لم يتصور أحد أن مرحلة النمو العالي في اقتصادات النمور الآسيوية ستشهد نهاية قريبة. فكثير من دول المنطقة توقعت استمرار هذا النمو بنسبة تزيد على سبعة في المئة الى ما بعد ربع قرن. ومن بين هذه الدول ماليزيا التي خططت لمشاريع خيالية ذات تبعات مالية مرهقة. وكانت النتيجة أن ابتلعت المشاريع اليد العاملة في البلاد فارتفعت اجورها كثيراً، وبالتالي ارتفعت كلفة المشاريع الماليزية قياسا بمثيلاتها في الدول الأخرى المجاورة. ولتعوض النقص الحاصل في نوعية النمو الاقتصادي ووتيرته، شجعت الدولة على مضاعفة الرساميل الموظفة في المشاريع حتى بلغت نسبتها من اجمالي الناتج المحلي عام 1996 نحو 43 في المئة، وهي أعلى نسبة بين دول حوض المحيط الهادي. ومن هذه المشاريع المرهقة للبلاد البرجان العملاقان اللذان بنيا في جنوب العاصمة بقيمة ثمانية بلايين دولار. وهما عبارة عن مكاتب لشركة "بيتروناس" النفطية، اضافة الى سد باكون الذي يكلف أكثر من خمسة بلايين دولار، والذي قلل محللون كثيرون من جدواه الاقتصادية لجهة توليد الطاقة. ومع زيادة الاستثمارات في المشاريع العملاقة ارتفعت فاتورة البلاد من الواردات، وارتفع معها العجز في ميزان المدفوعات الماليزي. فيما أدت زيادة كلفة الأجور الى تقليص قدرة السلع الماليزية على المنافسة، خصوصاً في مقابل تدفق السلع الصينية الرخيصة. وفي ظل غياب الشفافية الضرورية التي تسمح للقطاعات بالاطلاع الاقتصادية على حقيقة الوضع الاقتصادي، استمر اقتراض الشركات على الوتيرة نفسها حتى أواخر العام الماضي، فبلغت نسبة الديون من الدخل القومي 170 في المئة، وهي أعلى نسبة بين الدول الآسيوية كافة. بعد تعويم العملات في دول مجاورة عدة جاء دور ماليزيا. لكن الحكومة الماليزية التي صعقت من المفاجآت السريعة، وتأثرت بأزمة الثقة التي انطلقت من تايلاند، لم تصدق ما يجري ووجهت اللوم الى المضاربين. وتولى رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد شخصيا حملة هجومية على المضاربين الدوليين الذين يصطادون في الماء العكر ويحرمون الدول الآسيوية من حقها في التقدم والرقي. وذهب في هجومه الى أبعد من ذلك، فتحدث عن المؤامرة على اقتصادات المنطقة عن سابق اصرار وترصد. والواقع أن هدف المضاربين الذين يستخدمون صناديق استثمار هائلة في أسواق القطع، هو تحيّن الفرص، والانقضاض على العملات المجروحة والاستفادة من ضعفها. وهذا لا يحدث في آسيا وحدها، ولا في دولة اسلامية وأخرى غير اسلامية، بل يحدث في جميع الأسواق، من أميركا اللاتينية الى جنوب أفريقيا وصولا الى كوريا واليابان. أما الفرق فهو في السياسة التي تتبعها المؤسسات الدولية في معالجة الأوضاع، وهذا يخضع بالدرجة الأولى لرضا الولاياتالمتحدة أو غضبها على الدول المعنية، لأن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لا يخرجان عن طاعة واشنطن أيا تكن الأسباب. المستثمر الأميركي جورج سوروس الذي اتهمه مهاتير محمد بأنه رأس الأفعى، هاجم عام 1992 الجنيه الاسترليني، وقال ان قيمته الحقيقية أقل بكثير من قيمته في السوق، وضارب عليه مستخدما البلايين التي يديرها، فضلا عن حصوله من المصارف على تسهيلات ائتمانية قصيرة الأجل. وكانت النتيجة أنه كسب نحو بليون دولار خلال أيام معدودة