تروي الأسطورة ان طائر الفينيق الناري يتوالد من قوس قزح ومن الشمس، وتمتد ألوان ريشه إلى اللانهاية، ثم يحترق بلهيب ذاته فينكمش ليذري رماد رفاته على الرمال، ثم يعيد التوالد من ذاته ضمن دورة كونية رمزية. والتظاهرة الثقافيّة اللبنانيّة في باريس، تحيل إلى تلك الأسطورة، وتعلن عودة بلد أدونيس وعشتروت على الساحة العالميّة. هنا زيارة لمعرض الآثار الضخم الذي يرافق تلك التظاهرة، التي تشمل الشعر والرواية والسينما والمسرح والموسيقى. يرصّع المعرض الأثري نشاطات المهرجان الذي يحتضنه معهد العالم العربي على مدى ستة أشهر تحت عنوان "الضفّة الأخرى"، ضمن اطار "الموسم الثقافي اللبناني" في فرنسا. وهذا الموسم يتزامن، كما هو معروف، مع اعلان بيروت عاصمة ثقافيّة اقليميّة. اختيرت أغلب ذخائر المعرض من المتحف الوطني في بيروت، بحيث ترسم ملامح ذاكرة حضاريّة موغلة في القدم، تمتدّ جذورها إلى العصور الحجرية الأولى، ربما الى مليون عام كما يشير بعض القطع المعروضة. الأدوات الصوانية من بقايا منطقة جب جنين، مثلاً، يبلغ عمرها حسب علماء الآثار 700 ألف عام. ويعتبر الألف السابع قبل الميلاد، التاريخ المفترض لتأسيس مدينة بيبلوس جبيل حالياً. واذا لم تكن بيبلوس أقدم مدينة في العالم كما يدعي كاتالوغ المعرض إذ يعتقد بعض الاختصاصيين أن أريحا والمريبط وشاتال حيوك هي أكثر قدماً، فهي على الأقلّ من أقدم مدن الهلال الخصيب. والتاريخ الذي يعتمده الأثريون لرصد الظواهر المبكرة في التجمعات الحضرية هو الألف السادس قبل الميلاد بالنسبة إلى القرى البدائية، إذ تسجل هذه الفترة التحول من سكن الخلاء المغاور والأشجار إلى البيوت بفعل الانتقال من الصيد الى الزراعة والتدجين. ثم تحولت هذه القرى مدناً، والمدن ممالك وامبراطوريات استلزمت التواصل عن طريق الكتابة التي ظهرت في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد السومرية الأكادية. تبدو بيبلوس في الألف الثالث مطوقة بسور كامل، تتجمع مساكنها حول مركز يحتله النبع والمعبد. وتحتشد كنوز صناعتها في واجهات العرض التي وجدت في المقابر الملكية خصوصاً معبد المسلات، من خناجر وعقود وصحون وتحف. ولكن أجنحة الفينيق لم تتحول مراكب تضرب عباب البحر المتوسط إلا في الألف الثاني قبل الميلاد، حيث أخذت تتألق منارات الساحل اللبناني: بيبلوس، أرواد، بيروت، صيدون، صور... كانت كل منها تشكل مدينة - مملكة مستقلة لا تخلو علاقاتها من التنافس التجاري والعسكري، ولم تكن تتوانى عن التحالف مع مصر ضد أشقائها. ولكن تلك الممالك كانت تملك الطموح نفسه في ارتياد البحر المتوسط، فزرعت سواحله بالمدن التجارية الثرية، وصولاً إلى اسبانيا حيث تأسست قادس سنة 1110 ق.م عند جبل طارق. ثم انشأت أميرة صور ديدون سنة 814 ق.م حاضرة قرطاجة على الشاطئ التونسي. وتروي الاسطورة ان أختها أوروبا أسبغت اسمها على قارة كاملة شمال المتوسّط، فيما منح أخوها قدموس العالم أسرار الأبجدية. خشب الأرز إلى معابد طيبة تعانق شجرة الأرز علم لبنان كرمز وطني مستعار من خصائص الطبيعة المحلية، فقد ارتبطت هذه الشجرة بحكايا الأساطيل التجارية التي كانت تنقل أخشابها إلى مصر وفلسطين والرافدين، كما تؤكد نصوص التوراة ورسائل تل العمارنة والبردي المعروضة اونامون، القرن التاسع ق.م. تروي تلك النصوص كيف كانت المراكب الفينيقية تنقل خشب الأرز إلى معابد طيبة. فخشبها الذي يقاوم التفسخ يتفوق في صلابته وطواعيته على خشب النخيل. أما عطرها فكثيراً ما كان يعبق مع بخور اليمن في المعابد القديمة. أطلق اليونان اسم الفينيقيين في نهاية الألف الثاني ق.