السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي واستعمال أوراق نقدية مقلدة والترويج لها    وزير الاستثمار: 1,238 مستثمرًا دوليًا يحصلون على الإقامة المميزة في المملكة    866 % نمو الامتياز التجاري خلال 3 سنوات.. والسياحة والمطاعم تتصدر الأنشطة    الجامعة العربية بيت العرب ورمز وحدتهم وحريصون على التنسيق الدائم معها    تحت رعاية ولي العهد.. انطلاق أعمال المؤتمر السنوي العالمي الثامن والعشرين للاستثمار في الرياض    مدير المنتخب السعودي يستقيل من منصبه    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    مسرحية كبسة وكمونيه .. مواقف كوميدية تعكس العلاقة الطيبة بين السعودية والسودان    بحضور وزير الثقافة.. روائع الأوركسترا السعودية تتألق في طوكيو    وزير الصناعة في رحاب هيئة الصحفيين بمكة المكرمة    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    أسعار النفط تستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    الأرصاد: انخفاض ملموس في درجات الحرارة على أجزاء من شمال ووسط المملكة    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    نهاية الطفرة الصينية !    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أوسلوبوجنيه" لم يستطع الصرب قتلها ! قصة صحيفة تحت الحصار !
نشر في الحياة يوم 19 - 07 - 1993

في الحرب التي تستعر الآن في البوسنة لا يزال اهالي العاصمة ساراييفو يذكرون باعتزاز وفخر صباح الحادي والعشرين من حزيران يونيو من العام الماضي عندما نزلت صحيفتهم "أوسلوبوجنيه"، اي التحرير، الى الاسواق بعد ان دمر القصف الصربي مكاتب الصحيفة اثناء الليل. وفي ذلك اليوم وصفت اخبار تلفزيون ساراييفو صدور الصحيفة في الصباح، على رغم الدمار، بأنه "أعظم انتصار تحققه حتى الآن على المعتدين".
كانت الحرب دخلت آنذاك شهرها الثالث. وكان الصرب كثفوا هجماتهم الشرسة لمحاولة تدمير احدث مباني ساراييفو ومعها مكاتب الصحيفة ومطابعها.
كان كمال كورسباهيتش 46 عاماً رئيس تحرير الصحيفة هناك حين اقترب الصرب من المباني بهدف تدميرها. يقول: "كانوا على بعد اقل من مئة وخمسين متراً ليلة العشرين من حزيران يونيو. وبدأوا يطلقون نيران مدافعهم الرشاشة وقذائف مدافع الهاون والمدفعية الثقيلة. واقتربت احدى دباباتهم من المبنى حتى اصبحت على بعد اقل من مئة متر، واطلقوا سبعة صواريخ فأصابوا البناية ودب الروع في نفوسنا. واخيراً اشتعلت النيران في المبنى، وظلت ألسنة اللهب تستعر طوال الليل. ونظراً لعدم وجود فرقة اطفائية عاملة اضطر الموظفون الى مكافحة الحريق بكل ما أتيح لهم من وسيلة. وفي الساعة السادسة صباحاً تمكنوا من اخماده، وبعد خمس دقائق بدأت عملية الطباعة. وما ان حلت الثامنة صباحاً حتى كانت نسخ الصحيفة تباع في شوارع ساراييفو، مع انه لم يكن هناك احد يتوقع صدورها ذلك اليوم اطلاقاً".
وكمال مسلم، اما غوردانا كنيجيفتش نائبة رئيس التحرير، فهي صربية، وقد ساعدت في عملية بيع الصحيفة. وتقول: "شعر الناس في الشوارع انهم انتصروا معنا. اذ كانوا يصفقون حين تصل الصحيفة الى بعض الشوارع الصغيرة. وكانوا يمتدحون جهودنا ويقولون لنا: إنكم رائعون لانكم تأتون الينا بهذه الصحيفة من النار. وكانوا يشعرون ان المقاتلين الصرب المتوحشين لن ينتصروا ما دمنا قادرين على إيصال الصحيفة الى أهالي ساراييفو بعد ان نخرجها من الرماد".
