بعد عامين كاملين من العمل الشاق والمتقطع، انتهى المخرج البوسني المقيم حالياً في اميركا، أمير كوستوريكا من تصوير فيلمه الجديد "حلم اريزونا" الذي تدور معظم احداثه في صحارى اريزونا في الولاياتالمتحدة. وهو عمله الرابع بعد ثلاثة افلام حققها في بلده يوغوسلافيا سابقاً، ونال كل منها في حينه واحدة من أهم جوائز مهرجاني "كان" و"البندقية". هنا اطلالة على مسار المخرج امير كوستوريكا وعلى فيلمه الاخير الذي يجسد فيه خير تجسيد نظرته الى السينما كمكان تتجسد فيه الاحلام التي لم يعد لها مكان حقيقي في عالمنا. كان يا مكان… هناك في ساراييفو، التي يغلفها اليوم الدم والنار، فتى يحلم. يمارس اشياء كثيرة، لكنه في نهاية الامر يجلس وحيداً في العتمة يحلم. بماذا؟؟ ب لا شيء وبكل شيء تقريباً: يحلم بالهنود الحمر، بكرة القدم، بنيويورك، بالسينما، بالاسكا، بالغجر. ويستعيد في ذاكرته، كل ما كان حدث معه خلال يومه السابق، ولكن مع كثير من التعديل. هذا الفتى اسمه أمير كوستوريكا، الذي يعيش حالياً في نيويورك، التي يحبها لان كل الناس فيها مشهورون بشكل او بآخر، حيث عاد يحلم من جديد، وهو في السابعة والثلاثين من عمره، مرة اخرى بكرة القدم، وبموسيقى الروك، وبالسينما، وبالغرب الاميركي والاسكا… لكنه يحلم بشكل خاص بالمدينة التي ولد فيها في العام 1955: ساراييفو، وايضاً بالغجر والفقر اللذين زينا طفولته وعاش بينهما رغم انه كان ابن موظف كبير في وزارة الداخلية في جمهورية البوسنة. امير كوستوريكا اليوم سينمائي كبير، رغم انه لم يحقق سوى اربعة افلام طويلة لم يعرض الأخير بعد، لانه بالتحديد كان يعرف كيف يحلم. فالسينما بالنسبة اليه هي فن الحلم بامتياز. "لندع السياسة والافكار الكبيرة للتلفزيون والصحف، ولنكتف بأن نربط السينما بالحلم!". لان هذا هو شعاره، كان من الطبيعي لفيلم امير كوستوريكا الاخير ان يكون فيلماً عن الاحلام، بدءاً من عنوانه "حلم أريزونا"، وصولاً الى الشيء الوحيد تقريباص الذي تمارسه شخصياته، ولا سيما الشخصية الرئيسية التي يلعب دورها الشاب جوني ديب، حيث يتابع المخرج في فيلمه مجرى احلام هذه الشخصية. فالفيلم يبدأ بالفتى وهو يحلم بالاسكا حيث يعيش الناس في الماضي والصقيع في آن معاً، وطوال مراحل الفيلم سيعيش البطل، في الواقع، تجربة تشبه تجربة الشخص الذي رآه في حلمه في الاسكا اول الفيلم. من الواضح هنا - عبر مسار الفيلم - ان امير كوستوريكا انما أراد في عمله ان يقارن حياة البشر بحياة نوع من السمك خاص من المعروف ان شكله يتبدل كلياً حين يصبح بالغاً. بابا في رحلة عمل اذن نستعيد الامور من أولها: امير كوستوريكا مخرج بوسني هو يقول يوغوسلافي ويصر على هذا، لانه رغم انتقاداته للصربيين يصر على ضرورة ان تبقى يوغوسلافيا واحدة موحدة ولكن تلك حكاية أخرى، يعيش اليوم ويعمل في اميركا، حيث حقق فيلمه الاخير "حلم اريزونا". فما الذي قاد الفتى الذي كان يحلم في ساراييفو الى اميركا والى السينما. الواقع ان نجاح كوستوريكا في افلامه الثلاثة السابقة هو الذي جعل اميركا تجذبه. فمنذ اول فيلم طويل له، وعنوانه: "هل تتذكر دولي بك ؟"