في خلال الاشهر القليلة الماضية تجاوز عدد الصفقات المصرفية التي شهدتها المصارف اللبنانية، ما امكن تحقيقه سابقاً في سنوات، الى الحد الذي بات يشجع على الاعتقاد ان القطاع المصرفي اللبناني على ابواب مرحلة جديدة، لم يسبق له بأن شهدها منذ ثلاثة عقود على الاقل، وتحديداً منذ اواسط السبعينات عندما عطلت الحرب دور بيروت ك "مصرف للشرق الاوسط". وفي الواقع، اشترى "بنك عودة"، وهو احد المصارف التجارية الخمسة الاولى في لبنان بنك "الاعتماد التجاري للشرق الاوسط" وهو من المصارف المتوسطة التي تتمتع بملاءة مالية كبيرة، بعدما كان "عودة" احد ابرز العارضين لشراء "الاعتماد اللبناني". كما تتداول الاوساط المصرفية معلومات عن مفاوضات تجري حالياً لشرائه مصرفين آخرين، قبل نهاية العام الحالي ما يجعله احد 3 مصارف كبرى، سواء من حيث الرأسمال، ام من حيث الانتشار لتغطية جميع المناطق اللبنانية. وقبل "عودة" اشترت "الشركة العامة المصرفية اللبنانية الاوروبية" التي تملكها مجموعة صحناوي اللبنانية بنسبة 50 في المئة، في مقابل 50 في المئة حصة "الشركة العامة" الفرنسية، "بنك جعجع" وهو احد المصارف العائلية الصغيرة التي لا تتمتع بملاءة مالية مرتفعة. وكانت "الشركة العامة" التي تنافس هي الاخرى لزيادة حصتها من السوق المصرفية، قد اشترت قبل سنوات "غلوب بنك" الذي عادت وباعته من احد رجال الاعمال القطريين. واضافة الى ذلك شهد القطاع المصرفي في خلال الاشهر القليلة الماضية نهاية سعيدة لمأساة "البنك اللبناني - الباكستاني المتحد" الذي اضطر تحت ضغط مصاعب السيولة التي واجهها الى اقفال ابوابه طوال سنوات، وذلك عندما نجحت المفاوضات التي جرت لبيعه الى المجموعة المالكة لبنك "الانعاش"، والتي تضم في الاساس مستثمرين من آل الجفال الذي نجحوا في بناء ثروات كبيرة في افريقيا وتحولوا في السنوات الاخيرة الى الاستثمار في سوق بيروت. كما شهد القطاع المصرفي ايضاً عملية انتقال ملكية اسهم بنك "لبتكس" الذي كانت تملكه حكومة بلغاريا الى مجموعة من رجال الاعمال اللبنانيين، في طليعتهم رجل الاعمال المعروف نعمة طعمة. وتشير التوقعات الى ان سوق بيروت مرشحة لتسجيل المزيد من الصفقات المصرفية في الاشهر القليلة المقبلة، وفي هذا السياق، يقول مصرفيون ان 4 مجموعات عربية، احداها اردنية، بدأت منذ فترة، مفاوضات وصلت حالياً الى مراحل متقدمة لشراء مصارف لبنانية، فيما يتحدث هؤلاء عن مفاوضات لمصارف لبنانية كبرى، مثل "بيبلوس"، لشراء مصارف معروضة للبيع. واللافت في ما تشهده سوق بيروت من صفقات مصرفية ان معظم المصارف المعروضة للبيع هي مؤسسات تتمتع بوضع مصرفي سليم، خلافاً لما كان عليه الوضع في السابق، عندما كان معظم عمليات انتقال الملكية يتم لاعتبارات تتصل بالمصاعب التي تعاني منها المصارف المعروضة للبيع، بدءاً من العام 1989، الذي شهد انفجار اكبر ملف مصرفي في لبنان منذ قضية "أنترا" في النصف الثاني من