متحديا بذلك مصرف انكلترا المركزي، وتمكن بالفعل من قهره. وشكلت الحادثة منعطفا تاريخيا اعترفت المصارف المركزية بنتيجتها بأن المضاربين باتوا أقوى منها. واضطرت بعد ذلك لأن تأخذ المضاربين على حين غرة في سياساتها النقدية المؤثرة مباشرة في أسعار الفائدة والصرف. لكن سوروس لم ينجح في جميع مضارباته، ومني في مناسبات عدة بخسائر، بعضها بمئات ملايين الدولارات، إلا أن هذا موضوع آخر. طرح في الأزمة الآسيوية موضوع الاستثمارات الأجنبية في الأسواق وسلبياتها. وفيما وصف رئيس الوزراء الماليزي المساهمين الذين باعوا الأسهم في الأسواق الآسيوية وهجروها بأنهم يفعلون ذلك متآمرين على اقتصادات المنطقة، تبقى حقيقة واحدة مؤكدة، وهي أن المستثمرين يخسرون بالبيع الجماعي كما تخسر البلاد. ذلك أن الكثير منهم اشتروا أسهم الشركات الماليزية بنسب أعلى بكثير مما باعوها به. والمستثمرون ومعهم المصارف الأجنبية ضخوا استثمارات هائلة في المنطقة لا مصلحة لهم في أن يفقدوها. لكنهم يرغبون بكل تأكيد في أن تكون لهم سيطرة مباشرة عليها، وفي التعرف عن كثب على تطور الوضع في الشركات التي اشتروا اسهمها، أو أقرضوها أموالا لتخفف هوامش مخاطرها، وبالتالي يقبلون بهامش فائدة أو ربح أدنى، وان كان مضمونا. وصفة صندوق النقد وحض رئيس صندوق النقد الدولي ميشال كامديسو ماليزيا على الاسراع الى رفع الفائدة على الرينغيت العملة المحلية. وهي وصفة طالما استخدمها مع بقية الدول، وترمي الى انعاش الاهتمام بالمحافظة على العملة في الداخل بدل تحويلها الى عملات اجنبية مهاجرة، وكذلك الى جعل الفائدة عالية الى حد يثني المضاربين في سوقي الأسهم والعملات عن المخاطرة بقروض قصيرة الأجل. كما أن الفائدة العالية تمتص قسما من السيولة المتاحة، وتخفف من حدة الغلاء. لكن ماليزيا لم تنسق في البداية وراء وصفات المسؤول الأعلى في الصندوق الدولي. ويعود السبب الى أن رفع سعر الفائدة كثيرا يؤدي كما حدث في غير دولة الى ارهاق الشركات المثقلة بالديون، وافلاس عدد منها كلياً. ولا ينبغي ان ننسى أن عائدات الشركات في الأسواق المحلية هي بالعملات التي فقدت قسما كبيراً من قيمتها، فيما غالبية الديون الخارجية في آسيا متوجبة على القطاع الخاص، وليس العام. وهذا بدوره يؤدي الى ارتفاع البطالة والمحنة الاجتماعية الداخلية بدل تقديم الحلول. وفي خطوات عملية لمعالجة الوضع المتدهور في ماليزيا التي قاومت فكرة الاستعانة بمساعدة صندوق النقد الدولي حتى النهاية، منعت الحكومة في أيلول سبتمبر بيع المراكز القصيرة في سوق الأسهم. وهو أسلوب يتبعه المضاربون عادة ويبيعون فيه أسهما لم يسددوا قيمتها في الأساس من أجل اعادة شرائها بثمن أرخص بعد هبوطها لاحقا، ويحققون من وراء ذلك أرباحا، تكون طائلة اذا اتفقت مع توقعاتهم لمجرى السوق. وعندما عقدت اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين السنوية في هونغ كونغ في تشرين الأول اكتوبر الماضي، دعا مهاتير محمد في كلمته الى منع المضاربة على العملات. لكنه لم يشرح كيف يمكن تطبيق ذلك بشكل عملي من دون اعادة الدور المركزي الكامل للدولة في النشاط الاقتصادي على النحو الذي كان متبعا في المعسكر الاشتراكي. واضطر نائبه بعد ذلك الى طمأنة الأسواق الى أن ماليزيا لا تنوي