ويستطرد كمال فيقول: "إنهم ارادوا ان يسكتوا صوتنا لاننا نمثل فكرة اساسية بسيطة وهي ان الناس من مختلف الاعراق والاديان والخلفيات الثقافية يمكنهم ان يعيشوا معاً ويعملوا معاً. فالمفهوم الاساسي لهذا العدوان هو تقسيم البوسنة على اساس عرقي، ولكن صحيفتنا تضم المسلمين والصرب والكروات الذين يعملون معاً، ولهذا ارادوا ان يدمروا هذا المبنى ومعه فكرة عيش الشعب البوسني معاً".
لكن الصرب لم ينجحوا حتى الآن في تحقيق اي من هذين الهدفين على رغم ان حوالي ثمانين في المئة من مبنى الصحىفة الضخم فوق الارض أصبح مدمراً. اما تحت الارض فلا تزال مكاتب التحرير والمطابع تعج بالنشاط كل يوم. فمنذ ان بدأت الحرب في الخامس من نيسان ابريل 1992 لم تحتجب الصحيفة عن الصدور يوماً واحداً. ولكن مبدأ التعايش العرقي بصورة مثالية الذي يتحدث عنه رئيس تحرير الصحيفة ونائبته لم يعد قائماً الا في عدد قليل من الاماكن في البوسنة المحاصرة. فإذا ما زحف الصرب وقطعوا المئة والخمسين متراً الباقية وكتموا صوت صحيفة "التحرير" كان ذلك هو المسمار الاخير في نعش البوسنة المستقلة المتعددة الاعراق والتي كانت تمثل الامل الحقيقي في الديموقراطية الصادقة التي يمكن ان تولد من انقاض يوغوسلافيا.
الصحيفة الرائدة
تأسست صحيفة "التحرير" في 30 آب اغسطس عام 1943 حين اصدرها انصار المارشال تيتو الذي كان يحارب ضد الاحتلال النازي، بعد طباعتها على آلات متنقلة خبأوها في جبال البوسنة. وظلت معظم سنواتها الخمسين الصحيفة الرائدة في يوغوسلافيا. وفي عام 1989 فازت بجائزة صحيفة العام اليوغوسلافية. اما اليوم فلا يمكن اعتبار اي صحيفة مستقلة حقاً في يوغوسلافيا السابقة غير صحيفة "التحرير" ومجلة "فريميه" التي تصدر في بلغراد. وحتى قبل الحرب الاخيرة كانت الصحيفة تتبنى الدفاع عن البوسنة المتعددة الاعراق.
بدأ الصرب حصارهم لمدينة ساراييفو في الخامس من نيسان ابريل من العام الماضي. وكان اول صحافي يموت في هذه الحرب هو مراسل "أوسلوبوجنيه": ياصيف اسماعيلوفيتش. ففي التاسع من نيسان ابريل عبرت قوات الصرب نهر درينا الذي يمثل الحدود بين صربيا والبوسنة وهاجمت مدينة زفورنيك على بعد 150 كيلومتراً الى الشمال الشرقي من ساراييفو. وبعث ياصيف ثلاث رسائل اخبارية عن الزحف الصربي نحو زفورنيك قبل ان تقتحم تلك القوات مكاتب صحيفته لتقتله بينما كان يجلس امام مكتبه. وتبعاً لما يذكره احد شهود العيان فإن الجنود الصرب جروا جثة ياصيف عبر شوارع المدينة ثم القوا بها في مقبرة جماعية مع عشرات غيرها. وهكذا جاء مقتل ياصيف ليكشف بمنتهى الجلاء عن نوايا الصرب وموقفهم من حرية الصحافة في البوسنة بشكل عام ومن الصحيفة بشكل خاص. اما في ساراييفو فلم يعرف زملاؤه في الصحيفة شيئاً عن مقتله الا بعد خمسة عشر يوماً عندما وصل شاهد العيان الى العاصمة حاملاً الخبر.
