يُقام في "متحف الفنون الجميلة" معرض استثنائي في أهميته بين نهاية تشرين الأول اكتوبر 2004 ونهاية كانون الثاني يناير 2005 اجتمعت في صالاته أكثر من 350 تحفة فنية ترسم ذاكرة العنوان: "مملكة أوغاريت وأصل الأبجدية" أما المناسبة الحضارية تقاليد الحوار بين الشرق والغرب فتتمثل بالاحتفاء بالذكرى ال75 لاكتشاف البعثة الأثرية الفرنسية "لأبجدية رأس شمرا"، والمعروفة بمدينة المملكة أوغاريت في الألف الثاني قبل الميلاد. وهو ما يفسّر تعاون متحفي اللوفر وسانت جرمان مع نظائرها السورية ومتحف برلين في اعادة العقد الكنعاني - الفينيقي الذي لا يقدّر بثمن وبما يتفوق على نظائره من المعارض السابقة. تبدأ القصة عام 1929 خلال الانتداب عندما اصطدم محراث أحد الفلاحين بتابوت حجري، أثار اهتمام الفرنسيين في حينها فعينوا كلود شايفر على رأس بعثة التنقيب الأثرية كما عُيّن بعد سنوات أندريه بارو من أجل ماري مع رصد موازنة هائلة، وكان المركز الأساس لهذه البعثات في بيروت. لم يمض عام حتى اكتشف شايفر "أبجدية رأس شمرا". اعتبر هذا الاكتشاف في حينه قنبلة علمية لأنه أثبت ان أصل الكتابة اللاتينية الأوروبية الذي يمر عبر اليونانية هو الأبجدية الفينيقية المذكورة، هي نوع من المسمارية المدعاة بالأوغاريتية والتي أسست للمرة الأولى آلية لأبجدية مختلفة عن الكتابة الأكاديمية، سليلة الكتابة الرافدية، وهنا لا بد من التذكير ان أولى الكتابات في التاريخ الانساني ترجع الى الألف الرابع قبل الميلاد في العهد السومري وبالذات في حاضرة أوروك عام 3200 ق. م. ثم تعدلت في العهد التالي الأكادي، والتي بقيت سائدة في شتى الأقاليم تحت اسم "المسمارية". إذا اعتبرت مسمارية رُقم ألواح آجرية لأرشيف أوغاريت رديفة "للمسمارية الأكادية" التي كانت تكتب بها الرقم الآشورية البابليّة فإنها تختلف في آليتها الأبجدية عنها. وهو ما يفسّر كتابة غالبية ألواح رقم أوغاريت بلغتين: الفينيقية والأكادية، فقد كانت الثانية لغة المراسلات الرسمية والتجارية مع الحثيين والعيلاميين والعموريين والفراعنة وغيرهم. ابتدأت الكتابة ب"أبجدية رأس شمرا" من القرن الرابع عشر قبل الميلاد وانتهت بالقضاء الغامض على "مملكة أوغاريت" عام 1185 ق. م. لم يتوقف نشاط البعثة الفرنسية في هذا الموقع منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم ما خلا فترة الحرب العالمية الثانية عام 1948 بحيث تغطي عدداً من النقاط المتقاربة: على غرار "مينت البيضا"، و"رأس ابن هاني" وغيرهما. تقع أوغاريت شمال مدينة اللاذقية، على بعد أقل من كيلومتر من الشاطئ المتوسطي. من أحدث الألواح المكتشفة خلال ثلاثة أرباع القرن ما عثر عليه في منزل "أورتونو""عام 2002 م. كشف المعرض عنها للمرة الأولى. يشتمل بعضها على رسائل الى الحواضر الفينيقية ما بين بيبلوس وصور مروراً ببيروت وصيدا، بعضها يشير الى مواقع لم تكشف بعد في سهل البقاع اللبناني. ولا شك بأن مرافقة الكتابة الأكادية للأوغاريتية سهّل فكّ طلاسمها كأبجدية أولى في شجرة سلالة السامية بما فيها العبرية. هي التي تناسلت عنها العربية بعد النبطية مع تقاطع الروافد الكتابية الثمودية والسينائية. يصل المستوى العلمي في المعرض الى تثبيت طرق التمييز بين أساليب كتّاب "الرقم" الآجرية، لأن الكتابة المسمارية عموماً تملك هامشاً من الحرية في علاقة الفراغ بالامتلاء، والتوقيع المتسارع وغيره. وتتجاوز الأهمية الفنية في المعرض شهرة نصوص أرشيف أوغاريت، لأنها سمحت للمرة الأولى بامتحان الخصائص التصويرية الميثولوجية من طريق أساليب الرسم والنحت والزخرفة والتصميم الصناعي. وتمثّل هذه الصيغ التعبيرية خزاناً تصويرياً استمد من خصوبته معلمو التعبيرية من أمثال فاتح المدرس ورفيق شرف كنظائر لاسمتداد جواد سليم من الصور الميثولوجية الرافدية، وحامد ندا من الصور الفرعونية. أما