فعلا ايقاف التعامل. الا أن التصريحات أضرت بالفعل بالرينغيت الماليزي الذي استمر في التدهور. أما في الدول الأخرى فقد كان الوضع مختلفاً. إذ اتجه الرأي نحو خفض قيمة العملات لئلا يحدث استنزاف لاحتياطها من العملات الصعبة. ودعا رئيس الوزراء الماليزي دعوة للاستعاضة عن استخدام الدولار الأميركي بعملة اقليمية. ولاقت الدعوة حماسة من بعضهم، فيما شكك آخرون في مدى قابليتها للنجاح. الصندوق والبنك حرص المسؤولون في صندوق النقد والبنك الدوليين على طمأنة الأسواق الى أن الترياق الذي وصفوه لتايلاند "سحري" ويعمل وفق الخطة الموضوعة، لكن الأزمة كانت تتفاعل في دول أخرى لم يخطر على بال أحد أنها ستصل اليها. ولم تستثن الأزمة هونغ كونغوكوريا الجنوبية، فضلا عن الفيليبين واندونيسيا. وبدأت علامات الاستفهام تدور حول مدى استيعاب المؤسستين الدوليتين لخصوصيات الدول الآسيوية في اسلوب المعالجة. فرفع الفائدة على العملات المحلية لتقويتها يهلك سوق الأسهم، ويسحب الأموال المتاحة للشركات، ويفاقم أزمتها ويضاعف مديونياتها. كما أن سياسة التقشف الشديد تسحب من الاقتصاد المحلي فرص النمو وتزيد البطالة، وتتسبب في أزمات اجتماعية، وربما سياسية تنتشر كالنار في الهشيم من دون أن تجد لها حلولا في المستقبل. وعندما طرحت فكرة ايجاد صندوق نقد آسيوي يتولى توزيع المساعدات المالية لدول المنطقة بناء على معايير اقليمية وتحت اشراف ياباني، وقفت الولاياتالمتحدة ضد الفكرة بقوة لأن ذلك يحرمها سلطة مالية كبيرة في يدها. ولكن بعدما دافعت الدول الغربية عن دور الصندوق والبنك بقوة، تعين عليها المساهمة في انقاذ اقتصادات المنطقة بمبالغ لم يسبق لها أن ضختها في أي منطقة من قبل، بما في ذلك روسيا والمكسيك. هونغ كونغ في أواخر تشرين الأول اكتوبر الماضي، أدرك العالم أن الأزمة الآسيوية فادحة، وتهدد اقتصادات العالم بالركود السيبيري، وذلك عندما بدأت المضاربات على دولار هونغ كونغ. واضطرت المدينة التي لم يكن مضى سوى أشهر قليلة على انتقال السيادة فيها الى الصين، الى رفع سعر الفائدة على القروض بين المصارف لليلة واحدة الى رقم خيالي بلغ 300 في المئة. وحدث هذا رغم أن دولار هونغ كونغ مغطى بالكامل بالعملة الأميركية. إذ تزيد احتياطاتها على 90 بليون دولار. ولجأت سلطات هونغ كونغ الى هذا الاجراء لجعل الاقتراض القصير الأجل المستخدم للمضاربة على العملة المحلية مكلفا للغاية، ولكي تسحب البساط من تحت أقدام المضاربين. وعلى الاثر، تدهورت سوق الأسهم في المدينة بشكل مخيف، اذ فقد مؤشرها الأساسي هانغ سنغ أكثر من 25 في المئة من نقاطه خلال أربع جلسات تعامل فقط. ومع هذا التطور انتقلت الأزمة الى أوروبا والولاياتالمتحدة بقوة. فتداعت اسعار الأسهم في بورصات العالم بأسره، بما في ذلك البرازيل وجوهانسبورغ وسيدني. ويعود الأمر الى الترابط بين الشركات والمصارف المستثمرة في هونغ كونغ وبين الشركات في العالم. وهو مظهر لا يمكن تجاهله في النظام الاقتصادي العالمي الجديد. في هونغ كونغ كان القرار مصيرياً. ذلك أن التخلي عن ربط سعر الصرف بالدولار الأميركي عبر ما يعرف هناك ب "مجلس العملة" Currency Board سيعني هجرة سريعة للرساميل من المستعمرة البريطانية السابقة. لذلك اختارت هونغ كونغ التضحية