وفي هذه الاثناء جمع رئيس التحرير جميع العاملين في الصحيفة وقدم لهم عرضاً لا لبس فيه. قال لهم: "إنني لا استطيع ان اعدكم بأنكم ستكونون على قيد الحياة حين ينتهي حصار ساراييفو، كما انني لا استطيع ان اعدكم بأي جوائز او مكافآت او ترقية او حتى بأي راتب. لكنني اعدكم ان هذه الصحيفة ستصدر كل يوم ما دامت ساراييفو موجودة". ويقول كمال "لم يعرب احد منهم اطلاقاً عن رغبة في الرحيل او ترك الصحيفة، اذ سادت الجميع روح قوية من الحماسة والوطنية. لكن الصلة التي تربطنا وتجمعنا معاً هي اننا ابناء مهنة. ويكفي ان نتساءل ما اذا كان الصحافيون من مختلف ارجاء العالم يأتون الى مدينتنا للكتابة عنها ولتصوير مأساتنا، فكيف يمكن لنا نحن ان نترك"؟ وهكذا استطاع كمال الوفاء بوعده حتى الآن. واذا ما استثنينا السوق السوداء فإن صحيفته والخبز هما الشيئان الوحيدان اللذان يباعان يومياً مقابل الدينار البوسني.
وحين بدأت الحرب كانت غوردانا نائبة رئيس التحرير قلقة على أطفالها الثلاثة: "فأنت تسمع ان المنطقة التي تسكن فيها تعرض للقصف وانت في العمل. وليس في وسعك الاتصال هاتفياً لتعرف ما الذي حصل. كان هذا اسوأ جانب من جوانب الحرب بالنسبة الي. ولهذا ارسلت اثنين من أطفالي الى خارج البلاد لكي استطيع مواصلة عملي". وغوردانا ليست غريبة على الحروب والصراعات، اذ انها كانت في السابق مراسلة الصحيفة في الشرق الاوسط حتى فترة قريبة، حيث غطت الحرب في لبنان وفي جنوب السودان. لكنها تعمل الآن من مكتب مكتظ في وسط ساراييفو الى جوار مقر الرئىس علي عزت بيكوفيتش ومكاتب وزارة الاعلام. وعندما يكون رئيس التحرير كمال خارج المدينة فإن غوردانا هي التي تدير الصحيفة التي يعمل فيها خمسة عشر موظفاً يكافحون مع آلات الطباعة المهشمة وهم يرتدون معاطفهم نظراً لشدة البرد، اذ لا وجود للكهرباء في معظم الاوقات. لكن ما يقومون به وما يبذلونه من جهد يخلق جواً من الدفء في غرفتهم.
وسط كل هذا نرى غوردانا وهي تخطط بهدوء لرسم الكاريكاتور السياسي لعدد الغد مع بوزو ستيفانوفيتش او للتعليق السياسي مع تيمور لوزة. ونسأل غوردانا: بم تشعر صحافية كبيرة، وكيف يمكنها ان تستمر في العمل في خضم الحرب؟ فتجيب "منذ البداية شعرت ان الصحيفة كانت حقاً ولا تزال جزءاً من حركة المقاومة في ساراييفو. ففي البداية وجدنا انفسنا مجبرين ليس على انتاج الصحيفة فحسب، بل على بيعها ايضاً. وهكذا تولى الصحافيون ادارتها ومسؤولياتها. وبمجرد تجولي مع الصحيفة في الشوارع يومياً استطيع ان اعرف كيف يهتم الناس بنا".
وسألتها: ألا تعتقدين ان مجرد تفكير الصحافيين بالموضوعية في حرب كهذه هي نوع من البذخ الفكري؟
فقالت: "كنا موضوعيين خلال تغطيتنا الحرب الكرواتية. وكنا فخورين لاننا خصصنا صفحة للطرف الاول وصفحة ثانية للطرف الآخر. اما الآن ومن وجهة نظري الجديدة فإنني كنت سألغي كل تلك الصفحات، اذ ان هناك احداثاً وحالات يجب الا يكون الطرف الآخر موجوداً معها ويجب عدم استشارته، فخلال الحرب العالمية الثانية، لا اذكر ان صحافياً بريطانياً سأل النازيين او استشار مصادر الغستابو للحصول على تقاريره الحربية. ونحن نواجه وضعاً مماثلاً. اذ لا نحصل على تقارير من بالي مقر رئاسة الصرب مثلاً. وعلى اي حال فإن هذا مستحيل من الناحية الفنية. وانا صربية ولهذا لا استطيع ان اقول انني اكره الصرب بصفة خاصة. لكنني اكره الفاشيين. وانا لا اظن ان بامكاننا تحقيق الموضوعية باستشارة طرفي الصراع او الاطراف الثلاثة".
