هل بدأ التاريخ يعيد نفسه في السودان؟ ربما كان هذا التساؤل أبرز ما راود خاطر مراقبي الشأن السوداني عندما تابعوا أخبار المرسوم الدستوري العاشر الذي صدر في الخرطوم في 14 شباط فبراير الحالي ممهوراً بتوقيع الرئيس عمر حسن البشير والذي عين بموجبه لواء الشرطة جورج كونفور نائباً ثانياً لرئيس الجمهورية الى جانب اللواء الزبير محمد صالح، نائب رئيس مجلس قيادة ثورة الانقاذ ووزير الداخلية السابق، الذي عين بدوره في تشرين أول اكتوبر الماضي نائباً أول للرئيس البشير بعد تحول الأخير رئيساً لجمهورية السودان متخلياً عن مناصبه العسكرية السابقة. وجاء تعيين اللواء جورج كونفور، وهو مسيحي كاثوليكي من قبيلة الدينكا، نائباً ثانياً لرئيس الجمهورية السودانية في سياق تطبيق التقسيم الاداري الجديد في السودان الذي قسم الى 26 ولاية بدلاً من 9 ولايات. فما هي دلالات تعيين كونفور نائباً ثانياً لرئيس جمهورية السودان التي تطبق منذ ثورة الانقاذ تجربة أسلمة الدولة؟ وما مؤشرات تقسيم السودان الى 26 ولاية عوضاً عن 9 ولايات وبعد أن أصبح جنوب السودان عشر ولايات؟ مصادر سودانية جنوبية قالت ل "الوسط" ان تعيين كونفور نائباً للبشير واختياره لهذا المنصب في هذه المرحلة بالذات لم يفاجئ مواطني الجنوب. فاللواء كونفور يشير تاريخه الشخصي، لا سيما إبان الحرب الأهلية التي خاضها جنوب السودان ضد الخرطوم تحت راية "اينيانيا - واحد" بزعامة جوزف لاغو، الى أنه ما برح يوالي الخرطوم ويناصرها منذ كان ضابطاً يافعاً في سلاح الشرطة داخل مدينة جوبا عاصمة ولاية الاستوائية خلال الحرب الأهلية الأولى. واللواء جورج كونفور من مواطني مدينة واو عاصمة ولاية بحر الغزال ينتمي الى قبيلة الدينكا ومن خريجي جامعة جوبا. ويشير السجل الشخصي لنائب رئيس الجمهورية السودانية الجديد الى أنه قد شارك في مفاوضات السلام التي رعتها نيجيريا بين الحكومة السودانية و"الحركة الشعبية لتحرير السودان" في العامين 92 و93 من دون احراز أي تقدم في سير المفاوضات نظراً للخلاف حول تطبيق الشريعة الاسلامية في جنوب السودان والعلاقة بين الشمال والجنوب ودرجة الحكم اللامركزي وعملية تقاسم الثروة والقرار السياسي بين شطري السودان. وتعيين كونفور لم يكن مفاجئاً بقدر ما كان ولاؤه للخرطوم طوال هذه الفترة، وهو الآن في الخمسينات، مثار دهشة اخوانه في قبيلة الدينكا التي ينتمي اليها العقيد جون قرنق، حسب ما تزعمه أوساط سودانية جنوبية. وفي هذه النقطة بالذات سجلت الحكومة السودانية نصراً معنوياً ضد خصومها حين كافأت اللواء كونفور وكافأته في آن فسمتهُ نائباً لرئيس الجمهورية بعد أسابيع قليلة تلت انشقاق الدو آجو، السياسي الجنوبي المخضرم نائب رئيس المجلس الوطني الانتقالي ورئيس لجنة حقوق الانسان فيه، عن الخرطوم وفراره الى لندن حيث طلب اللجوء السياسي. وأشارت الحيثيات التي جاءت في الرسالة الموجهة من آجو الى الرئيس عمر حسن البشير الى "اضطهاد" فريق من السودانيين الجنوبيين على أيدي اخوانهم في المواطنة أبناء الشمال في القوات المسلحة وجيش الدفاع الشعبي. سابقة نميري حين أعلن جعفر نميري الرئيس السوداني السابق تعيين جوزف لاغو، زعيم "اينيانيا - واحد" نائباً له في العام 1982 كان يخطط لتنفيذ تطورات مهمة طاولت بتأثيرها جنوب السودان. ولم يكن تعيين لاغو نائباً لرئيس الجمهورية الشمالي المسلم، بعد عشر سنوات من اتفاقية أديس أبابا للسلام التي وقّعها نميري نفسه باشراف الامبراطور هيلاسيلاسي، بمثابة مكافأة زعيم "اينيانيا - واحد" بقدر ما كان تغطية لما سيلي هذا القرار من خطوات تمثلت بتقسيم الجنوب مرة أخرى الى ثلاثة أقاليم عوضاً عن الاقليم الواحد عملاً باتفاقية أديس أبابا للسلام، كذلك الاعلان عن قوانين الشريعة الاسلامية والبدء بتطبيقها في مختلف أقاليم السودان في أيلول سبتمبر 1983. وأدت هذه الخطوات الى اشتعال حريق التمرد الذي كان قد بدأ في ثكنة بور في 16 ايار مايو من العام نفسه بزعامة كاربينو بول وجون قرنق لاحقاً. وإذا كان سقوط نظام نميري قد بدأت تداعياته وأعراضه تظهر وتطفو على السطح منذ العام 1983 فمن أشد الأمور إثارة للدهشة