بأسعار الأسهم على التضحية بسعر الصرف. ولم تلجأ السلطات الصينية الى اقفال بورصة هونغ كونغ خلال فترة الانهيار كما فعلت عام 1987 عند انهيار البورصات العالمية بدءا من نيويورك. وفي احدى المراحل وصلت الفائدة في هونغ كونغ الى نسبة ألف في المئة لتجعل المضاربات مكلفة الى حد لا قِبَل للمضاربين به. الا أن الأزمة في هونغ كونغ لم تنته بصمود دولارها. فرفع الفائدة بشكل جنوني، ضرب دعامة رئيسية من احدى دعامتين يقوم عليهما الاقتصاد المحلي وهي القطاع العقاري. فيما الدعامة الأخرى هي القطاع المصرفي. وحدثت افلاسات واسعة بعد انهيار أسهم الشركات العقارية. فيما فشل الكثير من المواطنين في تسديد الفوائد العالية على القروض العقارية، أما في القطاع المصرفي فقد تهاوى عدد من المصارف وشركات الاستثمار الأجنبية والمحلية، أهمها مصرف "بيريغرين" الذي تورط في قرض منحه لشركة سيارات أجرة اندونيسية بلغت قيمته 225 مليون دولار. وعانت هونغ كونغ من جهة أخرى من الأزمة الآسيوية عامة عندما تدهور القطاع السياحي التجاري. فهونغ كونغ تعتبر مركزا رئيسيا للتسوق يقصده الملايين اسبوعيا من كافة دول المنطقة، لشراء السلع الرخيصة. لكن تدهور عملات معظم الدول، قلص قدرة السياح الشرائية، وخفف بالتالي رحلاتهم الى هونغ كونغ بشكل مفاجئ ونسبة مهلكة، ما أدى الى حدوث حالات انتحار بين المستثمرين في السوق العقارية. كوريا الجنوبية فشل المحللون في توقع الكثير مما حدث في الأزمة الآسيوية، وفي المكتبات عشرات الكتب عن المعجزة الاقتصادية التي عاشتها النمور والضباع والفيلة الآسيوية، لكن أحداً لم يفطن الى احتمال تحول بعضها الى ارانب وقطط وفئران. وتوقع جميع المحللين تقريبا نموا اقتصاديا في المنطقة لمدة لا تقل عن ربع قرن، وتمتد الى ما بعد سنة 2020، وبنسبة سنوية تزيد على خمسة في المئة. تقع كوريا الجنوبية على بعد آلاف الكيلومترات الى الشمال من ماليزيا والفيليبين واندونيسيا. وهي دولة موالية للغرب، وتعيش في كنف رعايته السياسية. لكنها لم تسلم من مصائب الجنوب الاقتصادية، واجتاح الاعصار الاقتصاد الحادي عشر في العالم قبل أسابيع فقط من اجراء انتخابات رئاسية. تعملقت الصناعة الكورية الجنوبية كثيراً في الأعوام الماضية الى درجة أن حصول مشاريعها حول العالم على قروض كبيرة بالبلايين لم يكن مشكلة أبدا. بل تزاحمت المصارف التجارية ومصارف ضمان الصادرات والواردات على تقديم كل ما يلزم ضمن شروط تفضيلية. وفشلت وكالات تصنيف الملاءة في تقويم مخاطر التوسع الكبير الذي انتهجته الشركات الكورية. وعندما خفضت الحكومة قيمة الوون العملة الكورية فشلت الشركات في الوفاء بالتزاماتها، وتعثرت معها أوضاع المصارف المحلية الدائنة. ولم تسلم المصارف الخارجية من الانفلونزا الآسيوية بسبب مديونيتها العالية، وعلى رأسها المصارف اليابانية. فهي قريبة وكبيرة، وتتعامل مع المنطقة بكثافة. لكن حتى المصارف اليابانية العملاقة ومع جميع المقدرات المالية اليابانية المتراكمة عبر عقود، ناءت تحت الحمل الاقليمي، وكذلك الحمل الداخلي. تتميز كوريا الجنوبية عن الدول الأخرى في المنطقة بكونها "فتى الغرب المدلل" الذي تغفر جميع زلاته. فكوريا لعبت دوراً مهماً في الحرب الباردة، وساعدتها الولاياتالمتحدة بشكل