ظن اللبنانيون بعد انتهاء حروبهم وحروب الخارج بواسطتهم العام 1990 ان الوجود الفلسطيني في بلدهم لن يشكل ابداً خطراً على الجمهورية الثانية مماثلاً للخطر الذي شكله بين العامين 1969 و1975، والذي تسبب نتيجة الحروب بتفكيك الدولة وتفتيت الشعب واحتلال اسرائيل قسماً مهماً من الجنوب والبقاع الغربي. وقد تعزز هذا الاعتقاد عندما نجحت الجمهورية الثانية بعد عامين او ثلاثة من قيامها في اقناع الفلسطينيين، خصوصاً الموجودين في الجنوب، بتسليم اسلحتهم الثقيلة والمتوسطة والتفاهم معهم على ترتيب معين يحول دون عودتهم عامل تخريب او اذى للبنان، من دون الحاجة الى دخول القوى العسكرية والامنية الرسمية الى مخيماتهم. لكن عملية اغتيال زعيم "جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية" المعروفة ب "الاحباش" بعد ذلك على يد لبنانيين وربما فلسطينيين، وبالاستناد الى فتوى شرعية قدمها لهم "أمير" اسلامي فلسطيني ملقب ب "أبو محجن" وفشل الاجهزة المختصة في القاء القبض عليه بسبب لجوئه الى احد المخيمات الفلسطينية المهمة في الجنوب، زعزعت ذلك الاعتقاد بانتفاء خطر الفلسطينيين، وعاد اللبنانيون الى التوجس من الفلسطينيين وتحديداً من امكانية استعمالهم ضد البلد او ضد سورية او ضد اي جهة اخرى. الا ان السلطة اللبنانية اعادت بعض الاطمئنان الى هؤلاء عندما نجحت وبسرعة في القاء القبض على منفذي عملية الاغتيال وفي تسليمهم للقضاء، وكذلك عندما تمكنت بالتعاون مع سورية من افهام فلسطينيي المخيمات، وتحديداً الجنوبية منها، ان مس السلم الاهلي ممنوع وكذلك الامني وعندما جعلتهم مسؤولين معها عن هذا الامر. طبعاً لم يدم هذا الاطمئنان طويلاً، اذ احلت الحوادث الامنية التي شهدها ساحل إقليم الخروب ومدينة صيدا في الاشهر الاخيرة شعور القلق مكانه، وكان ابرزها اطلاق النار على بائعي خمور في تلك المنطقة ولاحقاً قتل احدهم وجرح آخر واغتيال شرطيين في ساحة صيدا بطريقة بالغة الاحتراف، ومحاولة اغتيال لبناني عامل في الجانب العسكري في تنظيم "الجهاد الاسلامي لتحرير فلسطين"، ورافق هذا الاعتقاد مطالبات بإنهاء الجزر الامنية التي تشكلها المخيمات الفلسطينية، خصوصاً في الجنوب منذ انتهاء الحروب في البلد بعد عودتها الى سيرتها الماضية اي الى ملاجئ للخارجين على القانون وللنشاط السياسي المضر بالنظام اللبناني، وللعناصر التي يمكن ان تؤذي لبنان وسورية لاستمرار ارتباطها بالرئيس ياسر عرفات ولتحولها اداة لسلطته الوطنية او لارتباطها بإسرائيل مباشرة وان مداورة. وحفلت الصحف ووسائل الاعلام الاخرى على مدى ايام بأخبار وتحليلات تدعو الى ازالة الخطر الذي ترتبه المخيمات على مسيرة السلم الاهلي وعلى صمود لبنان وسورية في مواجهة مساعي اسرائيل المستمرة لفك التلازم بين مساريهما التفاوضيين معها، عبر استدراج لبنان الى تسوية منفردة جزئياً او كلياً او امنياً او سياسياً. طبعاً لم يحصل اي شيء من ذلك، اذ استمر وضع المخيمات الجنوبية، خصوصاً عين الحلوة، على ما هو عليه منذ العام 1992، اي حكم ذاتي في الداخل وتطويق عسكري وأمني لبناني من الخارج لا يحول دون تحرك الفلسطينيين للعمل او لأي شيء آخر لكنه يراقبهم باستمرار. لماذا لم تتحرك السلطة لإقفال الملاجئ الخطيرة في المخيمات على رغم اجماع اللبنانيين على اتهام اسرائيل وعرفات بالافادة منها لا بل باستغلالها لإرباك سورية من خلال ضرب لبنان؟ القريبون من السلطة يعترفون بأن الاحداث الخطيرة التي شهدها ساحل إقليم الخروب ومدينة صيدا بالذات والربط بينها وبين اتفاق السلطة الوطنية الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية على ضرب ما يسميانه الارهاب برعاية أميركية، والذي هو ارباك للقوى العربية المناهضة للسلم بالمفهوم الاسرائيلي له، يعترفون بأن هذا الربط يثير قلق اللبنانيين ويبرر مطالبتهم بإقفال المخيمات - الملاجئ من المخلين بالامن ومثيري الشغب. لكنهم يلفتون الى ان المعلومات التي حصلت عليها السلطة لا تشير الى ربط بين تلك الحوادث الأمر الذي لا يدفعها الى تغيير الاستراتيجية المعتمدة تجاه المخيمات الفلسطينية لا سيما الجنوبية منها. لكنها ترى ان مواجهة ذلك لا تكون بحرب مخيمات جديدة خشية ان يكون هدف المتواطئين استدراج لبنان الى حرب كهذه من اجل تحقيق اهداف عدة، منها استثارة العالم ضد "القمع العسكري" الذي يتعرض له فلسطينيولبنان بعد القمع السياسي والاجتماعي الذين تعرضوا له منذ اعوام، وتالياً فرض سياسة لبنانية معينة حيالهم تؤدي لا الى تحسين اوضاعهم المعيشية فقط بل ايضاً الى تجذيرهم في لبنان تمهيداً لتوطينهم فيه. ومنها ايضاً استصدار موقف دولي ضد لبنان، خصوصاً اذا لم تنجح السلطة في دخول المخيمات في سرعة تتبعه اجراءات لا يمكن رفض التجاوب معها، ومن شأنها الحاق الضرر بالموقف اللبناني - السوري من عملية السلام وبالفصائل الفلسطينية التي تمارس نشاطات يصنفها العالم في خانة الارهاب. الا ان القريبين من السلطة اللبنانية انفسهم يدركون مخاطر تجدد الاحداث الامنية وتحولها فلتاناً، وقد تشددوا بمساعدة سورية والحلفاء في المخيمات في ضبط الوضع. اما القريبون من الفلسطينيين فيوافقون القريبين من السلطة على امرين. الاول عدم وجود روابط بين احداث صيدا وساحل إقليم الخروب. والثاني وجود قرار اسرائيلي باستغلال اي ثغرة في لبنان ومنها المخيمات الفلسطينية للإجهاز على القضية الفلسطينية بجعل التوطين حقيقة واقعة وبإضعاف الموقف اللبناني - السوري. لكنهم يعتقدون بأن السبب الابرز لإبقاء الوجود الفلسطيني على حاله الراهنة خصوصاً في مخيمات الجنوب، استمراره ورقة صالحة للاستعمال في وجه عرفات او في وجه اسرائيل او في وجه الولاياتالمتحدة. ان الجهة المستهدفة هي لبنان وسورية، او بالاحرى سورية بواسطة لبنان. ويعود ذلك الى قلة الاوراق القابلة للاستخدام منذ بدء عملية السلام ومنذ استتباب السلم الاهلي في لبنان. ويعود ايضاً الى عدم القدرة على استعمال الوجود الفلسطيني في سورية بطريقة فاعلة لأن السلطة فيها تمسك تماماً بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين ولأن لا مصلحة لها في جعلهم اداة تهز الامن وتقلق النظام، خصوصاً ان خطوط المواجهة بين سورية واسرائيل هادئة عموماً لاعتبارات عدة لا يمكن التشكيك فيها، ويعود اخيراً الى معرفة أن اوراقاً لبنانية معينة قد يبطل استعمالها لسبب او لآخر والى الحاجة الى اوراق اخرى. طبعاً، يستدرك هؤلاء بقولهم ان ليس لدى فلسطيني المخيمات القدرة على مواجهة القرار اللبناني - السوري بإبقائهم ورقة. وقد لا يعترضون على ذلك بعدما باتوا متأكدين ان عملية السلام ستكون على حساب القضية الفلسطينية وستكون تحديداً على حسابهم كلاجئين، اذ لا يبدو ان احداً مهتم بعودتهم في ظل رفض اسرائيل المطلق لذلك وفي ظل الجهود الهادفة الى توطينهم والتي تبذلها اكثر من جهة دولية واقليمية، الا انهم يعترضون على حرمانهم ابسط مقومات العيش، مثل حق العمل في القطاع الخاص والحصول على خدمات صحية واجتماعية وتحسين ظروف الاقامة البائسة في المخيمات. وقد رفعوا باستمرار هذه المطالب التي لم تجد تجاوباً بحجة ان استتباب الحياة اللائقة خطوة نحو التوطين. ما هي الصورة السياسية للمخيمات الفلسطينية اليوم خصوصاً في الجنوب؟ يجيب القريبون انفسهم من الفلسطينيين بالآتي: 1 - لا يزال لحركة "فتح" وجود واضح في المخيمات ولا يزال عرفات يقدم اموالاً للحركة ولعوائل الشهداء، انما بشكل غير منتظم بسبب شح الاموال، كما انه يقدم اموالاً الى المنشقين رسمياً عن "فتح" الامر الذي يبقي العلاقة معهم قائمة. وهذا الامر تعرفه السلطة اللبنانية وسورية ويستطيع أنصار عرفات التحرك مثل غيرهم. وظهر ذلك اكثر من مرة عندما كان يؤتى ببعضهم الى بيروت لمقابلة فاروق قدومي أبو اللطف كلما زار لبنان. 2 - لا يزال لعرفات نوع من الود عند فلسطينيي المخيمات المستقلين عن اي تنظيم او فصيل ومن المنضوين تحت لواء فصائل معارضة. ونظراً الى وجود عصبية فلسطينية والى كون ابو عمار مفجّر الثورة الفلسطينية منذ العام 1965، والى كونه حصل على شيء وان كان قليلاً ويحاول تحقيق شيء، في حين ان الآخرين لم يفعلوا شيئاً. 3 - المستقلون هم الشريحة الاكبر من سكان المخيمات خصوصاً في الجنوب، وكتنظيمات هناك الفصائل المواجهة لسورية التي تعتمد الوسائل الامنية للسيطرة على الناس اكثر من اي شيء آخر. وهناك الجبهتان الديموقراطية والشعبية اللتان تحظيان بنوع من التعاطف لأن لهما، على حجمهما المعروف، وجوداً في الداخل وآخر في الخارج. وهناك الاسلاميون الذين ينتمون الى "الاحباش" والى "الجماعة الاسلامية" المتخاصمين. وظهورهم في المخيمات حصل نتيجة دخول اللبنانيين من هذين الطرفين الى المخيمات وسعيهم لاستقطاب الجمهور الفلسطيني. ولا يعني ذلك ان هذا الجمهور غير متدين. لكن معظمه غير اصولي او متشدد على النحو الذي تحاول التيارات الاسلامية ان تظهره. اما الاسلاميون الفلسطينيون اي حركة "حماس" و"الجهاد الاسلامي" فإنهم موجودون. وشعبية "حماس" ترتفع اثر كل عملية، لكنها تتوقف بتوقف "العمليات". والحركة ليست تنظيماً بالمعنى الذي كانت ولا تزال عليه الفصائل الفلسطينية الاساسية والمؤسسة. اما "الجهاد" فقد حاول اقامة نوع من تنظيم خصوصاً من أشخاص مستعدين للقيام بعمليات بعضها انتحاري. ونظرة البعض اليه في المخيمات حذرة لأنه يلقى دعماً ايرانياً مباشراً. وقد غضب فلسطينيون كثيرون عندما اتهم مرشد الجمهورية الاسلامية علي خامنئي الرئيس عرفات بالخيانة على رغم اعتراضهم على سياساته ومواقفه ورفضوا اي تدخل منه في هذا الموضوع. 4 - الاجهزة الامنية اللبنانية موجودة في المخيمات وكذلك اجهزة جهات اخرى اقليمية وربما دولية. 5 - ان انضواء معظم الفلسطينيين تحت لواء الفصائل في المخيمات ناجم عن رغبة في تأمين لقمة العيش. فهؤلاء بعد كل ما حصل لهم وبعدما ادركوا ان تضحياتهم ذهبت سدى وان عملية السلام سترمي في النهاية الى توطينهم، باتوا خائفين. فهم يرفضون التوطين من جهة ويدركون استحالة عودتهم الى اراضيهم او على الاقل الى قسم منها من جهة اخرى. ويعون ان عليهم تحسين ظروف حياتهم من جهة ثالثة لأن استمرار اوضاع المخيمات كما هي سيؤدي لا محالة مستقبلاً الى تحولها خطراً على الفلسطينيين اولاً ثم على لبنان، لذلك أقلقتهم احداث صيدا الاخيرة واستنفار الجيش قرب المخيمات لأنهم غير راغبين في المواجهة ولأنهم لا يملكون ادواتهم ولأنهم يعرفون انهم سيخسرون وان ملكوا هذه الادوات، وقد غادر بعضهم المخيمات تحسباً