هذه السنة هي سنة "النمر" حسب التقويم الصيني، وللمصادفة تشهد هذه السنة تدهور صحة "نمور آسيا" واستعداد الصين للاستفادة من هذه الظروف لتحسين موقعها على الخارطة الاقليمية والعالمية. ويساعدها في ذلك شمولية الازمات العالمية وتدافع مأزق الصراع العراقي - الاميركي الى واجهة الاحداث، وحاجة اميركا الى دعم معنوي عالمي في صراعها مع الرئيس العراقي. فكيف يمكنها قطف الثمار؟ تعيش آسيا الجنوبية، غرباً وشرقاً، أزمة مالية لم تشهد مثلها دول العالم منذ الحرب العالمية الثانية، تهدد بتآكل كل ما حققته دول المنطقة من تقدم ونمو في السنوات الخمسين الماضية. ولا يمر يوم الا ويحمل تطورات الازمة وانتقالها من بلد الى آخر، حسب انخفاض مؤشرات بورصة بلد ما، او تقلبات نظام بلد آخر. وجاء التأزيم مع العراق لدفع هذه الاخبار الى المرتبة الثانية، من دون التخفيف من اهمية نتائجها على مستقبل العالم المالي، ومستقبل المنطقة بالذات. فالرئيس بيل كلينتون يجد متسعاً من الوقت، على رغم مشاكله الخاصة الداخلية، وانهماكه بتحضير حملته العسكرية على العراق، لاخذ هاتفه والاتصال بزعماء آسيا دعماً لمجهود المؤسات المالية العالمية، ولاسداء النصح لوقف التدهور المالي الذي يمكن ان يصل الى الغرب. ولكن السؤال الذي لم يسمعه احد وكأن هناك اتفاقاً على ابقائه خفياً هو: اين الصين من كل هذه التقلبات التي تحصل على "عتبتها"؟ كيف يمكن تجاهل هذا العملاق النامي في هذه الزوبعة الهائجة على كل المراكز المالية الآسيوية، والتي تشكل أول مصادر استثماراته الاجنبية؟ كيف يمكن للصين، التي ما فتئت تطالب باسماع صوتها في كل ما يخص آسيا والعالم في بعض الاحيان، ان تظل منكفئة منذ اندلعت الازمة وصندوق النقد الدولي يوزع المساعدات المشروطة في مناطق كانت تعتبر حديقتها الخلفية، وهي صامتة لا تعلق سياسياً على ما يحصل، وتكتفي بالمتابعة من بعيد؟ يلجأ بعضهم الى الحكم الصينية لتفسير هذا "التصرف السياسي"، فيقول: الصين تنتظر هدوء العاصفة للخروج وقطف الثمار التي رمتها الرياح. وبعضهم الآخر يفسر هذا "التصرف الاقتصادي" فيقول ان الصين هي المستفيد الاول من اضعاف اقتصاديات تلك الدول الدائرة في فلك حديقتها، والتي كانت قوة اقتصادها تشكل آخر دفاعاتها امام النفوذ الصيني المتصاعد. والبعض الآخر يفسر هذا "التصرف الطبيعي" بأن الصين "تهضم" هونغ كونغ، وليس من الحكمة الالتفات الى طريدة أخرى. والحقيقة ان كل هذه التفسيرات مجتمعة صحيحة، وهناك الكثير من الدوافع الاخرى التي تجعل الصين في وضع المراقب المتيقن لكل ما يحدث في جنوب آسيا وانعكاساته العالمية، وتحفّظ الصين وتراجعها عن خطوط المواجهة الامامية، هو اسلوبها الجديد لقطف ثمار موقعها الجديد كقطب عالمي. وعلى رغم ان العملاق الآسيوي يملك الكثير من الاوراق التي يستطيع لعبها للپ"كسب" الآني، فكافة الدلائل تشير الى انه فضل الاستثمار على المدى الطويل. ولهذا اسباب عدة، منها الاقتصادي ومنها السياسي، لكن جلها يصب في استراتيجية الزعماء الصينيين لكسب موقع في نادي الدول الكبرى. ففي المجال الاقتصادي سيطر التخوف على الذين رأوا في الصين الدومينو الاخير في لعبة التساقط التي بدأت في تايلاندا، وبدأوا بحساب قيمة الخسائر التي ستترتب على الاقتصاد العالمي نظراً الى ضخامة الاستثمارات الاجنبية في الصين منذ عشر سنوات. ففي حال وصول الازمة الى الصين الشعبية فان الخسائر ستتسبب، لا محالة، بأزمة عالمية عامة، بسبب اختلاف نوعية الاستثمارات الغربية فيها عن