اذا كان انتقال احزاب المعارضة السابقة الى الحكم، في اطار ما اصطلح عليه بپ"التناوب التوافقي" الحدث الأهم مغربياً لعام 1998، فمن دون شك، تمثل تسوية ملفات حقوق الانسان العالقة، أبرز القرارات المتخذة، في هذه المرحلة الجديدة، التي يتعدى تأثيرها الوضع الداخلي والعلاقة بين مؤسسة السلطة والمجتمع السياسي الى مجمل علاقات المغرب بالعالم. وقد تردد ان عبدالرحمن اليوسفي اشترط عند تكليفه تشكيل الحكومة في شباط فبراير الماضي تسوية قضايا حقوق الانسان التي لم يشملها العفو الملكي في 1994، فهو الذي عرف كناشط في مجال حقوق الانسان، يدرك جيداً أهمية اغلاق هذا الثقب الأسود الذي أساء كثيراً الى سمعة المغرب في الخارج، مثلما ترك ندوباً بارزة على السلام الاجتماعي داخلياً، وفي هذا السياق، اعتبر البرنامج الحكومي، الذي تقدم به الى البرلمان ونال ثقته، ملف حقوق الانسان من الاولويات. لكن، كما يبدو، فان الائتلاف الحكومي القائم على سبعة احزاب وعدد من الوزراء المستقلين، لم يكن موحد الرؤية ازاء هذا الملف، خصوصاً ما يتعلق منه بالاختطاف والاختفاء القهري، اذ ظهر جلياً ان هناك وجهتي نظر متفاوتتين في تقدير خطورة القرار في شأنها، الأولى تخشى المحاسبة والمتابعة الجنائية، فيما تدعو وجهة النظر الثانية الى التعاطي السياسي مع هذه القضايا لبلورة حلول وصيغ قانونية ذكية تسمح برفع الحرج وتحقق في ذات الوقت نتائج تطمئن الرأي العام. وربما كانت وراء ذلك ارادة باخراج الملف عن سلطة الحكومة، فكان ان انتقل الى المجلس الاستشاري لحقوق الانسان، الذي يضم في عضويته عدداً من الوزراء الداخلية، الخارجية، العدل، الاوقاف، حقوق الانسان وممثلين عن احزاب ومنظمات حقوقية ونقابات، حتى لا يرتبط القرار باسم الحكومة او باسم رئيسها. ومن هنا يمكن تفسير ردود الفعل المتضاربة على النتائج التي توصل اليها المجلس، والانقسام على الخطوة التالية، وهل ستكون الاقتصاص من الذين كانوا وراء عمليات الاختطاف وازهاق ارواح العشرات من المعتقلين السياسيين ام التسامح والنسيان؟ وكان للاختلاف على مفهوم المعتقل السياسي اثره على خروج القرار بصيغته النهائية التي استبعدت اعداداً اخرى من سجناء الرأي، ففي البداية تم اعتماد معيار البرلمان الأوروبي الذي يعتبر ان كل من سعى من دون عنف الى تغيير وضع سياسي يعتبر معتقلاً سياسياً، لكن هذا المعيار لم ينطبق سوى على 13 حالة، ولذلك عدل المجلس الى البحث عن معايير ملائمة لوضعية المغرب، فاعتبر بالاجماع ان كل من لم يباشر عملية قتل ولم تكن له علاقة بالمخابرات الاجنبية او لم يطعن في مغربية الصحراء يدخل في عداد المعتقلين السياسيين، الأمر الذي سمح باطلاق سراح ثمانية من الاسلاميين المدانين باغتيال عمر بنجلون 1975 احد قياديي حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يتزعمه اليوسفي، بعدما كان ممثلو الحزب في المجلس يرفضون اضفاء الطابع السياسي على هؤلاء المعتقلين. هيئة محايدة ومن بين المؤاخذات التي سجلت على هذا الصعيد، عدم اسناد مهمة معالجة قضايا حقوق الانسان الشائكة والمرتبطة بتوترات سياسية الى هيئة محايدة ومستقلة ملتزمة المعايير الدولية لحقوق الانسان، بل ان أسر المختطفين طالبت فور الاعلان عن نتائج التحقيقات التي اجراها المجلس الاستشاري بتشكيل لجنة وطنية مستقلة تتألف من ذوي الضحايا وبرلمانيين