م على ممالك المدن الكنعانية التي كانت راسخة على الشاطئ اللبناني. وجاء الاسم كما هو معروف من الأرجوان، والصباغة الارجوانية الحمراء القانية التي كانت مطلوبة في ذلك الزمان. وكان الفينيقيون يحتكرون استخراجها من أحد أنواع الصدف الذي يعيش على شواطئهم. كما عرفت هذه الممالك بتصدير الأقمشة الفاخرة الملونة بالأرجوان، وبتصدير أسرار صناعة الزجاج التي ازدهرت في قرطاجة. ويذكر المعرض عدداً من ألمع صناع الزجاج في صيدون على غرار: ارتاس وانيون وآريسون. كما ازدهرت صناعة العاجيات، كعلب المساحيق الفاخرة بشكل الطيور المعروضة نماذجها، وتمثال عازف القيثارة، وتمثال عشتروت وعشرات التماثيل الأخرى. المريا الموشحة بالقزحيّة تنتشر مجموعة التماثيل الكهنوتية التي تعتمر اللبادة على اعلانات معرض "الضفّة الأخرى" على جدران باريس، وخصوصاً في أروقة مترو العاصمة. هذه التماثيل النحيلة الطوليّة التي تأثر بها النحات الشهير جياكوميتي، تثير الانتباه بجاذبيتها السحرية وفنيتها اللغزية : دمى أو عرائس برونزية ملبسة برقائق الذهب، ومتعددة القياسات تم اكتشافها في معبد المسلات في بيبلوس، تمثل بمجموعها ايقاعات طقوسية مدهشة، ويزيدها اللون الأخضر الناتج عن فعل أوكسيد الكربون جمالاً وبهاءً. وينطبق ذلك أيضاً على المرايا الموشحة بالقزحية "الأوكسيديّة" نفسها. ولعل أبرز المعروضات المعدنية مجسّم ماكيت المركب الصيدوني أحد الرموز الأساسية في الحضارات المتوسطية القديمة. وكانت فينيقيا تستورد في المقابل المعادن كالذهب والفضة والنحاس، ثم العاج والبخور وغيرها. ولعل أهم ما صدرته فينيقيا إلى العالم هو أبجديتها التي انتقلت إلى أوروبا عن طريق اليونان، ويشكّل اختراع الابجديّة مكانة أساسيّة في المعرض. أما ناووس المقبرة الملكية، فهو بلا شك درّة معرض "الضفّة الأخرى". ضريح أحيرام، ملك بيبلوس، مصنوع من الحجر الكلسي المنحوت، ويزن أطناناً عدة. وكان قد حفظ إبان الحرب الأهلية في مخبأ أمين صب على فوهته الاسمنت، وعاد بعد توقف الحرب الاهلية إلى موقعه في المتحف الوطني في بيروت. يرتكز الضريح على تماثيل لأربعة أسود تتصل عند الزوايا، وقد حفرت على جدرانه وغطائه صفوف متواترة من الكهنة والأعيان والمحاربين، وبعضهم يندب الملك المسجى في التابوت. ويعلّق علماء الآثار أهميّة خاصة على النقوش الكتابية التي تزيّن الضريح، اذ يعتبرونها من الأسطر الأفقية الأولى للأبجدية الفينيقية. ويفتح هذا الأثر الشامخ أسرار الميثولوجيا الفينيقية الخاصة بالموت والدفن. ويشتمل المعرض على قناع خزفي يطفح بالروحانية، اكتشف ضمن الأدوات المأتميّة التي ترافق، منذ القرن الثامن ق.م، قبور العهد الحجري الحديث وهي كناية عن علب خزفيّة كان يوضع فيها رماد الأموات. وقد يمثّل القناع وجه المتوفي، كما كان يجري في مصر وتدمر. وبين معروضات المتحف مجموعة من تماثيل الأطفال المنحوتة من المرمر، اكتشفت في صيدا وترجع إلى 420 ق.م. أحد هذه التماثيل لبعلشيلم الأمير الصيداوي الصغير الذي كان يعتبر مانحاً للشفاء. ودرج الأهالي على تقديم تماثيل أطفالهم له، كاشارة إلى تسليمه أمر حمايتهم. وتمثل منحوتة أخرى طفلاً مع حمامة، تذكر بموضوع عالجه بيكاسو مراراً... ومما لاشك فيه ان رأس الثور المقدس والآجري ذا اللون الاحمر الألف الثالث ق.م يمثل استعارة واضحة نعثر على مثيلها في متحف بيكاسو في باريس مقطوعاً بالطريقة الطقوسية نفسها، وبالخصائص نفسها، من امتداد قرونه وطريقة رسم عينيه، إلخ. حاول الاسكندر المقدوني 333 ق.م لاحقاًِ التوليف النسبي بين الحضارتين الفينيقية واليونانية، لكن الرومان سعوا ابتداء من 64 م إلى تدمير هذه الحواضر الزاهية وأحرقوا قرطاجة ليطووا أسطورة طائر الفينيق. وبعد ذلك عبر لبنان إلى فنون من نوع آخر مع المسيحية والاسلام، يشتمل المعرض على نماذج منها ايقونات مالكية ومخطوطات عربية.... ويشير أحد الأفلام التي تعرض على هامش التظاهرة، إلى صحوة ادارة الآثار في بيروت، وحرصها اثناء الحرب على الحفاظ على محتويات المتحف الوطني باخفائها في مستودعات سرية تحت الأرض، وايداع بعضها في البنك الوطني. وتروي كيفيّة إزالة الغبار عنها، ثم ترميمها بعد رفع الحواجز وانهاء الحرب. والأهم من كل ذلك أن ادارة الآثار استعادت التنقيبات التي توقفت خلال عشرين عاماً بزخم لافت. فالعزاء الأكبر للبنان والعرب والعالم، أن جراح الحرب كشفت عن بعض الكنوز الحضاريّة التي كانت مدفونة تحت المنازل في بيروت، وأحيت مفاتن تلك الذاكرة العريقة التي تدعو لبنان، إلى الانبعاث من رماده مثل طائر الفينيق