هناك ثلاثة أسوار ثقافية بارزة في العالم: سور نهر التايمز في انكلترا، وسور نهر السين في فرنسا، وسور الازبكية في مصر والذي هو أكبر سوق شعبي للكتب في العالم العربي، يضاهي ارصفة "الهايد بارك" في لندن، و"الحي اللاتيني" في باريس، و"سنترال بارك" في نيويورك، و"الفان هاوس" في شتوتغارت. ولأنه أول معرض مفتوح ودائم للكتاب، يؤمه يومياً القرّاء الفقراء، كما تؤمّه أعداد غفيرة من الطلبة والباحثين والمثقفين والمستشرقين والاجانب. معارض الكتاب الشهيرة، من فرانكفورت إلى القاهرة، ومن باريس إلى بيروت، أخذت عنه فكرتها. ولهذا السور قصة مثيرة تضاهي أكثر القصص تشويقاً. يقع السور في ميدان الأزبكية الاوبرا حالياً الذي يتوسط مدينة القاهرة، وكانت تحيط به قصور وحدائق الاسرة المالكة، ومعالم مصر القديمة. فإلى جنوبه يقع "قصر عابدين" الذي يختزن ذاكرة العاصمة، ويبوح من خلال فنه وطرازه المعماري بارث ثقافي وتاريخ عريق. وإلى الشمال ترابط حديقة ذات اشجار باسقة تتدلى اغصانها بقوة الزمان، وتنعش الزائرين بظلالها الوارفة. إنها حديقة "الازبكية" التي يناهز عمرها الستة قرون. وكان من الطبيعي أن يحتضن الميدان دار الاوبرا المصرية 1869 - 1971، ثاني أوبرا في العالم بعد ايطاليا. فكم شاهدت جدرانها عظماء العالم وملوكه ورؤساؤه. اما مسرحها فاعتلاه كبار الممثلين والمطربين والفنانين في العالم، لتحلق اصواتهم في سماء القاهرة وتعانق سحر لياليها الحالمة. ولم يجد الباعة الجوّالون من "الكتبجية" أفضل من هذا المكان العابق بالفن والثقافة، لعرض بضاعتهم على أرصفة الحديقة. واستهوت تلك الطريقة الطريفة الناس، كما جذبتهم أسعار الكتب التي تتراوح بين الزهيد والباهظ. من ازبك إلى الخديوي اسماعيل وسرعان ما أصبحت حديقة الأزبكية مركز جذب للمثقفين والجمهور، ليس بسبب السور الثقافي فقط، وانما لرؤية مشاهير مصر من المطربين والممثلين والأدباء والسياسيين. فكثيراً ما شدا عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وتعالت اصوات يوسف وهبي وجورج ابيض وزكي طليمات، فوق خشبة مسرح الازبكية المواجه للحديقة. بل إن المقاهي المجاورة، مثل كازينو "اوبرا" وقهوة وبار "ماتاتيا" و"البوستة"، كانت مدارس تخرج منها كبار الوطنيين والزعماء والصحافيين. كانت منطقة الازبكية واحدة من مجموعة برك تتخلل مدينة القاهرة. واول من قام باعمارها، قبل ستّة قرون، المملوك ازبك الذي كان من مماليك الاشرف برسباي، ثم اصبح من مماليك الظاهر "حقنق". تولى أزبك وظائف عدة، حتى اصبح من كبار المخططين المعماريين، وأنفق على إعداد هذه المنطقة مبالغ طائلة حتى أصبحت مثار اعجاب الناس فأسرعوا يبنون حولها القصور الفاخرة، والفنادق مثل فندق شيبرد القديم. وقد اتخذ بونابرت قصر محمد بك الالفي إبان الحملة الفرنسية 1798 مقرا لقيادة جيشه، واقام في الجوار "مسرح الكوميدي فرنسيز" للترويح عن جنوده. ذاكرة المكان كما أنشأ أزبك مسجداً فارتبط به اسم الازبكية، واحتفظت حديقة الازبكية التي شيدها وجلب إليها مجموعة من الأشجار النادرة في العالم، ببركة جميلة في وسطها تختال فوقها قوارب النزهة. وقام الخديوي اسماعيل بردمها لانشاء دار الاوبرا، كجزء من الاحتفال التاريخي بافتتاح قناة السويس الذي أنفق عليه مليوناً واربعمئة الف جنيه في ذلك