الاحترام المتبادل
وقلت لها: في ساراييفو اطراف عدة، أعراق متعددة وأديان متعددة واتجاهات سياسية متعددة. ولهذا يمكن القول انها تمثل مختلف الاتجاهات.
فقالت: "كل شخص في هذه المدينة ترعرع على وجوب احترام عادات الآخرين وثقافتهم ودينهم مثلما يحترم عاداته وثقافته ودينه. فهذه هي ببساطة الطريقة التي اتبعناها هنا. وعندما استيقظنا على هجوم الجيش اعتقدنا انه جيشنا".
ألم تكن صحيفتكم تستقصي ما يحدث في تلك المرحلة الحرجة؟
- قبل بدء الحرب بشهر عرفنا ان الجيش كان يتصرف بطريقة غريبة في الجبال. اذ كان يحفر الخنادق ويخزن الذخيرة. ولهذا بعثت مراسلاً الى مقر قيادة الجيش، واثر ذلك نشرنا خبراً رئيسياً على الصفحة الاولى قال فيه الناطق بلسان الجيش ان ما يجري له علاقة بمقدم فصل الربيع، وان الضباط لا يريدون للجنود البقاء في الثكنات، وما يقومون به ليس سوى مناورات وتمرينات عادية. وضحكنا من هذا الخبر آنذاك ولكننا لم نعتقد ابداً ان ما كان يجري في التلال هو مقدمة لحرب.
يعتقد كثيرون في العالم ان هذه الحرب ليست سوى حرب عرقية نتيجة عداوات قديمة جمدتها الشيوعية فهل هذا صحيح؟
- لا. الذي حدث في رأيي هو ان التغيير كان اسرع مما ينبغي. وفجأة حدث فراغ ايديولوجي كبير واخذت العصبية القومية العمياء تطغى. واستيقظ الناس الذين كانوا يؤمنون بنظام الحزب الواحد ذات صباح ليجدوا ان الحزب لم يعد قائماً. كانوا يبحثون عن نوع آخر من الجماعية لان اسوأ جزء في نظام يوغوسلافيا السابق كان القيادة الجماعية التي اخمدت التفكير الفردي كلياً وأخرست كل ما هو فردي. ولهذا بدأ الناس يقولون نحن لسنا شيوعيين بعد الآن... نحن من صربيا الكبرى او كرواتيا العظمى وما الى ذلك.
هل ما يحدث في الاتحاد السوفياتي السابق هو الشيء نفسه؟
- ربما كانت يوغوسلافيا اقل الدول شيوعية في المعسكر الشرقي، اذ كانت اشتراكية بوجه انساني الى حد ما. فنحن لم نشهد حكماً شيوعياً متشدداً خلال السنوات الاربعين الماضية، ولهذا كان من المفروض ان تستطيع يوغوسلافيا التكيف مع الطرق الغربية بشكل افضل من اي دولة شيوعية سابقة. ولهذا فإنني ذهلت شخصياً لان اسوأ عواقب انهيار الشيوعية حدثت هنا. وانني اخشى ان يكون هذا مجرد تجربة لاحداث اسوأ سنشهدها في اجزاء اخرى من العالم.
وسألت غوردانا كيف يمكن ان تصف علاقة صحيفتها مع الحكومة فقالت:
- انها معقدة جداً لان العلاقة لم تكن جيدة اصلاً بيننا قبل الحرب. ولكن هذه العلاقة بدأت تصبح وثيقة منذ الحرب. فنحن على الاقل نؤيد شرعية السلطة في البوسنة، لان ليس في الوسع اجراء انتخابات. وهي افضل من الفوضى ومن عدم وجود اي سلطة. كما اننا نؤيد حياة البوسنة كدولة موحدة من قوميات مختلفة لا كدولة مقسمة الى ثلاث دويلات. ولهذا يمكن لنا القول اننا نؤيد جميع القوى التي تعمل في ذلك الاتجاه.