الذين استلهموا من الكتابة "الفينيقية" وحفيدتها "السريانية" فيحصرون في المحترف اللبناني، ابتداء من سعيد عقل وانتهاء ببعض تجارب صليبا الدويهي. علماً بأن الصور الميثولوجية الكنعانية - الفينيقية - الآرامية تمثل أصول تقاليد الحساسية التعبيرية في الأيقونة الملكية ورسوم المخطوطات وفنون السير الشعبية مثل المنمنمات والتصوير على الزجاج من الخلف "المثبت" وعرائس "خيال الظلّ". استثمرت أنا نفسي في تصويري خلال عقدين آلية التفريغ الميثولوجي للصور الكنعانية - الآرامية، على مثال حضور شخصين في التكوين، احدهما جالس على عرش او كرسي على اليمين، والثاني يحمل رمزاً ويقف على اليسار، تقع بينهما إشارة سحرية، هي غالباً قرص الشمس او دائرة مطوقة بالنسر المقدس. وتتجسد هذه الصور في المسلات والمنحوتات والألواح الحجرية المرتبطة بهيكل المعبد المركزي في القسم الملكي "أؤغاريت"، كما هي المسلّة الحجرية المعبدية المستعارة من متحف حلب، ومعروفة تحت عنوان "الاحتفاء بإل". يبدو "إل" على عرشه على اليمين متوجاً ، يتقدم باتجاهه احد الكهنة معتمراً اللبادة الفينيقية حاملاً الحيّة، وبينهما في الأعلى حفر نقش أشعة الشمس وقرصها الدائري المطوّق بأجنحة الصقر. ونعثر في بعض مشاهد السيراميك على هيئة الحصان الذي يمثل دوراً أساسياً في فروسية القصر والصيد والجيش. فقد استبدل بالحصان في الألف الثاني، وتطورت عجلة الركوب التي كانت اخترعت في العهد السومري. وهنا يظهر عمق التراشح الميثولوجي والمعرفي والصناعي اضافة الى التوأمية الكتابية. ونعثر مثلاً على الأختام البرونزية نفسها، المحفورة بالطرز الشبحية والهيئات التي أعاد رسمها الفنان بابلو بيكاسو بخاصة بعد انتشار كتب الحضارات الشرق أوسطية التي أشرف عليها أندريه مالرو في الستينات عندما كان وزيراً للثقافة في عهد شارل ديغول. تمنح مثل هذه التصاوير الشمولية فرصة للخروج من العصبية الثقافية الأحادية. لأن استنباط الخرائط الذوقية المرتبطة بالطرز والمضامين الميثولوجية لا تتطابق دوماً مع الخرائط "الايديولوجية" أو الاتفاقية. ونلاحظ في المعرض تراشح الذائقة التعبيرية السحرية الكنعانية مع نظيرتها الرافدية السومرية - الأكادية - الآشورية البابلية مروراً ببرزخ العديد من مدن الممالك التي تقع بينهما، مثل "ماري" ثم "حضر" وصولاً حتى الأنباط والتدامرة ودوراً أوروبوس، ناهيك عن حضور الفن الفرعوني بخاصة في فنون حواضر الساحل الفينيقي اللبناني، ابتداء من بيبلوس وحتى صور مروراً ببيروت وصيدا. وهنا يحضر المدى الجغرافي والذوقي الشمولي المتوسطي الذي بلغ تأسيس قرطاجة وبرشلونة وسواهما وكاد هنيبعل ان يقضي على روما في موقعها الأصلي. على البحر الأبيض المتوسط كانت إطلالة "أوغاريت" على البحر الأبيض المتوسط سيفاً بحدين بين النعمة والنقمة. هو مصدر غناها التجاري بسبب موقعها "الاستراتيجي" بين الأناضول الحثيين ومصر والحواضر الرافدية وصولاً حتى عيلام في ايران. وهو ما يفسّر وجود أواني سيراميك أيجه اليونان وقبرص، واستخدام المعادن غير الموجودة مثل القصدير المستخدم في صهر البرونز. كان يُستجلب بعضه من مناجم أفغانستان، ناهيك عن نحت العاة الأفريقي: استخدم إعلان المعرض المحفورة الساحرة التي تمثل غطاء لعلبة عاجية من القرن الثالث عشر قبل الميلاد والمكتشفة في موقع "مينت البيضا" الأوغاريتي وكانت من نصيب "متحف اللوفر"، وتمثل آلهة الخصب التي دعيت في ما بعد بعشتروت تحمل سنابل قمح بين خروفين. كان البحر نقمة على "أوغاريت" أيضاً، فقد وفد منه محاربون غامضون أحرقوا "المدينة - المملكة" عن بكرة أبيها. ولم ينج من الحريق إلا "الرّقم" أرشيف الألواح الآجرية، هي التي استخرج الفرنسيون منها ما يقرب من الألفين، وذلك لأنها مشوية في الأساس في أفران ذات درجات عالية، مثلها مثل المنحوتات البرونزية، وبقيت جميعها سليمة من التشويه.