الوقت. وقد ظلت حديقة الازبكية محتفظة بسورها حتى قيام ثورة تموز يوليو 1952، حيث صدر قرار بهدم السور الحديدي حتى يتاح للشعب دخولها بلا عوائق. يقول الشيخ محمد ابراهيم الشربيني اكبر بائعي السور سناً، إن البداية الحقيقية لافتراش الكتب هذا السور تعود الى العام 1926. فقد قام حينذاك المرحوم أحمد الحكيم الكتبجي بجر عربته الكارو المحملة بالكتب من منطقة السيدة زينب إلى ميدان الازبكية وهناك استراح على السور، فقلده باقي البائعين الذين كانوا يعبرون بالمقاهي لعرض كتبهم على المتنزّهين. أخذ هؤلاء يستريحون وقت القيلولة عند جدار السور، ومنهم المعلم خربوش اشهر بائعي الكتب القديمة الذي اعترض على مطاردة البوليس الانكليزي لأبناء حرفته من "الكتبجية" ورفض دفع المخالفة التي حررت بحقّه وقدرها 15 قرشاً، فيما كان يتراوح سعر أغلى كتاب بين 3 و5 قروش. وقرر البوليس الانكليزي الاستعانة بالبلدية، ففتحت خراطيم المياه على الكتبجية. لكن هؤلاء لم يستسلموا، بل عملوا بنصيحة احمد الحكيم الكتبجي فغمروا السور والرصيف بالكتب التالفة للتعبير عن احتجاجهم وصمودهم، واحتفظوا بالكتب السليمة فوق عرباتهم الكارو، حتى يستطيعوا جرها وقت اللزوم. وكانت النتيجة أن انتزعوا أول تصريح يسمح لهم بالوقوف أمام سور الازبكية. يتذكّر الشيخ الشربيني تلك الأحداث فيقول: في العام 1949 توجهت مجموعة من الباعة المتجوّلين على رأسها احمد الحكيم صاحب "مكتبة الحكيم"، ومحمد رضوان البارودي، وكامل الاسكندراني، الى مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد ورئيس الحكومة، وشكوا إليه مطاردة البلدية والانكليز لهم فلقيت شكواهم قبولاً واستخرج لهم وزير الداخلية فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد الجديد حالياً 13 تصريحاً. وفي العام 1957 بعد قيام الثورة، استُخرجت لهم تصاريح او تراخيص، جددت سنة 1971 في عهد الرئيس الراحل انور السادات. فعرف الكتبجيّة الاستقرار حتى سنة 1993، وبالتحديد يوم 5 حزيران يونيو حين اطاحت الجرّافات 34 كشكاً ومكتبة من مكتبات السور ال 46. وكانت النتيجة اختفاء 250 ألف كتاب في اربع ساعات فقط. أما عمليّة الهدم فكان هدفها التمهيد لبناء امتداد كوبري ابو العلا الجديد وتطوير ميدان الازبكية وتجميله. لم يتوقف الامر عند هذا الحدّ، بل نُقل سور الازبكية في العام نفسه الى مكان منعزل في منطقة الدرّاسة، بين مستشفى الحسين الجامعي ومقابر جبل الدراسة. ونسي المسؤولون كما يقول الحاج حسين ابراهيم الكتبجي الدور الثقافي والتاريخي الخطير الذي لعبه السور في مكانه الاصلي. ويترحم الحاج على ايام الدكتور ثروت عكاشة الذي كرّم باعة السور حين كان وزيراً للثقافة، وأتى على ذكرهم في كتابه "القاهرة في ألف عام" 1969 إذ أفرد للسور وتجاره فصلاً مستقلاً. ويذكّر الحاج ابراهيم أن السادات كان يتصيد الكتب في شبابه من سور الازبكية كلما قصد القاهرة، كما يروي في كتابه "البحث عن الذات". أما محمد نجيب، اول رؤساء مصر، فكان يذهب اسبوعيا لشراء الكتب القديمة. ويقول إنّه "أطيب زبون"، الا انه لم يعد يراه أو يسمع اخباره إلا من الراديو والصحف بعد قيام الثورة، حتى علم بمأساته ثم وفاته منذ سنوات قليلة. المهمّ أن "الكتبجية" لم يتراجعوا، بل خاضوا معركتهم من دون كلل من أجل