خاص من أجل تطبيق مبدأ احتواء الشيوعية وفقا لنظرية مونرو. ويقضي المبدأ بأن تساعد دول المواجهة مع المعسكر الشيوعي لكي تقدم نموذجا اقتصاديا ناجحا يقارع النظام الشيوعي، أي تعميم الرخاء الرأسمالي. والى جانب الرخاء الاقتصادي يقف 37 الف جندي أميركي على الحدود الكورية الشمالية. وخشيت واشنطن أن يستغل الشماليون الفوضى المحتملة في الجنوب فيزحف مليون جندي شمالي لاحتلال كوريا الجنوبية. لم تعرف كوريا الجنوبية مناخا شفافا في شركاتها يساعدها على التحصن من النوائب المحتملة. ولعبت الدولة دورا مركزيا في النظام المالي وقطاع الأعمال الى حد جعل العلاقة مع الموظفين ووكلاء الوزارات وكبار المسؤولين في الدولة أساسية لتسهيل القروض. لكن الدولة لا تستطيع أن تكون نزيهة في كل الأوقات، ولا يستطيع أحد ضمان نزاهة الموظف المتمتع بصلاحيات أكبر بكثير من طاقته. تولى الرئيس كيم يونغ سام الرئاسة عام 1993 عندما كانت البلاد تمر في مرحلة ركود اقتصادي. ووعد سام بانعاش الاقتصاد. وتمكنت كوريا من تحقيق مرحلة ازدهار بفضل موجة استثمارات توسعية ضخمة قامت على الاقتراض. وبلغت نسبة الدين في الشركات العملاقة أربعة أضعاف قيمتها في السوق، اضافة الى أن مضاعفة الانتاج بفضل التوسع الكبير في الطاقة الانتاجية، جعلت اسعار المنتجات الألكترونية، خصوصاً الشرائح الدقيقة، تهبط في العالم ككل، وهبطت معها عام 1996 هوامش أرباح الشركات التي تعين عليها تسديد الديون بصورة منتظمة. ولم يمض وقت طويل حتى انفجر بالون الديون الكورية المنتفخ فوق طاقة تحمله، وكانت معظم ديون الشركات خارجية بفضل سعر الفائدة المنخفض في أسواق المال العالمية على الدولار. بدأ التدهور بانهيار شركة "هانبو ستيل" مطلع العام الماضي تحت قروض بلغت ستة بلايين دولار. وكانت الحكومة الكورية ارغمت المصارف على تسليف "هانبو ستيل" المنتجة للصلب. وبعدما ضعفت سلطة الرئيس السابق سام عقب ضغوط عمالية استمرت ثلاثة أسابيع من التظاهرات الصاخبة، أقر البرلمان قوانين منحت العمال المزيد من الحقوق. ولم يعد في وسع الدولة الاستمرار في الضغط على المصارف لتقرض الشركة فانهارت، وتكشفت تحت أساساتها فضائح الفساد الاداري في الدولة. وبعد تولي وزير المال الجديد كانغ الوزارة التي عرفت ببيروقراطية معادية لروح الرأسمالية وللاصلاح، وعد بتغيير جذري خلال أيام. وتركت شركة "سامني ستيل" التي تنتج أنواعا راقية من الفولاذ ، تنهار من دون ضخ أية أموال جديدة لدعمها. وفي تموز يوليو ظهرت عوارض الافلاس في مصانع سيارات "كيا"، وهي ثالث أكبر مصانع السيارات الكورية. وفرطت سبحة الشركات المدينة فتهاوت واحدة تلو الأخرى. وأعادت وكالات تصنيف الملاءة قراءة وضع المصارف الكورية، وخفضت تصنيفاتها. ومعنى ذلك في الأسواق المالية أن القروض لكوريا باتت أغلى من ذي قبل. وبعدما احجمت المصارف عن تمويل شركة كيا، لجأ الرئيس سام الى تأميم الشركة في 22 تشرين الأول اكتوبر الماضي. وعلى الاثر اعتبرت وكالة "ستاندرد أند بور" الاميركية أن الحكومة غير جادة في الاصلاح الاقتصادي، وخفضت تصنيف ملاءة كوريا المالية. وتزامن القرار مصادفة مع المشاكل المالية التي مرت بها هونغ كونغ حين تعرضت عملتها للهجوم من المضاربين. فأصيب المستثمرون الأجانب بحال، ذعر