لن يمل الذين يكتبون عن ساراييفو اليوم، عن القول انها تشبه بيروت ما بعد الحرب. والحال أن المدينتين متشابهتان في مجالات كثيرة، ومع هذا نراهما مختلفتين، فساراييفو لا تزال على فقرها أو لا تزال تبدو كأنها لم تخرج من فقرها، ولم يأتها السياح، ولم يقبض لها من الثروات ما يساهم في إعادة تعميرها. الى متى ستظل ساراييفو تنتظر؟ سؤال لا يمكن أن يجيب عنه أحد. في الانتظار يبحث الشبان عن أفق، وتولد الحياة الفنية من رماد غيابها، وتدور الانتخابات النيابية لينتصر فيها المتطرفون. كوزموبوليتية هي ساراييفو لكنها كوزموبوليتية فقيرة. كأنها كوزموبوليتية القوافل والشعوب القديمة التي أعوزتها قدرة الانتقال الى كوزموبوليتية حديثة أغنى وأكثر استهلاكاً وأوسع ضماً لشعوب تتعدى الدائرة الأوروبية - الإسلامية الى الأقصى الآسيوي والافريقي. الآن لم تعد كوزموبوليتية فقيرة فحسب، بل غدت أيضاً كوزموبوليتية فقراء: التداعي والاهمال سمة عامة في مبانيها الهبسبورغية العظيمة، لكن أيضاً في مبانيها البسيطة والصغيرة. نقص المال والحرب تجد آثارهما أين تلفّت: بيوتها وبيوت الطريق الموصلة اليها من كرواتيا تتميز بكثرة الصحون اللاقطة المعلقة على سطوحها أو شرفاتها: صحن واحد للبيت الواحد، كما لو أن الشركات الكبرى التي توزع صحناً كبيراً لكل بناية لم تطأ بلادهم. الشعلتان الأبديتان اللتان أحاطتا بالمدينة من طرفيها وشكلتا مِعلماً من معالمها، تم اطفاؤهما نظراً لكلفتهما. وأهم مما عداه، ربما، أن المشروع الصغير والدكان أو السوبرماركت المتواضع لا يزالان يهيمنان على تبادل المدينة، لكن التسول في ساراييفو طفيف ومحدود تكاد تشهد مثله في دواخل المدن القديمة جميعها. واتصال ساراييفو بالعالم الخارجي قليل المداخل. فيلما سينما حديثان رأينا اعلانات كثيرة عنهما: "أرماغيدون" حيث يلعب بروس ويليز، و"بالب فيكشن" الذي لم يعد حديثاً بما فيه الكفاية. ما خلاهما أفلام قديمة. الصلة بأوروبا يبدو أنها وقفت عند نقطة في الماضي: البيتي فور والكاتو المعروض في الباتيسيريات، والثياب الملبوسة أو المعروضة في الواجهات، تعود كلها بنا الى الستينات. شطرنج يدوي مطاعم "المآكل السريعة" لم تدخلها. لا "الماكدونالد" ولا "بيرغر كينغ". وحتى "البيتزا هت" لم تأت. مع هذا لم أر مطاعم بيتزا بالعدد الذي رأيته في ساراييفو التي يميل أصحاب مطاعمها الصغيرة الى صنع مآكل سريعة جهزوها بأنفسهم كالهمبرغر والتشيزبرغر. إلا أن المطاعم غير البوسنية قليلة جداً هي الأخرى. لقد استطعت، بعد ساعات طويلة من السير في شوارعها، أن أعدّ أربعة منها: اثنين صينيين احدهما مقفل بسبب قذيفة أصابت واجهته، ومطعماً هندياً وآخر لبنانياً. مع هذا هناك اشارات ضعيفة في الوجهة الأخرى: فالشبان الذين يثقبون آذانهم ويثبتون حلقاً فيها، على غرار الشبيبة في الغرب، موجودون على قلتهم. ويبدو ان الدعايات والاعلانات بدأت تتسلل الى حياة أهل سراييفو. بعض حافلات التراموي، مثلاً، تراها مدهونة بلون شوكولا ميلكا الأزرق، ما يبث عنصر اللعب في حياة مدينة كثيراً ما لعبت بالنار. والواضح ان ثمة رغبة لا تزال تعوزها الأدوات: ففي محلة جامع غازي، تم تحويل السوق التقليدي للحرير والنسيج المعروف ب "غازي هوسرف بيك بزيستان"، والمبني في القرن الخامس عشر، الى مجمّع تجاري حديث، إلا أن الدكاكين التي اكتمل تأثيثها لا تزال تنتظر الزبائن الذين لم يفدوا