداً بالنسبة إليّ، وثمة "شيفرة" بيني وبين المتلقي وأنا واثق من أنّّه يفهم كلّّ شيء. ألم يفعل ابن المقفّع الشيء ذاته في زمانه؟ أضف إلى ذلك أنّني لو تناولت شخصاً بعينه، فكأنني أعطيت شهادة حسن سلوك للآخرين! ومن ناحية الشكل، ما الذي دفعك إلى هذا الأسلوب؟ - أستخدمت العبارة في بداياتي، لكني وجدت أن في الأمر استهانة بذكاء المشاهد. سرعان ما اكتشفت أن الابداع عملية تكامل بين المبدع والمتلقي، فههو يساهم في صنع الكاريكاتير، وهذا يشعره بمتعة. الرمز مفتاح الوعي الانساني: الأمثال الشعبية كلها رموز، والرياضيات أيضاً. أليس الانسان بحد ذاته رمزاً. هل اللجوء إلى الرمز محاولة للخروج من مأزق الصحافة اليومية؟ - أحب أن أوضح لك بأنني لا أرسم للصحافة. أعمالي ارسمها لنفسي أولاً، ثم أنشرها في الصحافة. الحياة مليئة بالتداعيات وهي لا تنتهي عند فكرة واحدة. هناك زوايا عدة للحقيقة الواحدة والانسان لا يعيش الا ليكتشف هذه الزوايا. الاقنعة مثلاً تتردّّد في رسومك. - ربّما كانت محاولة للتعبير عن الزيف والنفاق في حياة المواطن العربي، والانسان في أي مكان. في احدى لوحاتي رسمت انساناً بلا ملامح، وعلى جدار منزله اقنعة متعددة يختار منها كلّ صباح القناع المناسب ليومه: طفل، شيطان، حمار، متدين، مواطن، برجوازي، لص... المسؤول والحمار ركّزت فترة طويلة على الكرسيّ أيضاً... - الكرسي سبب البلاء، خصوصاً عندنا نحن العرب. خلقت من الكرسي سلسلة من المواضيع التي تقوم على نوع من التداعي اللامتناهي، وتعكس حالة الانسان المتعلق بهذا العنصر المادي الذي يعكس ضعف النفس البشرية القادرة على كلّ الدناءات. كيف تتعامل مع المواقف الكاريكاتورية التي تصادفك في الحياة؟ - كل رسوماتي نتيجة المعايشة، وكثير من الحالات رسمتها كما شاهدتها في الواقع. رأيت دكتوراً في الأدب العربي يجاري مسؤولاً في أخطاء شعرية بديهية كي لا يخسر رعايته ورضاه، فرسمتُ حماراً وراء المكتب، وأمامه شخص يرتدي قناع حمار! تقول دائماً أنك تنتمي إلى الشارع. عندما تتعارض قناعتك مع الشارع ماذا تفعل؟ - أنا فعلاً لا أنتمي إلا إلى الشارع، لست عضواً في أي حزب أو مؤسسة أو حتى ناد رياضي. لكنّني أقول الحقيقة حتى ولو كانت على "قطع رقبتي". كما أرفض الانجراف وراء عواطفي، فهي تؤدي غالباً إلى كوارث، خصوصاً على الصعيد السياسي. من هنا أنني وجدت نفسي وحيداً خلال حرب الخليج، اذا كان هذا ما يحيل إليه سؤالك، لأنني كنت أرى حجم الكارثة التي تنتظرنا. حاربني معظم المثقّفين، واتُهمت بالتطبيل لجهات معيّنة. قيل إن رسومك خلال تلك الفترة استثمرت سياسياً. - بدلاً من التحاور نلجأ إلى الاتهامات والتصنيفات. ماذا أوصلنا إلى ما نحن عليه سوى الشعارات الفارغة؟ ما ينقص المثقفين العرب هو حوار مثمر وجدي في ما بينهم. كلّ منهم يغنّي على ليلاه، ثمّ يتكلّمون على التواصل مع الناس، ويعيّنون أنفسهم ناطقين باسم ضمير الأمّة. ويرجمون من لا يتفق معهم في الرأي بتهمة الخيانة. كل مواقفي أملتها عليّ قناعتي. وجاءني كثيرون بعد النتائج المدمّّرة لحرب الخليج معتذرين ومعترفين بخطئهم. لماذا لم يظهر جيل جديد على ساحة الكاريكاتير في سوريّة؟ - يعتبر بعضهم أن الأجواء العامة قد لا تكون مواتية لبروز مواهب جديدة. لكنّ المسألة مسألة جهود ومبادرات فرديّة وكفاح أيضاً. فنان الكاريكاتير صدامي، عنيف، أشبه بالعشبة البرية التي لا تتأقلم مع محيطها إلا بصعوبة. مكانتي لم استحقّها بسهولة، ولم أبرز بين ليلة وضحاها. عانيت كثيراً في سبيل الدفاع عن أفكاري ودفعت ضرائب كثيرة: طُردت من عملي، عوديت، هُددت... الفنّانون الجدد لا قدرة لديهم على التحمل، يستسلمون عند أول مواجهة. بأي معنى؟ - الرسام هو الذي ينتزع مساحة ديموقراطية مناسبة، ولا يمكنه أن ينتظر كي تمنح له. هناك هامش، والفنان هو الذي يتحايل عليه بطريقة تجعله ضيقاً أو واسعاً. رسامو الكاريكاتير كثر، لكنّ سؤالي كان عن غياب النوعيّّة. - إنّها مسألة مواقف أوّلاً، والذين يحملون عبء المواقف لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة. بعضهم أحبط والآخر تحوّل إلى اتجاه آخر، وهناك من دفع حياته ثمناً مثل ناجي العلي. فنانو الكاريكاتير أصبحوا مثل عمال الدهان، وتجدهم يسطون على أعمال الآخرين. ويصبح لديهم فيلا وسيارة... عندما ترى بصماتك على بعض رسوم الآخرين، ألا تشعر بشيء من الرضى كونك صرت في صلب المخزون الجماعي؟ - أشعر بنوع من الشفقة على هؤلاء الرسامين لأن خيالهم محدود. يسعدني أن يتكرّس أسلوبي وأن تنتشر رموزي، لكن لا يجوز أن يسطو فنّانو هذا الزمن على انتاج غيرهم. المفروض أن يبتكروا ويطلقوا لمخيّلتهم العنان