عادت القضية الشيشانية من جديد لتحتل مقدمة الاهتمامات في روسيا. ولم يكن وراء هذه العودة القوية استئناف المفاوضات التي أصبحت روتينية من دون ان تأتي بنتائج ملموسة، بل كان وراءها حدثان: الأول تعيين شامل باسايف على رأس الحكومة الشيشانية الجديدة، وهو الرجل الذي تعتبره روسيا "الارهابي الرقم واحد". وهناك أمر بالقبض عليه ومحاكمته. اما الحدث الثاني تصريح لوزير الداخلية الروسي اناطولي كوليكوف دعا فيه الى "ضرب قواعد الارهابيين داخل الأراضي الشيشانية". فقد أثار تعيين باسايف رئيساً للحكومة بلبلة في روسيا كشفت عن حجم الارتباك داخل القيادة الروسية. ويعتبر باسايف بالنسبة الى موسكو حتى لحظة تعيينه رئيساً للحكومة الشيشانية ارهابياً متهماً بالقيام بعمليات خلال الحرب الروسية الشيشانية ومطلوب القبض عليه ومحاكمته. وجاء تعيينه على رأس حكومة جمهوريته ليوقع المسؤولين الروس في حيرة كبيرة حول صيغة التعامل مع هذا الواقع الجديد، فالاستمرار في المطالبة برأس باسايف، وقد أصبح المسؤول الأول بعد الرئيس مسخادوف أمر لا يستسيغه أحد، ليس فقط لأنه يستحيل تحقيقه في الواقع، بل بكل بساطة لأن أي محاولة في ذلك الاتجاه ستفجر الوضع الهش أصلاً وتعيده الى أسوأ من بداياته. وفي المقابل فإن طي صفحة باسايف "الارهابي" وفتح صفحة باسايف المسؤول الحكومي أمر محرج ومهين للقيادة الروسية، إذ كيف يعقل ان تعجز قوة بحجم روسيا ليس فقط عن القاء القبض على الرجل الذي يقع اسمه في مقدمة "لائحة الارهابيين" من دون ان يكون مختبئاً، بل ولا تستطيع منعه من شغل مركز سياسي مهم في جمهورية تعتبر - دستورياً على الأقل - جزءاً من الاتحاد الروسي! وقد أفرز هذا الوضع موقفين متناقضين داخل القيادة الروسية، الأول يدعو الى التعامل مع الواقع كما هو، أي التعامل مع باسايف باعتباره رئيس الحكومة الشيشانية الجديد وليس الارهابي القديم، حتى لو تطلب ذلك اصدار عفو سياسي يحفظ لروسيا بعض ماء وجهها. وموقف نقيض يتشبث بملاحقته قانونياً. وأدى هذا التناقض الى مشهد مثير يعكس غياب وحدة الموقف داخل الحكومة الروسية، ففي الوقت الذي كان فيه النائب العام يوري سكوراتوف يؤكد ان التهم المنسوبة لباسايف ما زالت قائمة وبالتالي فإن المتابعة القضائية لم تسقط واعتقاله ما زال مطلوباً، كان سكرتير مجلس الأمن ايفان ريبكين يواصل المفاوضات مع الوفد الشيشاني يتقدمه طبعاً باسايف شخصياً. وعلى خلفية لا تخلو من خبث قارنت بعض وسائل الاعلام الروسية في محاولة يائسة لايجاد مخرج من هذا المأزق، بين باسايف والرئيس ياسر عرفات، فالأخير - حسب وسائل الاعلام تلك - كان في نظر الأميركيين والاسرائيليين "ارهابياً دولياً"، لكن ذلك لم يمنعهم من الجلوس معه الى طاولة المفاوضات عندما تغيرت الظروف وأصبح ذلك ضرورياً. اما في الجمهورية الشيشانية فيبدو كما لو ان هذه الضجة كلها لا تعنيهم، بل ويعتبرونها تدخلاً في شؤونهم الداخلية. والحقيقة ان تعيين باسايف بالذات رئيساً للحكومة لا يخلو من دلالة. فهو أولاً يعكس نوعاً من المصالحة والائتلاف بين الجناحين الرئيسيين داخل السلطة الشيشانية، الجناح الذي يمثله الرئيس اصلان مسخادوف ويدعو الى سياسة الخطوة خطوة وبناء الاستقلال بأقل خسارات ممكنة، ثم الجناح الذي يعتبر باسايف أحد وجوهه والذي يميل الى التشدد والمطالبة بالاستقلال اليوم قبل الغد والاستعداد من أجل ذلك لكل شيء حتى ولو كان حرباً جديدة ضد روسيا. وثانياً فإن تعيين باسايف شخصياً يعتبر تحدياً سافراً لروسيا ورسالة مفادها ان الشيشان هم الأسياد الفعليون فوق أراضيهم يقرّرون ما يشاؤون، سواء أحبت موسكو ام كرهت، وهم بذلك يكرّسون واقع استقلالهم السياسي. وعندما أعلن وزير الداخلية الروسي الجنرال اناطولي كوليكوف انه "لا بد من ضرب قواعد الارهابيين داخل الأراضي الشيشانية" ظهرت في الجمهورية المتمردة حالة استنفار استعداداً لمواجهة أية ضربات جوية مفاجئة. لكن الحكومة الروسية سارعت الى الاعلان عن عدم مسؤوليتها عن تصريح وزيرها واعتبرته رأياً شخصياً، في حين حاول بعضهم التخفيف من آثار