العودة إلى مكانهم الأصلي. وبعد معركة قضائية ساندها المثقفون والصحافة اصدرت المحكمة الادارية العليا حكمها لصالحهم، وألزمت المسؤولين اصدار تراخيص لهم فعادوا مظفرين الى مقرهم الاصلي في 19 تموز يوليو من العام الحالي، حيث افتتح السور رسمياً وهو يضم 132 كشكاً ومكتبة، ويقع بين بداية ميدان الازبكية وسور حديقة الازبكية في جوار أوتوبيس العتبة. لكل كتاب حكاية قد لا يعرف القرّاء المنكبّين على أكداس الكتب بحثاً عن صيد ثمين، أن لكلّ كتاب في "سور الأزبكية" حكايته. فمعظم تلك الكتب آت إما من المزادات، أو من الزبائن أنفسهم، أو باعة الروبابيكيا او اللصوص من الخدم في القصور والفيلات والمنازل. ومن اشهر ما سرق من المكتبات وبيع في السور، مكتبة علي ماهر رئيس وزراء مصر السابق، ومكرم عبيد الزعيم الوفدي، واحمد لطفي السيد استاذ الجيل، واحمد كامل مرسي شيخ السينمائيين. أما مكتبة المفكر سلامة موسى، فقد باعها الورثة لتجار السور بعد ان رفضت دار الكتب المصرية شراءها. ولقيت مكتبة المستشار محمود بك السبع مصيراً مشابهاً، مع العلم أنّها كانت تحتوي على مجموعة من الكتب الأجنبيّة النادرة، ومنها نسخة من كتاب "الحملة الفرنسية" المطبوع في فرنسا والمكون من 36 مجلداً. وقد اشترى الشيخ الشربيني الكتاب من الورثة ب 300 جنيه سنة 1958، ثمّ باعه في اوائل الستينات ب 4000 جنيه محققاً اكبر ربح في حياته. ولا يزال الناس يذكرون ربّما حكاية ذلك المحامي الذي عثر، خلال تجواله حول السور، على نسخة من مسرحية انطون الجميل رئيس تحرير جريدة "الاهرام" السابق، وهي بعنوان "وفاء العرب"، مطبوعة في الاهرام سنة 1909، وعليها إهداء بخط الجميل إلى الزعيم سعد زغلول. وهذا نص الاهداء: "الى مولاي صاحب الفضل والسعادة سعد باشا زغلول تقدمة حب واعتبار". أما أحدث طرائف مخلفات السور، كما نشرتها مجلة "آخر ساعة" الاسبوعية منذ ايام، فهي عثور مدرس ابتدائي على مذكرات يوسف صديق احد قادة ضباط ثورة تموز يوليو 1952، فقد وجد في سوق "التلات" الذي يتعامل في "الروبابيكيا"، كشكولاً من دون غلاف فأخذ يقلب صفحاته ثم دسه في شنطته، واعطى البائع خمسين قرشاً. وما كان منه إلا أن توجّه إلى المجلّة المذكورة ليبيعها المخطوط الذي أتاح لها أن تحقّق خبطة صحافية لم تخطر على البال، بنشرها مذكرات شخصية بارزة لواحد من ضباط ثورة 23 يوليو. يحكي الصديق مأساته، وغدر الأصدقاء والزمن. والمذكّرات بخط يده، تمتلئ بالقصص الدرامية والميلودرامية، منها انه أراد أن يشارك في جنازة جمال عبد الناصر فأرسل برقيّة وضع صورة منها في كشكول مذكراته فرُفض طلبه. ثم طلب ان يزور قبر الرئيس الراحل، فقيل له: "لن تخرج إلا الى قبرك أنت!". وقد لجأ ضباط الثورة الى تجار السور في بداية الخمسينات لإمدادهم باية وثائق او مذكرات أو معلومات عن الاسرة المالكة وبطانتها. وكان الخدم في القصور الملكية يبيعون هذه الكتب والوثائق لتجار السور. كما يذكر الحاج ابراهيم ان سيدة يهودية في منتصف الخمسينات كانت تمتلك مكتبة شهيرة في البلد، ظلت تتردد على السور وتشتري الكتب النادرة من التجار وتدفع ثمناً مرتفعاً. واكتشف أحد التجار عن طريق المصادفة، أن تلك الكتب بيعت بأسعار خيالية الى "مكتبة الكونغرس" التي تضمّ كتباً كثيرة تحمل اسماء مالكيها