بعد. كذلك قرر البوسنيون ان يكون لهم أيضاً دورهم في الاحتفال العالمي بالأميرة ديانا فأصدروا طابعاً خاصاً بها بمناسبة رحيلها! معرفة العالم ليست يسيرة في ساراييفو. الصحف الأوروبية والدولية يصل بعضها متأخراً يوماً أو يومين. وفي الثقافة هناك اشارات لم تصبح بعد وجهة: طلاب كلية الفنون يعملون في ظل عنوان عام وضعوه على شكل يافطة لنشاطاتهم جميعاً: "الحرية والتعبير". تأثرهم واضح بأجواء طلاب الفنون في الجامعات الغربية: الفيديو آرت والانستاليشن آرت. ولكن الآتين الى ساراييفو قليلون أيضاً، أو أنهم يواكبون في نشاطهم الثقافي سياستها ومأساتها. أحد أهم الأحداث الثقافية في المدينة، كان معرضاً الفنان الحروفي المصري أحمد مصطفى. والممثلة الأميركية غلان كلوز كانت بدورها هناك مع عشرات من ممثلات المسرح في الولاياتالمتحدة جئن الى عاصمة البوسنة كي يمثلن مع نسائها مسرحية "أهداف ضرورية" التي أعددنها عن الحرب ووقعها على النساء. الافتقار الى الأدوات يطول المؤسسات والمباني أيضاً. ربما كان مبنى الادارة البلدية حيث توجد مكتبة ساراييفو والبوسنة مثلاً نموذجياً على ما نقصد: فهذا البناء العائد الى 1896 والمتأثر بالنمط المغربي - الأندلسي موري هو أكبر المباني العامة التي تركها العهد الهبسبورغي وراءه، لكنه أيضاً فضلاً عن قيمته المعمارية ضم المكتبة الوطنية والجامعية التي أحرقها المهاجمون الصرب من التلال الشرقية في بدايات الحرب. يقال ان الأوامر باحراقها صدرت مباشرة عن رادوفان كراديتش الذي درس التحليل النفسي في ساراييفو. أما المسرح الوطني الذي أنشأه الهبسبورغيون شبيهاً بمثيله في فيينا، ولو بحجم أصغر وأهمية أقل، فمطلية جدرانه بالكتابات والشعارات من كل نوع. وبالتأكيد نزفت ساراييفو بعض مثقفيها في الحرب. الحرب بذاتها مدعاة لنزف المثقفين، فكيف حين تضاف اليها الأحقاد والصيغة الرجراجة للسلام والافتقار الى الامكانات والوسائل. حالة أمير كوستوريكا ربما كانت دالة: فالمخرج السينمائي المولود في ساراييفو، المسلم ديانة والصربي أصلاً، والذي لا يزال يسمي نفسه يوغوسلافياً، أخرج في 1995 فيلمه "تحت الأرض" Underground. هذا الفيلم الذي يعيد تركيب بعض محطات التاريخ الحديث ليوغوسلافيا السابقة والذي نال جائزة كان، فصل صاحبه عن ساراييفو بدل ان يربطه بها: برنار هنري ليفي، في فرنسا، كتب بأن الفيلم متعاطف مع الصرب، وجاءه من يحذره بأن هناك من يريد قتله فيما لو عاد الى البوسنة. فبقي كوستوريكا في باريس. متى تخرج من الحرب؟ لم تخرج ساراييفو من الحرب بعد، وهذا من أسباب فقرها المستمر. الى الجدران المصابة والمباني المصدّعة، هناك حشائش باقية على أطراف بعض الطرق وأوساخ متروكة في بعض الأنهار والمجاري. الحالة العسكرية لا تقتصر على المباني والجدران. العسكر، البوسني منه والدولي، حاضر في الشارع وفي حاملات الجنود الدائمة العبور في شوارع المدينة. الكتيبة المصرية تتسلم شارع الفنادق فيقف أفرادها شاهرين سلاحهم بصورة متواصلة وكأنهم ينتظرون الأسوأ. تحس، لوهلة، كأن ساراييفو محكومة بالعسكر علماً ان الحالة العسكرية لا تعني تقييداً للسلوك أو قمعاً للكلام. التنبيهات من الألغام في تلال ساراييفو التي لم تُنزع بعد، مطالبات السفارات الغربية مواطنيها أن يسجلوا أسماءهم لديها أثناء حلولهم في المدينة، ومطالبة الفندق بالاحتفاظ بجوازات سفر النازلين فيه الى أن يغادروه، اشارات