التصريح، معتبراً اياه زلة لسان، بينما انبرى بعضهم للدفاع عن الوزير الروسي. اما الرئيس بوريس يلتسن فقد لزم الصمت في البداية وعندما التقى وزير الداخلية عاتبه بلطف من دون ان يعبّر عن اختلاف مبدئي معه. ولم تخف أطراف أخرى خصوصاً في وزارة القوميات ولجنة القضايا القومية في البرلمان، رأيها في ان تصريح كوليكوف استفزاز متعمد… والحقيقة ان التصريح لا يمكن اعتباره زلّة لسان ولا حتى وجهة نظر شخصية او بسبب الأجواء الحزينة التي قيل فيها ادلى الوزير بتصريحه اثناء لقائه ارامل ويتامى الحرب الشيشانية، بل هو صوت يُعبر في العمق عن محاولة ما يُسمى بپ"حزب الحرب" الاعلان مجدداً عن وجوده، انه اللوبي نفسه الذي ورط روسيا سنة 1994 في حرب ضد الشعب الشيشاني وراكم ثروات هائلة على حساب آلاف الضحايا من الروس والشيشان، يريد الآن من جديد ان يجهض المفاوضات المتواصلة منذ قرابة سنتين ويقلب الطاولة ليشعل حرباً ويزج بروسيا في مغامرة عسكرية جديدة يستفيد منها بارونات الحرب وتجار السلاح. وليس صدفة ان ذلك اللوبي نفسه الذي يقف مدافعاً عن رأى وزير الداخلية يقف وراء الضجة حول تعيين باسايف رئيساً للحكومة الشيشانية والدعوة لمقاطعة أي حوار معه. ولعل باسايف كان على حق عندما علق عن الجدل القائم على تعيينه بقوله: "إذا كانت موسكو تنسب اليّ تهماً فلدى القيادة الشيشانية ايضاً لائحة طويلة بأسماء المسؤولين الروس الذين يجب محاكمتهم بسبب جرائم الحرب الفظيعة التي اقترفوها ضد الشيشان بمن فيهم المدنيون العزّل". ولم يعد خافياً حتى داخل الأوساط الحكومية في الكرملين مدى البلبلة التي تتخبط فيها القيادة الروسية تجاه قضايا القوقاز عامة، إذ تتنازع السلطة آراء متضاربة، فالأمور تجري حسب اجتهادات كل شخص او فريق. وقد لخص نائب رئيس لجنة الدفاع في البرلمان الروسي الكسي ارباتوف هذا الوضع في تصريح لپ"الوسط" بقوله: "ليس لدى روسيا أي تصور سياسي لتسوية النزاع في شمال القوقاز، والرئيس يلتسن لا يعرف ما العمل ولا يريد تحمل المسؤولية بل يلقيها على الآخرين منتظراً نجاحهم او فشلهم ليقرر مصيرهم آنذاك". وإذا كان خيار بارونات الحرب الذين يدعون الى "تسوية النزاع" بالقوة والعنف لا يجد له صدى في الواقع فضلاً عن استحالة تحققه إلا إذا فكروا في القيام بمغامرة انتحارية، فقد برز في موسكو توجهان رئيسيان لمعالجة القضية الشيشانية: - التوجه القائم عبر المفاوضات ويهدف الى تمتيع الجمهورية الشيشانية بأقصى حد من الاستقلال الذاتي واعادة اعمارها على ان تظل في الاتحاد الفيديرالي الروسي، إلا ان هذا التوجه يصطدم بمشكلة العجز المادي في روسيا. فاعادة بناء الاقتصاد الشيشاني المنهار يحتاج حسب البرنامج الحكومي نفسه الى 16 ترليون روبل ومليار دولار، وهو المبلغ الذي لا وجود له في خزينة الدولة. ولتغطية جزء من هذا المبلغ تم توقيع اتفاقية لنقل نفط بحر قزوين عبر الأراضي الشيشانية. - توجه آخر يعتبر ان استقلال الجمهورية أصبح أمراً واقعاً وما على روسيا الآن سوى الاعتراف بهذا الواقع رسمياً، وبدل تبذير الأموال لمساعدتها خصوصاً ان جزءها الأكبر "يختفي" قبل ان يصل الى غرزوني يجب اقامة الحدود الرسمية الروسية - الشيشانية. وهناك من ذهب به الاحساس بالمأزق الروسي الى حد المطالبة بالاعتراف بالجمهورية الشيشانية كدولة مستقلة ثم استصدار قرار من الأممالمتحدة يقضي بفرض حصار اقتصادي عقابي ضدها كي ترضخ! ويصطدم هذا التوجه ايضاً بمشكلة جدية إذ ان الاعتراف باستقلال الشيشان يعتبر خرقاً لدستور الاتحاد الروسي في المادة 65 منه، كما ان انفصال الجمهورية الشيشانية سيقود عاجلاً ام آجلاً الى انفصال باقي جمهوريات شمال القوقاز وبالتالي "اندثار" الحدود الجنوبية لروسيا. ويبدو ان الاتجاه العام لسير عملية التسوية سيكون توفيقاً بين التوجهين، فمن جهة ستعزز الجمهورية الشيشانية مكتسباتها وتعمق انجازاتها الاستقلالية مستفيدة من المساعدات المادية الروسية لاعادة بناء اقتصادها، وبالموازاة مع ذلك فإنها تكون تخطو خطوات جديدة نحو الاستقلال التام الذي سيأتي كتحصيل حاصل