هل لك ان تعطينا بعض الامثلة على صراعكم مع الحكومة في الوقت الراهن؟
- قبل بضعة اشهر نشرنا مئة سؤال وجهناها الى رئيس الوزراء. ومن دواعي فخرنا واعتزازنا اننا فعلنا ذلك في خضم حرب طاحنة، اذ ان دولاً كثيرة لا يمكن للصحافيين فيها ان يفعلوا ذلك حتى في وقت السلام.
وهل رد على الاسئلة بما يرضيكم؟
- كلا. لكنه عزل بعد شهر من ذلك.
التغطية الاجنبية
ربما كان من السذاجة توجيه مثل هذا السؤال: ولكن كيف تصفين سياسة الافتتاحيات في الصحيفة؟
- نحن نحاول تهيئة الناس للسلام. اذ استغرقنا وقتاً طويلاً لكي نعتاد على الحرب ولكن يبدو الآن وكأننا اصبحنا اناساً لن يكون في مقدورهم التكيف مع السلام. ومن الواضح ان الانتصار الذي سيتحقق لن يكون باهراً كما اننا لن نتمكن من طرد قوات الصرب لأنها ستظل في بعض اجزاء البوسنة. وعلينا ان نجد وسيلة للتعايش مع اولئك الذين لم يكونوا مجرمي حرب. وسنحتاج الى بذل جهد كبير لاقناع الناس بالتعود على هذه الفكرة. وفي افتتاحياتنا يمكنك ان تجد اننا ننتهج خطاً يهدف الى اقناع الناس بالمساومة على اساس ان هذا هو الحل الوحيد للبوسنة، وعلى اساس انه يجب وقف الحرب بأي وسيلة. فحتى السلام غير العادل افضل من استمرار القتل والدمار في البوسنة واستمرار معاناة المدنيين الابرياء.
وسألت غوردانا عن رأيها في تغطية الصحافيين الاجانب للحرب في البوسنة فقالت: "اعتقد ان الصحافيين الاجانب يقومون بعمل رائع هنا في البوسنة ولا سيما في ساراييفو. فهم الجزء الوحيد من المجتمع الغربي الذي يفعل ما يجب فعله في هذا الوضع الرهيب. وأنا استغرب دائماً حين ارى الصحافيين الاجانب في هذا المكان الخطير. وقبل ان اسافر الى الخارج لم اكن اعتقد ان العالم يعرف ما يجري في البوسنة وفي ساراييفو، ولكن حين ذهبت اخيراً الى لندن وواشنطن علمت انه لم تبق قصة من الحرب لم ينقلها الصحافيون، او على الاقل وجدت ان الناس يعرفون القصص الرئيسية: معاناة المدنيين والتطهير العرقي والاغتصاب ومعسكرات الاعتقال في مختلف انحاء الاراضي التي يسيطر عليها الصرب. فكيف يمكن للعالم ان يعرف كل الاحداث التي تجري هنا ومع ذلك لا يفعل ما يجب لوقف العدوان ودحره؟".
على مقربة من مكاتب صحيفة "التحرير" بناية سكنية يعمل فيها رسام الكاريكاتور في الصحيفة. ومن المذهل ان الرسام بوزو ستيفانوفيتش يرسم الشخصيات المختلفة مثل رادوفان كاراديتش وبيل كلينتون ولورد اوين وسايروس فانس وبوريس يلتسن من ذاكرته التي تشبه الكمبيوتر ودون اي استعانة بصور الارشيف في الصحيفة. وفي حين يمسك بوزو بقلمه يعمل بسرعة خارقة. وهو لا يستخدم اضافة الى القلم سوى الحبر الاسود والورق. وعلى رغم الحزن الذي يرافق رسومه فهو يقول انها تساعد على الصبر والاحتمال لأن الدعابة في رأيه "تمتص الصدمات وتساعد على مواجهة المآسي". ومن اشهر رسومه كاريكاتور يظهر فيه احد سكان ساراييفو وهو يحاول شنق نفسه ولكنه يعجز عن العثور على شجرة واحدة واقفة في مكانها ليربط الحبل بها. ويجدر بالذكر ان سكان ساراييفو قطعوا خلال فصل الشتاء الأخير كل شجرة في المتنزهات وفي الشوارع لاستخدام خشبها في التدفئة. وبوزو صربي، ومع انه ليس شديد التدين فانه يدرك اهمية الدين في حياة ساراييفو وكثيراً ما يعكس ذلك في رسومه. وهو يقول: "ساراييفو مدينة اوروبية كما ان الرموز المسيحية مقبولة لكل شخص فيها، مثلما يحترم جميع المسيحيين من صرب وكروات الثقافة الاسلامية".
