مقارنة بدول البلقان الأخرى التي حققت تقدماً خلال 2011 في سعيها للانضمام الى الاتحاد الأوروبي في أقرب وقت، كانت «جمهورية البوسنة والهرسك» (الاسم الرسمي للبوسنة الدايتونية) هي الوحيدة التي تراوح مكانها، بل تتراجع إلى الوراء حتى في عدد السكان، فبعد انتخابات تشرين الاول (اكتوبر) 2010، بقيت البوسنة من دون حكومة مركزية طوال 2011، مع بروز أكثر وضوحاً للتصدع بين الطرفين الرئيسيين هناك (البشناق والصرب). وكان «اتفاق دايتون» الذي أوقف الحرب (1992-1995)، قسّم البوسنة الى كيانين شبه مستقلين: «جمهورية الصرب» التي تسيطر على 49% من الأراضي، و «الفيدرالية البشناقية الكرواتية» التي تشغل النصف الآخر مع رئاسة ثلاثية (بشناقي وصربي وكرواتي) تتخذ القرارات بالإجماع في الامور السيادية. وكان «اتفاق دايتون» اشتمل أيضاً على رقابة دولية وفترة انتقالية لعودة المهجرين الى أراضيهم، وتميزت السنوات الاخيرة بضغوط للإدارة الدولية والاتحاد الاوروبي لمراجعة «اتفاق دايتون» من أجل تعزيز مركزية الدولة حتى تصبح مؤهلة بحسب المعايير الأوروبية للانضمام الى الاتحاد الاوروبي، ولكن «الممثل السامي للإدارة الدولية» خفت صوته بعد أن هدّد زعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك (ممثل الصرب في الرئاسة الجماعية حتى 2010 والرئيس الحالي ل «جمهورية الصرب») بتمرير قانون للاستفتاء على الانفصال في 2010. وعوضاً عن تنفيذ هذا التهديد، اتَّبع دوديك سياسة مختلفة، تقوم على توطيد استقلالية «جمهورية الصرب» في الداخل والخارج (علاقة خاصة مع صربيا وإسرائيل والولايات المتحدة)، وإضعاف المؤسسات المشتركة في «جمهورية البوسنة والهرسك» حتى تنهار من تلقاء نفسها. وظهر ذلك بوضوح في 25 تشرين الاول 2011، الذي كان يعتبر منذ تأسيس هذه الجمهورية في 1945 «اليوم الوطني»، إذ لم تحتفل «جمهورية الصرب» بهذا اليوم، الذب مرَّ كأي يوم عادي، بينما احتفلت به «الفيدرالية البشناقية الكرواتية» فقط، سواء على المستوى الرسمى (عطلة رسمية) أم على المستوى الشعبي. في هذا السياق، بدأت المؤسسات العريقة التي تمثل ما هو مشترك في التاريخ والثقافة البوسنية، تدخل مرحلة الإفلاس وإغلاق أبوابها أو الإعلان عن إقفالها نتيجة عدم اهتمام الحكومة المركزية بها، ك: «متحف فنون البوسنة والهرسك»، و «المتحف التاريخي للبوسنة والهرسك»، و «المتحف الوطني للبوسنة والهرسك»، وستتبعها الى ذلك «المكتبة الوطنية» وغيرها، ما يشكل صدمة للمؤمنين أو المتوهمين باستمرار وحدة «جمهورية البوسنة والهرسك». وهم المعجزة ومع ذلك، بدا تحت تأثير هذه الصدمة، كأن معجزة حدثت في الساعات الاخيرة من 2011، حين اجتمع ممثلو الاحزاب الستة الكبرى في البوسنة واتفقوا على اختيار الكرواتي فيكوسلاف بيفاندا رئيساً للحكومة المركزية، وتقاسم الوزرات التسع بالتساوي بين الاطراف الثلاث، ما اعتُبر تنازلاً من قبل زعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك. ولكن سرعان ما تبين أن وراء هذه «المعجزة» صفقة