اعضاء في منظمات الدفاع عن حقوق الانسان. كما أثيرت تساؤلات عن منهجية العمل التي اتبعها المجلس في تحديد القضايا والمصادر التي استمد منها معلوماته نظراً الى اغفال عدد من الحالات التي كانت تنتظر المعالجة والتي سبق اعلانها من قبل الهيئات الحقوقية وأسر الضحايا، ولعدم توضيح اسباب وظروف الوفاة بالنسبة لمن اعلن عن وفاتهم، اضافة الى الغموض الذي اكتنف من صنفهم المجلس في خانة "الاختفاء في ظروف غير معروفة" وخانة "من تتوفر قرائن قوية على وفاتهم" و"من لم تحدد هويتهم". وعلى رغم ان غالبية الذين افرج عنهم من المنتمين للحركات الاصولية، الا ان قياديين فيها اعلنوا ان ملف حقوق الانسان ما زال مفتوحاً ما دام لم يشمل جميع المعتقلين الاسلاميين، فضلاً عن رفع الاقامة الجبرية عن الشيخ عبدالسلام ياسين مرشد جماعة "العدل والاحسان". واليساريون من جهتهم رفضوا القول باغلاق الملف لعدم البت في عودة رفيقهم ابراهام السرفاتي المنفي في باريس. اما منظمات حقوق الانسان التي رأت في النتائج المعلنة انها جزئية ولم تذهب الى مداها، فقد طالبت بمتابعة المتورطين في عمليات الاختطاف والتعذيب قضائياً، والكشف عن كل الحقائق المتصلة بها، اذا اريد للماضي ان يطوى. الاعتراف بالاختطاف ومهما يكن من أمر، فقد حظي القرار بترحيب واسع على المستويين الداخلي والخارجي، كونه اعترف للمرة الأولى بالمختطفين، حيث حدد 112 مختطفاً بينهم 56 حالة وفاة. فخلال السنوات الماضية كانت السلطات المغربية تتجنب الحديث في هذا الموضوع، وحتى المجلس الاستشاري لم يكن ليشير بوثائقه الى ملف الاختطاف. كما ان هذا القرار الذي سلط الاضواء على حقبة من تاريخ المغرب السياسي اقترنت بالتوتر والاحتقان، انطوى على رسالة واضحة تفيد بالقطع مع الماضي المثقل بالتفاصيل المؤلمة، والسعي لاقامة دولة القانون، فمنذ بداية الستينات مؤامرة 1963 انتشرت ظاهرة الاختطاف، التي يعتبرها دعاة حقوق الانسان من أبشع الانتهاكات التي تصادر حق الانسان في الحياة وتستهدف تدمير قواه الجسدية والعقلية بشكل تدريجي. لقد ظل ملف ضحايا الاختطاف الذي عرف تصاعداً في السبعينات على خلفية المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين ضد العاهل المغربي عامي 1971 و1972، من اكثر الملفات حساسية للناشطين في حقل حقوق الانسان، كما استغل على المستوى الخارجي لشن حملات دعائية ضد المغرب. وتعد قضية اختطاف المهدي بن بركة التي قدم عنها المخرج الفرنسي ايف بواسيه احد اجمل افلامه، "الاغتيال"، من اشهر قضايا الاختطاف، ولعلها مفارقة ان تتزامن اجراءات تسوية ملفات حقوق الانسان وذكرى اختطاف الزعيم الاشتراكي المغربي، في قلب العاصمة الفرنسية باريس،قبل ثلاثة وثلاثين عاماً. أما عن اسباب الوصول الى هذا المستوى المتقدم من تعامل الدولة المغربية مع ملف حقوق الانسان، فهناك اضافة الى اسر الضحايا التي تعبأت بشكل متواصل لتوجيه الانظار الى البحث عن مصير ابنائها وذويها، اصرار المنظمات الحقوقية المغربية على طرح هذا الملف واعتباره جزءاً حاسماً في التحول الديموقراطي، ذلك ان حركة حقوق الانسان في المغرب تعد من اقدم الحركات الحقوقية في الوطن العربي، وهي نشأت في احضان القوى السياسية المعارضة آنذاك، وجاءت افرازاً للأزمة التي عاشتها نتيجة التضييق والمنع اللذين مورسا ضدها، وتبعاً لذلك اصبحت هذه الحركة