وسألته اذا كان هناك حدود لما يمكن التندر به والتهكم عليه فقال: "في الوقت الراهن ليس هناك حدود. اذ لم يطلب احد منا ان نفعل كذا او نتجنب ذاك. ولكنني وضعت حدوداً وقيوداً بنفسي، اذ انني لا اعرب دائماً عن آرائي الشخصية وانما اصغي الى الاتجاه الاجتماعي والسياسي العام وانقله في رسوم الكاريكاتور التي ارسمها". وتجد رسوم كاريكاتور بوزو ستيفانوفيتش مكاناً لها على جدران المكاتب والمطابخ وخنادق الجنود او حيثما يحتاج سكان ساراييفو الى ابتسامة تخفف من هول معاناتهم وتنقلهم الى اليوم التالي.
ومن المعلقين الذين يكتبون في صحيفة "التحرير" بصورة منتظمة تيمور لوزة وهو من اصل صربي - كرواتي ومن مواليد ساراييفو. وكان تيمور اثناء اقامتي في ساراييفو دليلاً لا يقدر بثمن. فهو ايضاً صديق لي، اذ ساعدني طوال المدة في تقفي اثر الناس من مختلف مشارب الحياة لأتحدث اليهم وأقابلهم على رغم كل المخاطر. وذات يوم اقترح علي ان نقضي ليلة في مكاتب الصحيفة لكي ارى بنفسي كيف يتم اصدار العدد اليومي منها. فهو يعمل عادة في منزله. واذا كان الاتصال بالهاتف ممكناً فانه يتصل بالصحيفة لكي يملي تعليقه، ولكن اذا لم يكن الاتصال الهاتفي ممكناً فانه يجازف ويخاطر بحياته لكي يسلم مقالته بنفسه تحت وابل من رصاص الصرب وقذائفهم. قال تيمور في زاويته المنتظمة تعليقاً على مناقشات الامم المتحدة في نيويورك التي وافق فيها الكروات البوسنيون على خطة اوين - فانس بينما حجب الصرب موافقتهم: "المشكلة هي انه لا يوجد في خطة اوين - فانس ما يكفي من الاراضي لكي يوافق عليها الصرب. فاذا ما قبلوا الخطة فلماذا يخوضون حرباً للاستيلاء على المزيد من الارض؟ ثم ماذا سيحدث اذا اصرت صربيا على عدم قبول الخطة؟ انني لا ارى ان هناك من سيجبرهم على التوقيع وبالتالي على الانسحاب من الاراضي التي احتلوها".
مجموعة من العاملين في الجريدة يستحمون في الغرفة المجاورة. وهذا الاستحمام نوع من الكماليات غير المعهودة في ساراييفو التي تعصف بها الحرب. كذلك لاحظت ان معظم العاملين في الصحيفة يرتدون ملابس رياضية غير رسمية يعملون بها ويخلدون الى النوم دون ان يخلعوها. فهذه الغرف مكاتب ومنازل ايضاً للمحررين والطابعين والعاملين في الانتاج والاخراج وجميع اقسام الصحيفة. وهم جميعاً يعملون سبعة ايام في الاسبوع لكي يتفادوا مغادرة المكاتب واحتمال الموت في طريقهم الى منازلهم او في طريق العودة صباحاً الى الصحيفة.