الى أن زمن ساراييفو لم يصبح عادياً بعد. هناك أشغال كثيرة متفرقة فيها، ما يجعل أصوات الحفر تنافس الغبار الطالع من الأمكنة، لكن هذا كله لا يرقى الى مشروع إعمار كبير. وهناك قطع وشرائط حديد ومعدن طالعة من الأرض كأنها الجذر المتروك لمنشآت تم اقتلاعها أو هدمها. الحديد هنا يشبه الحشائش التي تتناثر على الأطراف أو تتجمع تحت الجسور. ومن المظاهر التي تؤكد أن عقلية الحرب لا تزال مستنفرة، وصول بعض عليّة القوم الى متحف المدينة الذي كنت أقف قبالته: فجأة اكفهرّ الجو اذ بدأت السيارات السوداء والرانجات أمامها ووراءها، تصل بسرعة فيما الجنود المسلحون يبعدون العابرين عن ساحة المتحف. مظهر ميليشياوي بامتياز يعرفه اللبنانيون جداً. لكن مظاهر الغنى الحربي لا تجدها في ساراييفو. بعد الحرب اللبنانية مباشرة ظهرت سيارات مميزة في بيروت، وقبل أن يعم السيكار والتليفون الخليوي بدأت هذه السلع تتداول في نطاق أهل الحرب وأهل اقتصادها. في ساراييفو لا شيء من هذا. السيارات الصغيرة غير الجديدة لا يخترقها أي شذوذ نافر. أما السيكار والخليوي فمعدومان. في نهار ساراييفو، في طرقاتها وأزقتها، تقع العين على شبان كثيرين يدخنون ويجلسون ساهمين. شيء من التداعي فيهم يشبه تداعي الأبنية. فرص السلوى قليلة للشبيبة، وهذا ما يفسر جزئياً المهرجان الانتخابي الذي شق طريق المدينة وكنا نشاهده من الرصيف: شبان وشابات يملأون السيارات وعربات الخيل وهم يلوحون بأعلام أحزابهم وصور زعمائهم محاطين بصبية صغار. البوسنيون، شباناً وكباراً، لا زال لهوهم قليل الكلفة والاستهلاك. في "مارسالا تيتا" رأينا رجالاً يمارسون لعبة شطرنجهم التقليدية: يحفرون على الأرض مربعات الشطرنج ويجعلون من أحجار كبيرة بيادق بيضاء وسوداء يحركها اللاعبان وسط مشاهدة الكثيرين المحيطين بهما. انها هوايات ما قبل الحرب وما قبل التعميم السريع للتلفزيون وتوسيعه مجالات بثه. ومع هذا فالليل في ساراييفو حي جداً ومسموع الصوت. الشبان والشابات، بالقليل الذي في يدهم، يسهرون ويصخبون. فتيات تراهن يمشين وحدهم في الليل أو تراهن في مقهى. وحول بركة الماء في الساحة العامة تجلس النسوة ويدخنّ، مثل الرجال. ساراييفو، بهذا المعنى، مدينة فرحة إلا أنها تستمد الفرح من ذاتها ومن زادها القليل. ربما كان تماسك العائلة وضعف التقدم الرأسمالي من أسباب هذه القناعة، لكن المرجح أن حركة الحياة هناك ليست صادرة عن استهلاك لا يملكون أسبابه، بل عن عيشهم في جوار الموت ورعشة الحياة التي تتلو الحروب. كل واحد يأخذ وقته ساراييفو لم تتهيأ بعد للانفتاح على عالم خارجي سريع الحركة. فموظفوها يسيّرون أمور الناس ببطء، على ما رأيت أمام شباك تذاكر الباصات وأنا اتهيأ للعودة الى دوبروفنيك. الناس كانوا يتدافعون من غير أن يتقيدوا بأي صف، والموظف كان يأخذ كل وقته في التدقيق غير عابئ بأوقات سفر الباصات التي ربما بدأ بعضها يتحرك بمعزل عن ركابه. السائحة البريطانية التي كانت تقف أمامي قالت: "انه الكومبيوتر حين يستخدم للإعاقة والتأخير بدل أن يستخدم للتسريع". يوم الجمعة كنا في ساراييفو. الناس كانوا يصلّون في مسجد غازي، ومن حول الجامع وجوه كثيرة لنساء ورجال يعبرون ويتوقفون. لا بد أن كثيرين من هؤلاء كانوا صرباً وكرواتاً، إلا أنهم عبروا أو توقفوا فيما ظل الآخرون يصلون. لا هؤلاء استفزوا صلاتهم ولا أولئك استفزوا وقوفهم. هذا المشهد الذي نذكره قديماً في مدننا لا تزال ساراييفو تعج بمثله. كذلك تكتشف هناك ان درجة بعيدة من التهويل بالأصوليين المسلمين كانت قد طغت. فهم لم يصبحوا ظاهرة في ساراييفو. انهم لا يزالون قلة يلتبس أمرها في السوق لكنك تتساءل: هل غدا التعايش هذا صلباً، أم أن حضور القوات الدولية البالغ أفرادها ستين ألفاً وحمايتها له لا يزالان الضمانة التي يعول عليها؟ ساراييفو مثل بيروت، إلا أن درجة التداخل السكاني أكبر، والفرز بالتالي أصعب. أقدم كنائس الروم الأرثوذكس المبنية في بدايات الحكم العثماني موجودة في قلب الحي المسلم. ظاهر العلاقات بين الجماعات لا يشير الى توتر. طبعاً لم يتح لي في نهارين وليلة ان أعرف الكثير عن دواخل ساراييفو. لم أعرف مثلاً مدى التبدل السكني الذي تعرضت له المدينة، الا أن بيوتاً ومناطق سكنية جديدة لم تنشأ على غرار ما حصل في لبنان. هناك تهجير كثير حصل بالطبع ومشكلته لا تزال عالقة: أكثر من مليون وربع مليون مهجر من أصل تعداد سكاني لا يتجاوز الثلاثة ملايين وربع مليون بوسني. إعادة اسكان هؤلاء المهجرين لا تزال من أكثر المشاكل العالقة حرارة وتأججاً. البعض لا يزال مهجراً، البعض حل في مناطق البعض الآخر. الكثيرون من أبناء المهجرين تحولوا في يأسهم مقاتلين في "جيش تحرير كوسوفو". وهناك مئتا ألف قتيل خلّفتهم الحرب، وأطفال معاقون شاهدت عواصم العالم كله عينات منهم. هذه البراكين لم تخمد بعد. إختراع هوية خاصة فولكلوريات التعايش التي نعرفها في لبنان، كأن يرن جرس الكنيسة فيما المؤذن يؤذن، أو كأن تحمل المهرجانات الانتخابية وخطاباتها ما يدل الى اخوة الجميع، لا تنضب أيضاً في ساراييفو. لكن البشر الذين يعيشون معاً ويمارسون فولكلور الوحدة بعدما قتلوا بعضهم بعضاً، ما عادوا مقنعين كثيراً، وما يقولونه ويؤكدونه لا يحمل الى عاقل أو مجرّب كبير اطمئنان. السؤال الفعلي الذي يبقى هو: هل تنجح ساراييفو، ومن ثم البوسنة، في اختراع هوية خاصة بها تندمج فيها الألوان جميعاً؟ الانتخابات الأخيرة لا تريح. الانتخابات أجرتها وأدارتها "منظمة الأمن والتعاون الأوروبي" لتكون الخطوة الأولى في "استراتيجية خروج" القوات الدولية من البوسنة. عملاً باتفاق دايتون نيط بهذه الانتخابات أن تنتج طاقم الحكم للسنوات الأربع المقبلة. وكما في ناميبيا 1989 وكمبوديا 1993 وموزامبيق 1994 وهايتي 1995، نُظر الى الانتخابات كآخر اشراف دولي على الانتقال الى حكم وطني مختار شعبياً. لكن الخشية الآن أن لا تأتي النتائج مطابقة للأهداف ولا يتم توطيد المؤسسات ذات التعدد الاثني والديني. فالتمثيل النسبي المعمول به يرتبط بشكل شبه حصري بالدين والاثنية. هكذا تصوّت كل مجموعة لممثليها الأكثر تطرفاً، وهذا، على الأرجح، ما أخّر اعلان النتائج. ثم ان ميلوسوفيتش لم يسقط في بلغراد. والمخاوف من نار كوسوفو، وربما نار ألبانيا، تبقى في محلها. احدى البوسنيات قالت لنا ان من يشرب ماء ساراييفو يطمئن. أرادت أن تُفهمنا بهذا غنى ساراييفو بالينابيع، وشهرتها بجودة مياهها ومذاقها. وفعلاً حين تطلب قنينة ماء في مقهى أو مطعم هناك يأتونك مباشرة بمياه غازية، لأن من غير المتصور أن يطلب المرء في ساراييفو ماء عادياً للشرب تم تعليبه. مع هذا فأهل ساراييفو شربوا الكثير من مائها ولم يطمئنوا. وفي انتظار ان يطمئنوا، يبقى الاتفاق على أن يستمر الماريشال تيتو في حكم ساراييفو، الاتفاق الوحيد المعمول به