الأصليين، واهداءات بخط مؤلّفيها إلى أولئك المالكين. ومن الكتب التي لا تزال تحظى بالاهتمام منذ نشأة السور، "خزانة الادب" للبغدادي و"الخطط" للمقريزي وتاريخ الجبرتي والاغاني للاصفهاني وتفسير القرطبي وغيرها. كانت هذه الكتب تباع بين 3 و5 قروش في البداية، ووصل سعرها في الستينات الى 3 أو 4 جنيهات. أما اليوم فيتجاوز ثمنها 150 جنيهاً. أدباء اليوم زبائن الأمس من الكتب التي يمكن للقارئ أن يشتريها بأسعار متهاودة قياساً بأسعار المكتبات: "كتاب العين للفرهيدي 8 أجزاء، والضوء اللامع لأهل القرن التاسع لشمس الدين السخاوي 12 جزءاً، وكذلك "الالوسي" و"ابن خلدون" و"الطبري" و"ابن عربي". "تفسير القرطبي" 20 جزءاً ثمنه 800 جنيه في المكتبات، أما في السور فيباع ب 200 جنيه، وثمن "صبح الأعشى" 14 جزءاً يهبط من 700 جنيه إلى 150 جنيهاً، و"معجم البلدان" 14 جزءاً يباع ب 40 جنيهاً في حين أن ثمنه في المكتبات 120 جنيه. ويذكّر عبد الرحمن قبيسي، صاحب مكتبة "القبيسي" الذي يجيد لغات عدة، أن السور "سوق سياحي" من الدرجة الاولى، لان السيّاح يقصدونه لطلب الكتب النادرة عن تاريخ مصر والآثار الفرعونية القديمة، خصوصاً الفرنسيين والالمان واليونانيين. اما العرب فيعرفون السور وبضاعته عن ظهر قلب، ومنهم من كون مكتبته الخاصة من السور، ومن افتتح في بلاده أسواراً شبيهة. كما يلاحظ الشيخ الشربيني أن "أدباء اليوم هم زبائن الامس": العقاد، المازني، ابراهيم المصري، يحيى حقي، نجيب محفوظ، يوسف ادريس، صلاح عبد الصبور، ابراهيم اصلان، محمد عفيفي مطر... وبحكم الخبرة فالزبون في السور يراقَب بدءا من نظرة عينيه، ولمساته وهو يقلب الكتاب، وطريقة احتضانه له... وكل هذه المؤشرات تساهم في تحديد تسعيرة الكتاب. أما الزبون المتفرج، وما اكثر هذه النوعيّة من الزائرين، فيُعرف من حركات اقدامه ونظراته السريعة التي تمسح كل شيء ولا تتوقف عند كتاب بعينه. ويذكر الحاج ابراهيم، ان يحيى حقي كان زبوناً "مناكفاً" يساوم كثيراً، فيما كان نجيب محفوظ يكتفي بالمفاصلة المهذّبة. اما العقاد فكان كريماً للغاية، لكنّه كان يقضي نصف نهاره في تقليب الكتب قبل أن يشتري كتاباً واحداً. وحين نسأل الحاج ابراهيم عن الكتّاب المطلوبين بشكل مستمرّ، تكرّ الأسماء على لسانه بطريقة شبه آليّة: مصطفى أمين، فكري أباظة، أنيس منصور، توفيق الحكيم خصوصاً مسرحياته وطه حسين، والعقاد، والمازني، واحمد شوقي، وحافظ ابراهيم، وصلاح عبد الصبور، ونجيب محفوظ، والدكتور مصطفى محمود، واحمد رجب، ومحمود السعدني. أما أكثر الكتب مبيعاً في السوق، فهي "أميركا الضاحكة" لمصطفى امين، و"الشوقيات" لاحمد شوقي، و"الف ليلة وليلة" طبعة صبيح 1904، وروايات احسان عبد القدوس. ولا يختلف قارئ اليوم عن قارئ الأمس، لكن المناخ العام هو الذي تغير كثيراً، بدءاً بتغيير معالم منطقة الازبكية نفسها. كان اول شرخ في جدار الثقافة المصرية، عندما امتدت يد الاهمال لتشعل النيران في دار الاوبرا سنة 1971. أما بكاء المثقفين فلم يجدِ، ولم يمنع مشاريع الاستثمار التي غيّرت ملامح المنطقة فلم يبقَ إلا اسمها. والسمة التجارية التي بدأت في السبعينات تزحف على الازبكية رويداً رويداً، إذ تم تحويل ارض الاوبرا موقف سيارات متعدد الطوابق، وحل الباعة والتجار محل المثقفين والقراء