يقول مدحت بليفتش مدير التحرير: "عندما استيقظ من النوم أتساءل ما اذا كانت الكهرباء متوافرة والاتصال الهاتفي ممكناً. فاذا لم يكن في الوسع استخدام الفاكس او الهاتف نضطر الى استخدام السيارة وما ينطوي عليه ذلك من مشكلة تأمين البنزين، من اجل الحصول على الاخبار. وعندما لا تتوافر الكهرباء نضطر الى الكتابة على ضوء الشموع ونوفر المولد الاحتياطي الذي يعمل بالديزل لاستخدامه في الطباعة لمدة نصف ساعة" ويستطرد مدحت فيقول: "عندما توقفت المفاوضات في نيويورك منذ اشهر لاجراء مشاورات وعاد الرئيس علي عزت بيكوفيتش الى ساراييفو حيث عقد مؤتمراً صحافياً كان الخبر الرئيسي هو عن هذه المفاوضات بالطبع، اما العنوان الرئيسي على الصفحة الاولى فكان "نافذة على السلام". وفيه ننقل تصريحات بيكوفيتش التي اعلن فيها انه يريد السلام وهو عكس ما كان يقوله من قبل اما الخبر الرئيسي الثاني فهو تصريحات الرئيس الاميركي كلينتون عن فرض عقوبات جديدة على صربيا، مما يوحي بانه سيفعل ما تريده البوسنة.
القصف لا يثير الاهتمام
وسألت مدحت كيف تغطي الصحيفة الاخبار المحلية والقصف مستمر؟ فأجاب: "الحقيقة ان القصف لم يعد يثير اهتمامنا كثيراً لأننا ضجرنا من ذلك".
لكن كل شيء يتوقف لمشاهدة اخبار الساعة الحادية عشرة من تلفزيون ساراييفو لمعرفة ما يفوت الصحيفة منها. وتبدأ النشرة بالخبر نفسه عن محادثات نيويورك والمؤتمر الصحافي الذي عقده بيكوفيتش. وبعد ذلك نشاهد فيلماً من تلفزيون سي. ان. ان عن تصريحات كلينتون. لكن تلفزيون ساراييفو يقدم فيلماً فريداً عن القصف الصربي والدمار الذي يسببه على بعد عشرين متراً فقط من استوديوهات التلفزيون.
وسألت مدحت عن مدى مصداقية اخبار التلفزيون التي تظهر على الشاشة نظراً لأن المحطة تخضع للاشراف الحكومي وبشكل خاص ما ينقله عن هواة الاتصال باللاسلكي من مختلف انحاء البوسنة نظراً لأن هؤلاء غير محترفين حين نقارنهم بالمراسلين والصحافيين العاديين، فقال: "اعتقد ان حوالي تسعين في المئة مما نشاهده ونسمعه صحيح تماماً بينما يمكن القول ان الباقي عبارة عن دعاية".
في الغرفة المجاورة كان المصور دراكو بابيتش يلتقط الصور التي تظهر على شاشة التلفزيون اثناء نشرة الاخبار وبعد ذلك يتوجه دراكو في رحلة خطرة الى غرفة التحميض زاحفاً على بطنه ليتفادى رصاص القناصة الصرب. ويختار هناك صورة للرئيس بيكوفيتش واخرى للرئيس كلينتون لتحميضهما استعداداً لنشرهما مع الخبرين الرئيسيين على الصفحة الاولى.
يشير دراكو الى كاميرا شبه مهمشة الى جانب صورة صديقه سالكو هوندا احد مصوري الصحيفة الذي قتل حين سقطت قذيفة في المكان الذي كان يلتقط فيه صوراً لاهالي ساراييفو وهم يجمعون المياه للشرب. وبالاضافة الى سالكو فقدت الصحيفة ثلاثة محررين كما ان خمسة آخرين لا تعرف اخبارهم.
وفي الساعة الواحدة صباحاً ندخل غرفة الاخبار التي بدأت فيها عملية صف المقالات والاخبار باستخدام الكمبيوتر تحت اشراف محرري الصفحات المختلفة. وفجأة يكتشف مدير التحرير ان رسم الكاريكاتور الذي اعده بوزو مفقود فيتعالى الصراخ. ولكن مدير التحرير لديه رسم احتياطي مما يعني ان على بوزو ان يعيد رسم الكاريكاتور في اليوم التالي وان يضمن وصوله الى مكاتب الصحيفة وما ينطوي عليه ذلك من المخاطر المألوفة. ولعل هذه هي الصحيفة الوحيدة التي تخصص عدداً كبيراً من الصفحات لتأبين الموتى. فخلال العام الماضي بلغ عدد القتلى في البوسنة اكثر من مئة وخمسين الفاً. ولهذا فهي تصدر كل صباح باعلانات تفطر القلوب عن اولئك الضحايا وغالباً ما تنشر صورهم.