والتعجب ان يعلن نميري نفسه إماماً ذلك العام بإيحاء من زعيم الجبهة القومية الاسلامية الدكتور حسن عبدالله الترابي، في حين كان اللواء جوزف لاغو نائبه واستمر حتى سقوط نظام مايو في نيسان ابريل 1985. جنوب السودان، بموجب المرسوم الدستوري العاشر الذي وقّعه الرئيس عمر حسن البشير، أصبح عشر ولايات، أعالي النيل، بحر الجبل، البحيرات جونقلي، شرق الاستوائية، شمال بحر الغزال، الاستوائية، غرب بحر الغزال، الوحدة، وآراب. ومن بين 26 ولاية سودانية، يرأس كل واحدة منها والٍ يساعده خمسة وزراء ووزير سادس لشؤون السلام في الولاياتالجنوبية فحسب، هناك ثمانية ولاة من المسيحيين. ومن بين 26 والٍ هناك أحد عشر والياً جنوبياً. ومن بين الولاة الجنوبيين سيدة جنوبية تدعى اقيفس لوكودو، كانت وزيرة التربية في ولاية الاستوائية سابقاً وعضو مجلس وطني انتقالي في الخرطوم، ترأس ولاية بحر الجبل في الجنوب أي الولاية المكونة من مدينة جوبا وبعض القرى القريبة منها. والوالية الجنوبية الجديدة في العقد الرابع من عمرها ومن خريجي جامعة جوبا ولم يعرف انتماؤها القبلي فور تعيينها وإن كان يرجح كونها من قبيلة الدينكا. بموجب التقسيم الداخلي الجديد ضاعت خطوط التماس القبلية المتوارثة منذ مئات السنين في جنوب السودان، وغابت بالتالي معادلات وتوازنات قبلية ومناطقية ومذهبية حكمت اللعبة السياسية في الجزء الجنوبي من السودان. ولن يكون سهلاً بعد اليوم احتواء الآثار المهمة والمتعاظمة لهذا التقسيم الذي سينتج بالضرورة معادلات سياسية ستفيد منها الحكومة السودانية لأنها كانت الباعث الحقيقي لهذا التقسيم الذي بعثر توازنات دقيقة صاغتها بصبر واناة واتقان "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بزعامة العقيد قرنق. وإذا كانت ظاهرة الانشقاق التي ضربت الحركة الشعبية في آب اغسطس 1991 قامت على أساس قبلي بحت، فليس من الغرابة بمكان توقع حدوث انشقاقات داخلية خطيرة قد تتحول الى سلسلة انزلاقات قبلية خطيرة داخل التجمعات السكانية في جنوب السودان. ولعل الاقتتال القبلي الدموي لدى الجارة بوروندي أقل السيناريوهات خطورة بالنسبة لما قد تؤدي اليه نتائج التقسيم الجديد في جنوب السودان، علماً ان نية الحكومة السودانية قد لا تكون بالضرورة اغراق جنوب الوطن في حمامات من الدماء، فهل يكون تقسيم جنوب السودان بمثابة تصحيح للخطأ بارتكاب أفظع منه؟ عندما وضعت الجبهة القومية الاسلامية بزعامة الدكتور حسن عبدالله الترابي عام 1987 ما سمي بميثاق السودان اعتبرت الوثيقة في حينه بمثابة التصور الخاص بالجبهة لنمط النظام السياسي الذي ترجو تطبيقه في البلاد لا سيما البند الثالث من الميثاق الذي جاء تحت فقرة: الاقليم والوطن. حيث نادت الوثيقة بتقسيم السودان إدارياً بموجب نظام اتحادي يتماهى تقريباً مع النظام المعمول به حالياً. وعندما عقدت ثورة الانقاذ، في تشرين الأول اكتوبر 1989 بعد أشهر من تسلمها السلطة في حزيران يونيو من العام نفسه، مؤتمر الحوار الوطني من أجل السلام، تبنى المؤتمرون صيغة النظام الفيديرالي لتنظيم السودان البالغة مساحته مليون ميل مربع أي ما يوازي مساحة فرنسا وبريطانيا والمانيا مجتمعة. لذا ليس من قبيل المبالغة القول ان الحكومة السودانية الحالية تستلهم الأدبيات السياسية لحزب الجبهة القومية الاسلامية التي أعلن زعيمها في غير مناسبة انها "قد حلت نفسها ووضعت ذاتها في خدمة ثورة الانقاذ". ولم يكن من قبيل المصادفات ان يتولى د. علي الحاج، أحد أبرز قيادات الجبهة، ديوان الحكم الاتحادي في الخرطوم. وهو المسؤول المعني مباشرة بإقامة التنسيق بين الولايات من جهة وبين الولايات والحكومة المركزية في العاصمة الخرطوم حيث تمسك الحكومة الحالية بسلطات وزارات الدفاع والأمن الوطني والعلاقات الخارجية والجنسية والهجرة ووسائل الاتصال والنقل والشؤون القضائية والتشريعات الجنائية والمدنية والتجارة الخارجية والثروات الطبيعية في حين تتولى الحكومات المحلية في الولايات قضايا الحكم المحلي والثقافة والشؤون الاجتماعية والسياحة والتعليم والصحة والخدمات الاقليمية والزراعة والصناعة والتجارة في الاقاليم.