سياسية تمثلت في إسقاط دعوى بشبهة فساد تطاول دوديك ومجموعة من المسؤولين المتهمين بتقاسم حوالى نصف بليون دولار. ولكن هذه «المعجزة» تبخرت خلال الايام اللاحقة، عندما جرى الاحتفال الكبير في 9 كانون الثاني (يناير) 2012 لمناسبة الذكرى العشرين لإعلان «جمهورية الصرب» في بانيالوكا عاصمة هذه الجمهورية، والذي شارك فيه حشد كبير من الشخصيات، على رأسها البطريرك الصربي ايرنيه، والرئيس الصربي بوريس تاديتش، ورئيس «الحزب الاشتراكي الصربي» الذي كان لرئيسه آنذاك سلوبودان ميلوشيفيتش الدور الكبير في دعم هذه الجمهورية وغيرهم، في الوقت الذي قاطعه البشناق تماماً، لأنهم يعتبرون أن «جمهورية الصرب» قامت على العدوان والتطهير العرقي، ولا تزال تمنع أو تعرقل عودة المهجرين منها خلال الحرب (1992-1995). وعلى العكس من هذا، جاء المديح والتطويب لهذه الجمهورية على أعلى المستويات السياسية والدينية من «جمهورية صربيا» الأم، فقد بارك البطريرك الصربي «جمهورية الصرب»، واعتبر الرئيس الصربي بوريس تاديتش ان هذا اليوم (9 كانون الثاني) «يوم تاريخي» بالنسبة الى الصرب ، بينما ذهب رئيس «الحزب الاشتراكي الصربي» ايقيتسا تاتشيتش الى أبعد من ذلك، حين اعتبر ان «جمهورية الصرب» هي «أول كيان صربي في التاريخ على الطرف الآخر من نهر درينا»، وأنها تمثل الآن «بيمونت الصرب»، مذكِّراً بمشروع «صربيا الكبرى»، الذي عمل من اجله الرئيس السابق للحزب سلوبودان ميلوشيفيتش. وعكس موقف البشناق ومقاطعتهم هذا الاحتفال الجوَّ العام الذي ساد في ذلك اليوم في النصف الآخر للبوسنة (الفيدارالية البشناقية الكرواتية)، والذي ارتبط بشجون ذكريات الحرب الاليمة. وفي هذا السياق، زاد التراشق بين زعماء «جمهورية الصرب» وبين زعماء البشناق، وخاصة مع مفتي البوسنة مصطفى تسريتش، الذي يواجه هذا التقارب الصربي-الصربي بتقارب بشناقي-بشناقي يجمع بين بشناق البوسنة وبشناق السنجق في صربيا، معتمداً في ذلك على مفتي السنجق الشيخ معمر زوركولتيتش. ووصل الامرأخيراً الى تأسيس «أكاديمية العلوم والفنون البشناقية»، التي تجمع الاثنين المذكورين، ما اعتبره البعض تكريساً لإفلاس المؤسسات المشتركة في البوسنة في ظل وجود «أكاديمية العلوم والفنون في البوسنة والهرسك». وأخذ التراشق بُعداً شخصياً بين رئيس «جمهورية الصرب» ميلوراد دوديك وبين مفتي البوسنة مصطفى تسريتش، إذ أن دوديك يتهم تسريتش باستغلال منصبه الديني وتسييس الإسلام، بينما دعا تسريتش علانية الدول العربية الى عدم استقبال دوديك. وتفاعلت هذه الشجون بعد أيام (15 كانون الثاني 2012)، حين حلّت الذكرى العشرون للاعتراف الدولي باستقلال سلوفينيا وكرواتيا، إذ كانت مناسبة لاجترار الشجون، لأن الاعتراف الدولي باستقلال سلوفينيا وكرواتيا عن يوغوسلافيا آنذاك لم يترك ل «جمهورية البوسنة والهرسك» سوى خيار الاستقلال عن يوغوسلافيا، التي أصبحت آنذاك تحت سيطرة ميلوسيفتش، وهو ما قاد الى الحرب على البوسنة لمنع استقلالها. وأثارت هذه المناسبة الشجون لأنها