بقية دول المنطقة. فمعظم الاستثمارات في الصين من نوع الاستثمار غير المضمون او المشاريع المشتركة، التي تتهافت الشركات العالمية على توقيعها وفق شروط تشجيع الاستثمار الصينية التي تمنع الاستثمار الاجنبي المباشر الا في المناطق المخصصة والمناطق الحرة. واغلب هذه العقود يقضي في حال الخسارة ان تكون الخسائر مشتركة، فتكون النتيجة ان يخسر المستثمرون استثماراتهم… وتؤجل الصين مشاريعها. على عكس الاستثمارات الاجنبية في الدول الآسيوية الاخرى التي هي على شكل قروض لشركات واطراف مقيمة قد يكون بعضها اجنبي الجنسية، أو ذا جنسيات مشتركة او متعددة، لكن الخسائر تتحول الى خسائر "وطنية" وتدخل في باب مديونية الدولة مما يزيد من دينها العام كما حصل في تايلاندا وكوريا واندونيسيا، اضافة الى ان الصين تحتفظ باحتياط نقدي كبير نتيجة ارتفاع مستوى تصديرها في السنوات الاخيرة ما يمنع اي صندوق استثمار او مضارب من نوع جورج سورس او غيره، من المخاطرة والتلاعب بعملتها. وجاء الاحتياط النقدي لهونغ كونغ ليزيد من صلابة مقاومتها المالية واستعدادها "لكسر عنق المضاربين"، كما جاء على لسان احد المسؤولين. وهي اعلنت استعدادها للدفاع عن دولار هونغ كونغ في حال حصول مضاربات "قوية خارج لعبة السوق". وفي هذه العبارة تلخيص لموقف الصين الاقتصادي - السياسي من الازمة الآسيوية. فهي مستعدة للدفاع عن مقاطعتها الجديدة، وحماية اقتصادها الحر وازدهارها من المضاربات الهادفة الى معاقبة هونغ كونغ او الصين سياسياً، وفي هذا رد على المطالبين بحماية سياسية للازدهار "الاقتصادي الآسيوي". اما من حيث المبدأ، فإن الصين، بتركها السوق تأخذ مجراها وتحدد سعر دولار هونغ كونغ، وجهت اشارات قوية للدول الغربية، وفي مقدمها الولاياتالمتحدة، بأنها ستحترم لعبة العرض والطلب وسياسة الاقتصاد الحر، كنتيجة لتعهدها بترك هونغ كونغ داخل نظام متميز. وهذه الاشارات مهمة جداً في المرحلة الحالية التي تستعد فيها الصين للدخول الى منظمة التجارة العالمية بعد تراجع معارضة الولاياتالمتحدة لانضمامها الى المنظمة العالمية. فالصين تسعى للدخول الى هذه المنظمة منذ فترة طويلة لأسباب سياسية، اعترافاً بنجاحها في تطوير اقتصادها، ولأسباب اقتصادية حيث ان انتسابها سيفتح لها ابواب الحصول على القروض وادوات التمويل المتوافرة في الاسواق العالمية، اضافة الى ان وزنها الاقتصادي واسواقها الكبيرة ستفسح لها المجال لإعطاء رأيها وفي ما بعد موافقتها او عدم موافقتها على شروط المساعدات للدول الاخرى، وفي هذا اداة ضغط سياسية غير مباشرة تستفيد منها الدول الكبرى، وتود الصين مشاركتها في هذه الحظوة. ولم تكتف الصين بمراعاة الولاياتالمتحدة من حيث الرمز بل انها ساهمت بتخفيف حدة ردات فعل الدول الآسيوية الاخرى التي بدأت تتذمر من توجيهات صندوق النقد الدولي، ومن ضغوط الولاياتالمتحدة عليها لإجراء مراجعة كاملة لمشاريعها والحد من عجز موازناتها. وأمام تزايد هروب الرساميل الخاصة من تلك الدول بسبب الأزمة خصوصاً في اندونيسيا، قامت الصين بالعديد من الاتصالات مع الجالية الصينية الكبيرة المتواجدة بكثرة في هذه الدول والتي تشكل قوة اقتصادية يحسب لها حساب، تدعوها لدعم اجراءات التقشف وعدم تحويل اموالها الى الخارج. ومن المعروف ان هذه الجاليات تشكل حسب تعبير مدير مصرف ياباني في المنطقة "الطابور الخامس الاقتصادي ويد الصين الثالثة في المنطقة". ويمكن للصين الضغط على هذه الجاليات بسبب الارتباط العاطفي مع الوطن الأم، او عبر