امتداداً للعمل السياسي واحدى الوسائل التي تعمل على اسناده وحمايته. ومع اتساع رقعة الصراع السياسي في المغرب، والمراهنة على الرأي العام كسلاح في المواجهات اليومية ظهرت، على فترات، ثلاث تنظيمات هي: العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الانسان 1972، الجمعية المغربية لحقوق الانسان 1979، والمنظمة المغربية لحقوق الانسان 1988 حققت، في ظرف وجيز، خطوات هامة على طريق تدعيم المجتمع المدني ونشر ثقافة حقوق الانسان. وفي خضم هذا الصراع طرأ التحول الكبير باعلان مشروع "الميثاق الوطني لحقوق الانسان" في 10 كانون الأول ديسمبر 1990، لتحتل قضايا المعتقلين السياسيين والمنفيين والمختطفين مكان الصدارة، الى جانب الحقوق المدنية والسياسية، واتخاذ يوم 3 آب اغسطس من كل عام مناسبة للاحتفال بحقوق الانسان. والواقع، ان المغرب ومنذ أيار مايو 1990، تاريخ انشاء المجلس الاستشاري لحقوق الانسان، شهد انفراجات كبيرة كانت موضع تنويه المنظمات الحقوقية المغربية والدولية، حيث تمت تصفية الكثير من الملفات الشائكة بالاضافة الى بعض التعديلات التشريعية. وتوقفت ظاهرة الاختطاف نهائياً، اذ لم تسجل في التسعينات الا حالة واحدة 1991، كما طرأ تطور ايجابي على وضعية المعتقلين السياسيين، فأطلق سراح النقابيين المحكوم عليهم في اضراب كانون الأول ديسمبر 1990، كما اطلق سراح حوالي 280 من المعتقلين والمعتقلات بقلعة مكونة والعيون، وهما اثنان من اماكن الاختطاف الشهيرة الى جانب اكدز وتازمامارت، و28 من قدماء العسكريين الذين اختطفوا من السجن المركزي في القنيطرة العام 1973 وبقوا معتقلين في تازمامارت مدة 18 عاماً. وفي العام 1994 اطلق سراح اكثر من 400 معتقل وسمح بعودة عشرات المنفيين خارج البلاد. وفي غضون ذلك جرى الافراج عن عائلة الجنرال اوفقير وزير الداخلية المغربي الاسبق التي كانت قد وضعت تحت الاقامة الجبرية في اعقاب المؤامرة التي قادها الجنرال في 16 آب اغسطس 1972 لاسقاط طائرة الملك الحسن الثاني العائد للتو من زيارة لفرنسا لكن المحاولة باءت بالفشل وانتحر الجنرال سيء الصيت. كما تم اطلاق سراح الاخوة الثلاثة المعروفين ببوريكات مدحت، بايزيد، وعلي ابناء الجنرال التونسي عبدالرحمن علوان الذي كان مسؤولاً عن الأمن في المغرب قبل الاستقلال، وكانوا اتهموا بالتجسس لمصلحة فرنسا التي يحملون جنسيتها. وتسببت قضيتهم في وقت ما بتعكر الاجواء بين الرباطوباريس، خصوصاً بعد اختطاف شقيقتهم خديجة في ايلول سبتمبر 1982 في العاصمة الفرنسية على ايدي عناصر من الاجهزة المغربية. وفي كل الاحوال، لم تعد السجون المغربية كما كانت قبل اربعين عاماً بعدما انفتحت بواباتها الضخمة على مصراعيها، وما يجري العمل عليه الآن هو وضع خطط وآليات تعويض المتضررين وأسر الضحايا، حيث تقوم لجان خاصة بالتدقيق في اوضاع المفقودين الذين تقول منظمة العفو الدولية ان اعدادهم تربو على 568 مختفياً، بينهم 488 من سكان الصحراء الغربية، وتسليم شهادات بأسماء من توفي من المختطفين، والنظر في حالات بعض من لم يشملهم قرار العفو لعام 1994، ليكون كل شيء جاهزاً قبل مرور الستة اشهر التي حددها العاهل المغربي في خطابه الاخير امام البرلمان كسقف زمني لطي ملف حقوق الانسان بصفة نهائية، كي لا يبقى المغرب يجر وراءه سمعة ليست مطابقة لواقعه وسمعته الحقيقية، على حد تعبيره