، وصولاً الى فيلمه الثالث "زمن الغجر"، مروراً بفيلمه الاشهر "بابا… في رحلة عمل" لم يكف كوستوريكا عن نيل الجائزة العالمية تلو الاخرى. عن فيلمه الاول نال جائزة الاسد الذهبي في مهرجان البندقية، وعن فيلمه الثاني نال السعفة الذهبية في مهرجان كان 1985، ومهرجان كان نفسه منحه جائزة ايضاً عن فيلمه الثالث 1989… وهو امر نادر الحدوث بالطبع، نادر الحدوث الى حد انه ربما كان الشيء الوحيد الذي لم يحلم به أمير كوستوريكا في حياته! اذا كان ثمة شيء يميز افلام كوستوريكا، على قلة عددها وتنوع مواضيعها، فإنه ذلك القسط من السخرية المرة والحلم الذي يطبعها. فهو لما غاص في موضوع "سياسي" في "بابا في رحلة عمل" الذي يصور فيه الطفل مالك، وهو يراقب ما يحدث من حوله في عالم الكبار، حتى القبض على ابيه كواحد من ضحايا القمع في عهد تيتو وهو ما تحاول ام مالك اخفاءه عن الاطفال فتقول ان "بابا… ذهب في رحلة عمل"، او حتى حين غاص كوستوريكا في موضوع اجتماعي كما حاله في "زمن الغجر" حيث يرسم صورة لتلك الطائفة من الناس "الرومز" الذين يخطفون الاطفال ويبيعونهم في الغرب… وعندما يفعل هذا او ذاك نجده يغلف افلامه بقدر كبير من الشاعرية المجبولة بالحلم. ولقد كان من الطبيعي له ان يجعل فيلمه الاميركي الجديد يحمل هذين البعدين، بل ويغوص فيهما غوصاً عميقاً. كيف تتعلم الحياة ف "حلم أريزونا" هو كما سبق ان اشرنا فيلم عن الحلم. اذ عبر حكاية ذلك الشاب النيويوركي الذي يدعوه خاله، بائع السيارات، الى ملاقاته والانضمام اليه في ولاية اريزونا، فيتعرف هناك الى امرأة تكبره سناً - كما هو الحال بالنسبة الى العلاقة الرئيسية في "زمن الغجر" - عبر هذه العلاقة يصور لنا كوستوريكا مسيرة تعلم الحياة كما يخوضها الشاب الآتي من نيويورك وهذه المسيرة هي هي كما سبق ان قدمها لنا امير كوستوريكا، عن طريق الصبي مالك في "بابا في رحلة عمل"، ثم عن طريق بائع الاطفال الذي يتولى نقلهم من يوغوسلافيا الى ايطاليا لحساب "عراب" يوغوسلافي، وحين يعود الى وطنه يطالعه موت خطيبته الحامل منه، فيفتح له عينيه ويعلمه طريق الحياة فيكتشف ان ذلك العراب الذي يستغله انما انتزع منه - اول ما انتزع - قدرته على الحلم وعلى الحب وعلى اختبار الامل، محولاً اياه - في غفلة منه - الى خاطف اطفال، الى مجرم والى بالغ. مالك في "بابا في رحلة عمل" وبرهان الفتى في "زمن الغجر" هما في الحقيقة، وكما قال امير كوستوريكا اكثر من مرة، تنويعان على شخصيته نفسها، حتى لو انه لم يعش الاحداث التي عاشها هذان الشخصان "بل بالاحرى عشتها في احلامي"، يستدرك امير كوستوريكا قائلاً: فالحال انه دائماً في العاب