ومع اكتمال صف الصحيفة يجلس المحررون والعاملون امام جهاز التلفزيون لمشاهدة افلام الفيديو التي تصور ساراييفو في عهد مجدها الغابر حتى الساعة السادسة والنصف صباحاً حين تبدأ المطابع العمل وتولد الصحيفة. وعلى الفور تنقل نسخها الى غرفة اخرى لربطها وحزمها وتحميلها على الشاحنة للشروع في توزيعها على المدينة. وبحلول الساعة السابعة صباحاً وبينما تتساقط الثلوج يبدأ اهالي ساراييفو الاصطفاف امام نقاط توزيعها لضمان الحصول على نسخة من الستة الاف نسخة تطبع عادة.
ان ما شاهدته منذ دخلت مكاتب الصحيفة حتى ساعة قراءتها في الشارع يدل على روح خارقة من التصميم والتفاني على رغم كل التحديات والمصاعب والمخاطر. وهي روح يتحلى بها كل شخص له علاقة مباشرة او غير مباشرة باصدار "التحرير". وفور صدورها يمكنك ان تقرأ في وجوهم جميعاً الاحساس بالاعتزاز والكبرياء والفخر. وفي الساعة السابعة والنصف صباحاً تنطلق شاحنة التوزيع الوحيدة التي بقيت من اكثر من مئة شاحنة توزيع قبل الحرب، متجهة الى شوارع المدينة وسط وابل من رصاص القناصة الصرب. وعند اولى نقاط التوزيع يقف حوالي خمسين شخصاً لشراء نسخهم منها مقابل ثماني مئة دينار للنسخة. والشيء الوحيد الآخر الذي يمكن لسكان ساراييفو ان يشتروه بالدنانير البوسنية هو الخبز الذي يكلف الرغيف منه الف دينار. لكن هؤلاء السكان جائعون ومتعطشون للاخبار ايضاً. ولهذا فان الكثيرين منهم يفضلون شراء نسخة من "التحرير" على شراء رغيف من الخبز.
بعد ان غادرت مكاتب الصحيفة ذلك الصباح توجهت الى نادي الصحافيين الموجود في مكان آمن نسبياً، وهو من الاماكن القليلة التي يمكن ان تشتري فيها فنجان قهوة وتلتقي فيها بعض الصحافيين الآخرين ممن جاءوا من مختلف انحاء العالم.
في أيام السلم كانت تصدر في ساراييفو صحيفتان يوميتان وحوالي عشرين مجلة وكانت جمعيها مزدهرة. اما اليوم فليس هناك سوى "التحرير" التي تصدر يومياً وحوالي عشر دوريات تصدر من حين الى آخر. ولكن هناك ادراكاً عاماً بأن صحيفة ساراييفو نالت التقدير العالمي. اذ ان رئيس التحرير كمال ونائبته غوردانا حصلا على جائزة الشجاعة الصحافية من مؤسسة الاعلام الدولية. كذلك حاز المحرر زياتكو ديجاريفتش على جائزة "مراسلين دون حدود" بينما منحت هيئة الاذاعة البريطانية بي. بي. سي اوسلوبوجنيه جائزة "صحيفة العام". وعلى رغم كل هذا التقدير وهو ما تستحقه الصحيفة بالتأكيد، لا يملك المرء الا ان يتساءل: وماذا عن الخبّازين الذين يجازفون بحياتهم في ساراييفو لتأمين الخبز للسكان كل يوم؟ ثم ماذا عن الاطباء.. والممرضات.. وماذا عن العاملين في مختلف قطاعات الخدمات والمرافق الاساسية في المدينة؟ ان في ساراييفو الكثير من الابطال الذين يستحقون الجوائز والاوسمة.
الجميع يوافق على ذلك. لكن هناك من يستشهد بقول بيرتولد بريخت: "تعيسة هي الارض التي تحتاج الى ابطال!".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.