شديدة، وبدأت هجرة الأموال السريعة من كوريا. وتراجع احتياط البلاد من العملات الأجنبية خلال أسبوعين الى 15 بليوناً من أصل 30 بليوناً بعدما وقف المصرف المركزي الكوري مدافعاً عن الوون المتهاوي. وعلى الأثر، اتجه زعماء كوريا الى طوكيووواشنطن طلبا لمساعدات مالية عاجلة تغنيهم عن تذوق ترياق صندوق النقد الدولي، كما توقف الانهيار نحو هاوية الافلاس التام خلال أيام أو أسابيع. لكن الدولتين لم تستجيبا واعتبرتا الاصلاح المالي ضروريا. وخشيت الولاياتالمتحدة أن تفسر أية مفاوضات حول اعادة جدولة ديون الشركات الخاصة بأنها تمهيد لاتخاذ قرار بتجميد تسديد الديون الكورية. وعندها ترحل الرساميل بالجملة من الأسواق الناشئة حول العالم، وليس في منطقة شرق آسيا وحدها. ولم يعد أمام كوريا سوى الجلوس الى طاولة المفاوضات مع صندوق النقد، وتقبل التبعات الاجتماعية والسياسية المترتبة على وصفاته مقابل تقديم المساعدة الانقاذية. لكن اتصالات كانغ بدأت سراً مع ميشيل كامديسو، في حضور محافظ المصرف المركزي، والمستشار الاقتصادي الأول للرئيس الكوري. وتوصل الجانبان الى اتفاق يقضي بادخال الدولة اصلاحات على نظام الرقابة المالية، وبمنح المصرف المركزي استقلالية في سياسته النقدية عن الحكومة، وبتجميع حسابات الشركات العملاقة. واشترط الصندوق زيادة حق المستثمرين الأجانب في تملك حصص في الشركات الكورية الى 50 في المئة، والغاء الحدود المفروضة على التعامل بالعملة المحلية للمستثمرين الأجانب. أوقف المصرف المركزي التدخل في سوق القطع وسمح للوون بالانخفاض الى أكثر من الف في مقابل الدولار. لكن الاتفاق لم يوقع بسبب رفض البرلمان المصادقة على الاصلاحات. وبدل توقيع كوريا والصندوق في 19 تشرين الثاني نوفمبر على الاتفاق، استقال وزير المال عشية الموعد، وحل محله ليم تشانغ يول، وزير التجارة المعروف بتشدده، والذي كان قد عمل في صندوق النقد الدولي أواخر الثمانينات. وأعلن يول في 21 تشرين الثاني تقديم طلب كوري الى الصندوق للحصول على مساعدة على شكل قرض احتياطي بقيمة 20 بليون دولار. كانت كوريا الجنوبية على وشك الافلاس من أية سيولة اجنبية تماما في الاسبوع الأول من كانون الأول ديسمبر. ووعد الرئيس الأميركي نظيره الكوري في مكالمة طويلة بمساعدات تلي مساعدات الصندوق الدولي. لكنه شدد على ضرورة الاسراع في ابرام اتفاق مع الصندوق لئلا تعاقب السوق كوريا بشدة عندما تشح سيولتها. وعلى رغم أن الكوريين سارعوا الى اعلان الاتفاق قبل توقيعه بالفعل خوفا من السوق، فإن كامديسو الذي كان في زيارة الى ماليزيا آنذاك، امتنع عن تأكيد الاتفاق لأن سيول لم توافق حتى ذلك الحين على شرط اقفال الشركات المتعثرة بسبب المديونيات المستعصية التحصيل. وأصر كامديسو على أن يتعهد المرشحون الثلاثة للرئاسة في الانتخابات التزام الشرط قبل منح كوريا قروضا بقيمة 20 بليون دولار. بعد الاعلان عن ترتيب انقاذي في الثامن من كانون الأول ديسمبر بقيمة 55 بليون دولار، كشفت الصحافة في كوريا أن حجم القروض المستعصية التحصيل التي تعاني منها المصارف المحلية هو ضعف المبلغ، ويتجاوز 100 بليون دولار. واعلنت الحكومة في اليوم نفسه أنها ستتولى أوضاع أضعف مصرفين لديها، وهما "كوريا فيرست" و"بنك سيول" بدل اقفالهما. كما