الستينات، مع انهيار "بنك المشرق". ويربط الخبراء المصرفيون في بيروت بين "ازدهار" سوق المصارف في لبنان، والتدابير التي سبق للمصرف المركزي ان اقرها قبل حوالي 3 سنوات، خصوصاً ما يتعلق منها بقضية رفع الحد الادنى للرأسمال الخاص للمصرف الى 10 مليارات ليرة 5.6 مليون دولار، والتزام معدل الملاءة المالية بموجب احكام اتفاقية بازل في سويسرا. وفي تقديرات كبار المسؤولين في مصرف لبنان، فإن هناك 10 مصارف تجارية على الاقل يتوجب عليها تسوية اوضاعها قبل نهاية العام الحالي، وهو الموعد الذي حدده المصرف المركزي لرفع الحد الادنى الى 10 مليارات ليرة. ويشير هؤلاء المصرفيون الى ان رساميل بعض المصارف لا زال دون 500 مليون ليرة حوالي 310 آلاف دولار، كما ان بعض المصارف لا يزيد رأسماله عن ملياري ليرة. وفي حين باشر المساهمون في 3 مصارف تعاني من مشكلة تدني رأسمالها الخاص الاجراءات اللازمة لزيادة رساميل مصارفهم الى الحد الادنى المطلوب، فإن 6 مصارف اخرى يعاني المساهمون فيها من مصاعب في تكوين رساميل كافية، او انهم ينوون الانسحاب من السوق نهائياً. وفي المقابل، تسعى المصارف المصنفة كبرى في بيروت الى زيادة حصتها من السوق، فيما تسعى المصارف المصنفة متوسطة الى تحسين ترتيبها على اللائحة، في الوقت الذي يشعر فيه المصرفيون اللبنانيون بأنه سيكون من الصعب على المؤسسات المصرفية اللبنانية الاستمرار، من دون فرص كافية للمنافسة، ليس فقط في ما بينها، بل ايضاً في مواجهة المؤسسات المصرفية الاقليمية والدولية التي دخلت السوق اللبنانية، ومثلت صفقة شراء المصرفي السعودي المعروف خالد بن محفوظ ل"الاعتماد اللبناني" الاهم بينها حتى الآن، الامر الذي سيفرض على المصارف الاخرى، خصوصاً الكبيرة منها، اما الدخول في المنافسة، واما الاكتفاء بحصة معروفة في السوق، مع مخاطر خسارتها مستقبلاً. والى هذه الاعتبارات، ثمة اعتقاد متزايد، سواء في مصرف لبنان، ام في الاوساط المصرفية، بأن ارتفاع كلفة التشغيل والتجهيز والمكننة، ستجعل من موضوع استمرار المصارف الصغيرة رهاناً شبه مستحيل، خصوصاً في ظل تزايد سيطرة المؤسسات الكبرى على السوق. وتسيطر المصارف العشرة الاولى في لبنان حالياً على حوالي 5 في المئة من السوق، فيما ترتفع هذه النسبة الى اكثر من 82 في المئة، اذا ما تم احتساب حصة المصارف العشرين الاولى، ما يعني ان نسبة ال 18 في المئة المتبقية يجب ان تتوزع على 63 مصرفاً عاملاً في الوقت الحاضر. هل انتهى دور المصارف الصغيرة وغير المليئة في لبنان؟ حاكمية مصرف لبنان رفضت تمديد مهلة تطبيق الحد الادنى الجديد للرأسمال. لكن ذلك قد لا يكون كافياً لإنهاء دور المصارف الصغيرة، وفق مسؤول في جمعية المصارف، اذ سيتوجب على السوق وظروف المنافسة، ان تحدد في خلال السنوات القليلة المقبلة، ما اذا كانت المؤسسات الصغيرة قادرة على الاستمرار وتأمين الحد الادنى من الربحية، وهو ما يبدو ان مصرف لبنان قرر الرهان عليه.