قارنت ما حل ب «جمهورية البوسنة والهرسك» خلال السنوات العشرين الماضية بسلوفينيا وكرواتيا، اللتين تقدمتا كثيراً، إذ إن سلوفينيا انضمت الى الاتحاد الاوروبي في 2004، بينما ستصبح كرواتيا العضو ال 28 في الاتحاد خلال 2013، بعد أن صوتت غالبية الكروات على هذا الانضمام في هذه الايام (22 كانون الثاني 2012). ولكن ما زاد التراشق والتباعد بين الصرب والبشناق في البوسنة هذه الايام، كان اقتراب بدء عرض فيلم «أرض الدم والعسل»، الذي مثلته وأخرجته انجلينا جولي عن حرب البوسنة 1992-1995، التي أثمرت «جمهورية الصرب»، فبمجرد الإعلان عن موعد العرض الأول لهذا الفيلم في دور السينما في دول البلقان (صربيا والبوسنة... إلخ)، انطلقت حملة قوية في الصحافة الصربية ضد هذا الفيلم، واعتُبر أنه «يشوه تاريخ الصرب»، في الوقت ذاته الذي يحتفل فيه الصرب بالذكرى العشرين ل «جمهورية الصرب»، لكي يوضح الاساس الذي قامت عليه هذه الجمهورية (التطهير العرقي). حملة السينمائيين الصرب في الواقع، ارتبطت حدة الحملة الصربية ضد الفيلم بمعلومة غير موثقة تقول إن الممثلة والمخرجة انجلينا جولي ستحضر العرض الاول للفيلم في بلغراد، وستطالب في الكلمة التي ستلقيها بهذه المناسبة ب «إلغاء جمهورية الصرب». ووصل الأمر ببعض الممثلين المخضرمين الصرب، مثل فيليمير جيفوينوفيتش، الى الدعوة لعدم الترحيب بأنجلينا جولي في بلغراد، بينما اعتبر آخرون أن هذا الفيلم سيسحب الشرعية عن «جمهورية الصرب» من خلال عرضه في العالم، في الوقت الذي يسعى فيه رئيس هذه الجمهورية ميلوراد دوديك الى المزيد من الحضور لهذه الجمهورية في المحافل الدولية. وفي مثل هذا الوضع يطرح السؤال: الى أين تتجه البوسنة في 2012؟ في الرد على هذا السؤال يجيب الممثل السامي السابق للادارة الدولية بادي أشدون، في مقابلة مع جريدة «دنفني آفاز» (ساراييفو 22/1/2012)، بتوجيه اللوم الى الاتحاد الأوروبي الذي تخلى عن سياسته السابقة بالضغط على زعماء الاحزاب للقبول بإصلاحات تؤدي الى حكومة مركزية قوية لتسريع انضمام البوسنة الى الاتحاد واعتماد سياسة متراخية في السنوات الاخيرة مع زعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك، الذي اتهمه آشدون بأنه يعمل على نمط ميلو جوكانوفيتش في جمهورية الجبل الاسود (التي استقلت عن «جمهورية صربيا والجبل الاسود» في 2006): إضعاف المركز وجعل «جمهورية البوسنة والهرسك» دولة غير قابلة للحياة، حتى يقتنع الجميع بذلك ويتخلوا عن فكرة استمرارها. بعبارة أخرى، إن ما «يمسك» البوسنة الآن هو مكتب الإدارة الدولية في سراييفو ومساعدات الاتحاد الاوروبي، الذي بدأ ينشغل الآن بمشاكله المالية وينظر الى البوسنة كعبء عليه في السنوات الاخيرة، وقبل هذا وذلك إيمان أو أوهام البشناق بوحدة «البوسنة والهرسك» التي كانوا يمثلون الغالبية فيها، فمع هذا الوضع بدا بعض البشناق يستسلم للوضع على الأرض (وجود كيانين شبه مستقلين)، ويركز على «الفيدرالية البشناقية الكرواتية» التي يمثل فيها غالبية بالفعل!