أعلن أن شركة دايوو العملاقة ستستملك شركة "سانغيونغ موتور" في صفقة تتحمل فيها المصارف الدائنة نصف خسائرها المالية في الشركة. واعتبرت السوق تلك الخطوات تخلياً كورياً عن مشروع الاصلاح، واستمرار الدولة في دورها في السوق. ورفضت المصارف الأجنبية اعادة جدولة الديون القصيرة الأجل المتوجبة على الشركات الكورية المتعثرة، فيما بدأت موجة جديدة من هجرة الرساميل من كوريا. فانهار سعر الصرف واسعار الأسهم في بورصة سيول. لم يكن الشعب الكوري مرتاحا لترتيب صندوق النقد الدولي الذي يتجاهل التبعات الاجتماعية الناجمة عن اقفال الأعمال وتسريح العمال والموظفين في زمن الضنك هذا. وانتخب زعيم المعارضة كيم داي يونغ من وسط اليسار المعارض. ووعد كيم بإعادة التفاوض مع الصندوق في شأن الترتيب المالي. لكن خياراته كانت محدودة للغاية، فالسوق باتت أقوى بكثير من الدولة. وكلما صدر عنه تصريح يشكك في جدوى الترتيب، جاء الرد مباشرا بزيادة التدهور في سعر الصرف وقيمة الأسهم، فيضطر الى النفي، حتى باتت السوق تنتظر النتائج العملية لكي تصدق أي تصريح يدلي به المسؤولون. وعلى الرغم من حصول كوريا على القروض الدولية، الا أن النزف وتدفق الأموال الى الخارج بلغ بليون دولار يومياً أواسط كانون الأول ديسمبر الماضي. بعد توليه الرئاسة، اجتمع سفير كيم لدى واشنطن مع لورنس سومرز نائب وزير الخزانة الأميركي الذي يتولى الأزمة في آسيا. واعترف السفير بأن الشركات الكورية ستفرض تجميداً لدفع الديون الخارجية في وقت وشيك، كما تعهد دعم الاصلاحات المالية الشديدة. لكن القلق ظل يساور الجميع من أن الانهيار في كوريا في حال عدم مساعدتها سيؤدي الى حدوث كوارث كبيرة في دول عدة لا سيما في اليابان حيث قدمت المصارف للشركات الكورية نحو 25 بليون دولار من القروض القصيرة الأجل، كما سيسبب اضطرابا في بلدان أخرى حيث المصارف الكورية دائنة في مشاريعها، خصوصاً في اندونيسيا. وجاء الرأي الأميركي بتغليب خيار التخلي عن الشركات الضعيفة من أجل الحفاظ على قدرة البضائع الكورية على المنافسة، بدل الدفاع عن فرص العمل في كوريا على حساب المال العام. وكان ذلك مساندة كبيرة لطروحات صندوق النقد الدولي. استمر تدهور الثقة بالاقتصاد الكوري حين أعلنت وكالة تصنيف الملاءة العالمية "مودي" أن مخاطر سندات الدين الحكومية والخاصة الكورية باتت في مستوى مخاطر سندات الخردة. وسندات الخردة اصطلاح يطلق على سندات اقتراض كانت مسؤولة في الثمانينات عن انفجار فقاعة صعود سوق الأسهم في نيويورك، وهي سندات عالية المردود والمخاطر، معاً، إذ تجاوز العائد عليها قبل انهيار البورصات نسبة 30 في المئة. قدم صندوق النقد الدولي الدفعة الأولى وقيمتها 10 بلايين دولار لكوريا في 25 كانون الأول ديسمبر، فيما وافقت المصارف على اعادة جدولة القروض. لكن الامتحان الحقيقي مرت به الحكومة في سيول مع نقابات العمال في أوائل شباط فبراير بعد مواجهة مع النقابات في الشارع. اذ قاومت النقابات مشروعا يسمح للشركات بتسريح العمال بسهولة أكثر من ذي قبل كجزء من الصفقة. وبعد مفاوضات رصدت سيول مبلغ خمسة بلايين دولار في صندوق لمساعدة المسرحين من عملهم لقاء الموافقة في البرلمان على اصعب قانون عرفته البلاد منذ نهاية حربها في الخمسينات.