الاطفال كان يختار لنفسه دور الضحية، لذلك كان يقوم على الدوام بدور الهندي الاحمر في العاب الاطفال التي تستعيد حكايات "الوسترن" افلام رعاة البقر الاميركية. ولا يخفي امير كوستوريكا انه فتن منذ طفولته بحكايات "الوسترن" وهو يماثل في هذا، ذلك الاوروبي الكبير الآخر الذي حقق في اميركا واحداً من اكثر افلامه ذاتية: ونعني بذلك تيم فندورز في "باريس… تكساس". ونحن لئن كنا نشير هنا الى هذين الاثنين من بين عشرات المخرجين الاوروبيين الذين حلموا بالغرب الاميركي وعاشوا حلمهم بشكل او بآخر، فما هذا الا لان كوستوريكا وفندرز يشبهان بعضهما، على الاقل في علاقة سينما كل منهما بالحلم من ناحية وبأميركا من ناحية اخرى. ثوان من الحلم وهذا الامر يدفع أمير كوستوريكا الى ابداء دهشته لكون السينما الاميركية من اقل سينمات العالم احتفالاً بالحلم واهتماماً به، مع ان اميركا نفسها ليست سوى حلم كبير. فلماذا تخلو سينما هوليوود من الاحلام يا ترى؟ يتساءل كوستوريكا! ثم يجيب لست ادري… بل لست ادري ما اذا كان الاميركيون انفسهم يحلمون. كل ما ادريه هو ان ثواني من الحلم قد يكون في امكانها ان تقول اضعاف اضعاف ما يمكن لالوف الكلمات ان تقوله. ومرة اخرى نجد السبب، ها هنا، في كونه انصرف في فيلمه الاخير الى قضية الحلم يغوص فيها. "بل ان تحقيقي لهذا الفيلم كان واحداً من الاحلام التي راودتني منذ زمن بعيد" يقول كوستوريكا ويضيف ضاحكاً: "ولكن، لئن كنت انا حققت حلمي عبر اشتغالي على الفيلم فإني حزين لان اياً من شخصيات افلامي لا يمكنها ان تحقق احلامها". مهما يكن، من المؤكد ان كوستوريكا ما كان بإمكانه ان يحقق هذا الحلم لولا نجاحه في افلامه والجوائز التي نالها… ولكن كيف وصل كوستوريكا الى السينما؟ وصل اليها بالمصادفة وبعد ان حلم بها في طفولته كثيراً، ثم كانت تلك السنوات الاربع التي امضاها في اهم معهد للسينما في تشيكوسلوفاكيا "الغامو". وهناك في براغ بعد سنوات الدراسة حقق فيلم تخرجه الاول وكان عن لوحة "غرنيكا" لبيكاسو، ثم حين عاد الى وطنه بعد ذلك حقق افلاماً تلفزيونية عدة لفتت اليه الانظار بقوتها التعبيرية وجرأتها الفكرية. وكان ذلك بالطبع ما قاده بعد تعرفه الى الشاعر البوسني الكبير عبدالله صدران، الى تحقيق اول فيلمين له بالتعاون مع هذا الشاعر. وهكذا كان للشعر اي للحلم وقد تحول الى لغة دور كبير في تكوين سنواته المهنية الاولى. غير ان الشعر والحلم والفن شيء، والواقع شيء اخر تماماً. اذ على الرغم من ان كوستوريكا يشتغل على كل فيلم من افلامه كما يشتغل الرسام على لوحته، فإن الظروف قادرة بين الحين والآخر على ضرب امكانية العمل الدقيق لا سيما في مجتمعات تسيطر فيها آلية المادة على روح العمل. وهذا ما اختبره كوستوريكا في الواقع خلال عمله على فيلمه "حلم أريزونا" فهذا الفيلم الذي بالكاد انتهى العمل عليه اخيراً، كان تصويره بدأ، في الواقع، عند بداية العام 1991، مما يعني ان العمل على الفيلم استغرق ما يقرب من العامين مع انه كان من المفروض ان ينجز خلال ستة اشهر على الاكثر. فلماذا كان هذا التأخير علماً بأن التأخير كاد في بعض اللحظات يقضي على المشروع كله؟ كان السبب الاول هو المرض الذي اصاب كوستوريكا بصورة مفاجئة، ثم أتت اعصابه التي راحت تحترق مع احتراق كل بيت واطلاق كل رصاصة في يوغوسلافيا بشكل عام وساراييفو بشكل خاص. لكن هذا كله لم يكن شيئاً امام ما يرويه كوستوريكا عن صعوبات العمل في الولاياتالمتحدة "… فالناس - أعني السينمائيين - هناك مكتفون بما لديهم، وعندهم قوالب العمل جاهزة، والافكار معدة والتقنيات قادرة على حل كل اشكال". لذلك ما ان يأتيهم مخرج اوروبي، ولا سيما مخرج من اوروبا الشرقية يحمل في ذاته الكثير من القيم الروحية، وينظر الى العمل السينمائي على انه عمل ابداعي حقيقي، حتى تبدأ المشاكل". سينما "روك" وكرة قدم ويقول كوستوريكا انه عاش، خلال عمله على "حلم أريزونا" كل انواع المشاكل مع كل الناس تقريباً، وفي مقدمتهم ابطال الفيلم الثلاثة: جوني ديب، فاي دوناواي، وجيري لويس. "انهم فنانون كبار بكل تأكيد، غير انهم ينتمون الى عالم غير عالمنا ويرتبطون بتراث غير تراثنا" من هنا اقتضاه الوصول الى تفاهم معهم، اسابيع عديدة من الصبر والحكمة، والغضب وحرق الاعصاب. غير ان امير كوستوريكا، اذ يتذكر هذا، لا يفوته ان يقول: "على اي حال، اعتقد ان الاميركيين بدأوا في السنوات الاخيرة، ورغم مشاكلي الخاصة معهم، يفهمون الطابع "البداوي" لفن السينما. باتوا يقبلون ان يعملوا تحت اشراف مخرج من اوروبا الشرقية، ومنتج من فرنسا او بريطانيا او المانيا، وفي افلام لم ترسمهم ذهنيتها فقط انطلاقاً من عقلية المتفرج الاميركي… وفي هذا ما يبشر بعودة فن السينما الى مساره الاصلي كفن تشرّد وارتياد الآفاق، وتمازج بين الناس والحضارات والرؤى". وفي هذا الواقع الجديد، كذلك تحقيق ما لحلم آخر من احلام ذلك الفتى الذي كان يجلس في العشيات في غرفته في ساراييفو التي كانت هادئة حتى ذلك الحين، ليستعيد احداث يومه واحلام غده، ويحلم بسينما تتخطى حدود الجغرافيا والتاريخ، سينما تقول هموم الفن والانسان بصرف النظر عن المكان السياسي المحدد الذي ينتمي اليه هذا الانسان. والحقيقة ان امير كوستوريكا نفسه يعيش هذه البداوة بكل زخمها، هو الذي تشده من بين هواياته واهتماماته العديدة ثلاثة نشاطات: السينما، والروك وكرة القدم، ويقول لنا اليوم انها تكاد تكون النشاطات التي عملت اكثر من أي شيء آخر، خلال ربع القرن الاخير على توحيد بين البشر في بوتقة واحدة، وجعلت من زمننا كله زمناً للغجر، ولكن بالمعنى الايجابي للكلمة حتى ولو كنا نسير اكثر واكثر نحو زمن لا تتحقق فيه الاحلام… وخاصة تلك التي تساور اذهان الحالمين الاميركيين. حيث اننا كلنا حالمون واميركيون في نهاية الامر…