ضخامة الاستثمارات المالية لهذه الجالية في الصين. وقد كافأت الولاياتالمتحدةالصين على هذا "التعاون الرشيد" خلال الأيام الأولى للأزمة بأن اشادت التصريحات الاميركية بمواقف الصين المتعاونة والملتزمة "الأمن المالي للمنطقة". ودعت السلطات الاميركية المسؤولين في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الى ابقاء الصين على اطلاع دائم على تحركاتهم. ولكن هذا لم يمنع بعضهم، حتى داخل الادارة الاميركية، من التخوف من امكان عدم مقاومة المسؤولين الصينيين ضغوط بعض التوجهات الداخلية للاستفادة من الأزمة بهدف "اختزال" الخلل الحاصل في الاقتصاد الصيني "الأزمة الآسيوية". فالصين، على رغم عدم وصول الازمة اليها بشكل مباشر، تدل مؤشراتها الاقتصادية كلها الى غيوم في افق توجهها الاقتصادي. فبورصة شانغهاي سجلت تراجعاً بلغ 14 في المئة منذ مطلع العام الحالي، والنتائج المباشرة للأزمة الآسيوية كانت تراجعاً في الاستثمارات المباشرة التي سجلت ناتجاً سلبياً بلغ 33 في المئة بالمقارنة مع العام الماضي، ما ينعكس سلباً على توقعات النمو للعام الحالي، وعلى الحد الادنى لإيجاد فرص عمل جديدة لحوالى 30 مليون صيني سنوياً، وهو عدد فرص العمل المطلوب تأمينها لمنع تفاقم الازمات الاجتماعية. ويضاف الى هذا الوضع المصرفي السيئ في الداخل بسبب طريقة عمل المصارف الحكومية المبنية على اساس نظام شيوعي قديم في ظل اقتصاد نام ومتسارع. وتقدر الديون المعدومة في سوق استثمار البناء والعمارة فقط بحوالي 100 مليار دولار غير قابلة للتحصيل. كما ان احد اهم انعكاسات الازمة الآسيوية تراجع التصدير الذي يعد أهم مورد للنقد الاجنبي ولميزان المدفوعات في الصين، مما يمكن ان يسبب تراجعاً في احتياطها النقدي الذي هو اهم وسائل دفاعها عن اقتصادها ومحافظتها على الدور الذي ترغب في لعبه على الصعيدين الاقليمي والعالمي. وقد تخوف كثيرون من ان تقوم الصين بخفض قيمة عملتها "الرنمن بي" بحجة الابقاء على القوة التنافسية لصادراتها. وقد اقلق هذا التصور الادارة الاميركية كثيراً، وذكرت صحيفة "نيهون كيزاي" كبرى الصحف الاقتصادية اليابانية المعروفة بسعة اطلاعها، ان هذا التخوف كان سبباً لعقد جلسة عمل، جمعت حول الرئيس كلينتون اهم مستشاريه السياسيين والاقتصاديين، من وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت الى وزير الدفاع وليام كوهين الى وزير المال روبرت روبين اضافة الى ارسكين بوولز مستشاره للشؤون القومية، بُحث خلالها انعكاسات مثل هذه الخطوة على الأمن القومي الاميركي، لأن خفض قيمة العملة الصينية سيترك انعكاسات سيئة على الاقتصاد الاميركي وعلى سياسة الولاياتالمتحدة الآسيوية والعالمية، اضافة الى دورها في قيادة المنظمات المالية الدولية. والنتائج المترتبة على خفض الپ"يوان" الصينية وهو الاسم المتعارف عليه عالمياً خارج الصين للعملة الصينية التي تسمى رسمياً "رنمن بي" أي العملة الشعبية قد تقلب رأساً على عقب السياسة التي رسمت لوقف تدهور العملات الآسيوية، مع حتمية انتقال التدهور الى العالم الغربي، لأن الدول التي تدنت قيمة عملتها بسبب الازمة الآسيوية، وضعت برامج تقويم اقتصادها معتمدة على الوسائل الآتية: 1 - وصول مساعدات كثيفة قدمها البنك الدولي وصندوق النقد، وبعض الدول مثل الولاياتالمتحدةواليابان لدعم سداد الدين الخارجي. 2 - ارتباط المساعدات بتنفيذ برامج تقشف خفض العجز وحصر النفقات ذات أبعاد ونتائج اجتماعية مؤلمة في المراحل الأولى. 3 - بناء الخطط على اساس زيادة او المحافظة على الايرادات لتسديد الديون الآجلة، وإعادة تسديد القروض الدولية. وفي حال خفضت الصين قيمة عملتها، ستنهار خطط صندوق النقد الدولي، وتذهب المساعدات المالية هباءً وتزداد صعوبة تسديد الديون للمستثمرين، وتتفاعل الأمور الى درجة اعلان توقف سداد ديون بعض الدول أي افلاسها، الامر الذي يسبب نكسة عالمية ترتد على معظم المراكز المالية نظراً الى ترابط اقتصادات الدول. وتقدر ديون الدول الممكن ان يصيبها سيناريو الرعب هذا بأكثر من 350 مليار دولار. وفي حال وصول الازمة الى هذه الدرجة من الاحتقان، لا يعود امام اميركا سوى شراء العملات الآسيوية وديونها؟ بشكل كثيف لوقف تدهورها اندونيسيا - ماليزيا - الفيليبين - كوريا وطرح كميات هائلة من الدولارات في الاسواق، مما يعني خفض قيمة الدولار عالمياً مع ما يمكن ان يسبب هذا من زلزال لهيكلية الاقتصاد العالمي. حتى الآن يبدو ان الصين التي اعلنت على لسان اكثر من مسؤول فيها انها "لن تعيد النظر بقيمة عملتها لدعم صادراتها التي تأثرت بأزمة آسيا، قررت قطف الثمار الديبلوماسية للامكانات المتاحة لها، عوضاً عن اجراء عملية خلط اوراق، تعقبها ازمة دولية يمكن ان تصيبها وتهدد عملية انتقالها الى قوة اقتصادية. ولا يستبعد بعضهم ان تكون هناك "عملية مقايضة ضخمة وراء الكواليس" افتتحها تفهم الصين لاهتمامات الولاياتالمتحدة، فليس غريباً ان العاصمة الصينية تشهد منذ فترة قصيرة ازدحاماً للمسؤولين الاميركيين ليس اقلهم لورنس سومرز سكرتير الخزانة ووليام كوهين وزير الدفاع، ذلك ان كثيرين يتحدثون عن "شمولية" العملية المطروحة. وهي تتجاوز الازمة الآسيوية والدور "المهدئ" الذي لعبته الصين فيها، وتتطرق الى الامور والمصالح السياسية العليا لكلا الطرفين. فهناك ازمة العراق، والصين عضو دائم في مجلس الامن، ومن المعارضين لاستعمال القوة لحل الخلاف مع الرئيس العراقي لكنها على رغم تصريحاتها تعبر عن موقف مبدئي هو، في نظر المسؤولين الاميركيين، "قابل لليونة" والمقايضة. ويمكن ان يكتفي الاميركيون، الذين فقدوا الامل بتغيير موقف روسيا، ب "امتناع" في حال تم التصويت على قرار في مجلس الامن. ولكن ماذا يمكن ان يكون الثمن لهذا التحول في الموقف الصيني؟ في حال كانت هناك صفقة، يتوقع ان "يدفع الاميركيون الثمن الغالي"، فالصينيون معروفون بقوتهم في المفاوضات، خصوصاً حين يكون الفريق الثاني محتاجاً… واميركياً. فمن الممكن ان تحصل الصين على وعد بقبولها ضمن فترة زمنية محددة في منظمة التجارة الدولية. كذلك الى تأكيد ضمان التعاون في مجال الطاقة النووية تطبيقاً للوعود المعطاة للرئيس الصيني خلال زيارته لواشنطن، إضافة إلى تسهيلات في تصريف صادراتها إلى الولاياتالمتحدة ، من غير خفض قيمة عملتها، ومن غير حملة من الكونغرس تعارض زيادة حجم تجارتها مع الولاياتالمتحدة. أما من الناحية السياسية، فمن المؤكد ان الصين ستسعى للمطالبة بتخفيف حدة الانتقادات حول حقوق الانسان، او انتقاد سياستها في التيبت. كما ستسعد لاعتبارها "الحليف - الند الاول" للولايات المتحدة في منطقة آسيا، في حين ان اليابان تتخبط في أزمتها المالية والاقتصادية وفضائح رجال السياسة المالية. وروسيا منشغلة تلهث وراء حل ديبلوماسي مع العراق، لكن الصحيح ايضاً ان مصالح بكين مع العراق متواضعة، في حين ان ديون روسيا لبلاد الرافدين تزيد عن 16 مليار دولار، وان اقتصاد الصين على رغم نقاط ضعفه في تصاعد مستمر، بينما اقتصاد روسيا في بداية انحداره.