قطاع البناء في لبنان خالف التوقعات بتقلص نموه بسبب الفائض في العرض ووجود آلاف الشقق المعروضة للبيع. وطبقاً لأرقام رسمية، لكن غير نهائية، حققت مساحات البناء المرخص بها في الاشهر ال 11 الاولى من العام 1994، رقماً قياسياً لم يسبق ان حققته حتى في سنوات الذروة، في السبعينات، ومطلع الثمانينات. وحسب الاحصاءات التي اعدتها مديرية الشؤون العقارية في بيروت، ارتفعت مساحات البناء المرخص بها الى 15.226 مليون متر مربع وهو رقم يزيد بنسبة 7.96 في المئة عما تم الترخيص به في الفترة نفسها من العام 1993، ويمكن ان ترتفع هذه النسبة الى أكثر من 8.6 في المئة، اذا ما اخذت في الاعتبار المساحات التي تم الترخيص بها في الشهر 12. وطبقاً للارقام نفسها استمرت بيروت الكبرى نقطة الجذب الرئيسية للاستثمارات في قطاع البناء، اذ تجاوزت حصتها ما نسبته 63 في المئة من اجمالي المساحات المرخص بها، في حين احتلت محافظة الجنوب المرتبة الثانية بنسبة 14.4 في المئة، ثم بيروت الادارية بيروت الصغرى بنسبة 9.2 في المئة، بينما تراجعت حصة محافظة البقاع الى 5.5 في المئة في مقابل حصة مماثلة تقريباً لمحافظة الشمال. وينظر الى هذا التركز على أنه مؤشر الى استقطاب ما يسمى بيروت الكبرى، وهي تضم بيروت الادارية مع المناطق المحيطة بها ضمن شعاع يصل الى 15 كلم لغالبية الاستثمارات كنتيجة مباشرة لاستمرارها محور النشاط الاقتصادي والحكومي في البلاد، على رغم التوسع العمراني الذي حققته مدن رئيسية اخرى في البلاد، مثل طرابلس وجونيه وزحلة وصيدا. واللافت في قطاع البناء الذي يغلب فيه حالياً العرض على الطلب، ان الاسعار تستمر عند مستوياتها المرتفعة بالمقارنة مع الامكانات الشرائية لغالبية اللبنانيين، اضافة الى استمرار تدفق الاستثمارات على هذا القطاع والتي تقدر بحوالي 3 مليارات دولار سنوياً، ما يعني ان قطاع البناء لا زال يشكل نقطة الجذب الرئيسية للنسبة الاعلى من الرساميل الموظفة في لبنان، ولو ان ثمة اعتقاداً بأن هذا التركيز، يتم على حساب التوظيف في القطاعات الاخرى، وهو اعتقاد يثير الكثير من الجدل والنقاش حول جدوى الاستثمار في القطاع الصناعي او الزراعي، وقدرة الصناعات اللبنانية على المنافسة، ليس فقط في الاسواق الخارجية وانما في السوق المحلية بالدرجة الاولى. مستويات الأسعار ويبرر خبراء اقتصاديون توجه غالبية الرساميل، وهي لبنانية وعربية، الى الاستثمار في قطاع البناء باعتبارات اقتصادية واجتماعية مختلفة، من بينها شعور فئة واسعة من اللبنانيين، بأن الاستثمار العقاري هو الاقل مخاطرة في ظل الظروف التي يعيش فيها لبنان، اضافة الى أن هوامش الربح لا زالت تزيد كثيراً عما هي عليه في قطاعات اخرى، وحتى بالمقارنة مع هوامش الربح في دول اخرى. وتتراوح مستويات الاسعار في اطار بيروت الكبرى ما بين 400 دولار للمتر المربع في المناطق المصنفة شعبية وللشقق السكنية الصغيرة التي لا يزيد متوسط مساحتها عن 120 متراً مربعاً، وبين 2000 دولار للمتر المربع في المناطق المصنفة فخمة، مثل الرملة البيضاء، على الشاطىء الجنوبي لبيروت، وبعض احياء الاشرفية، وفي بعض الشوارع القريبة من منطقة الحمراء، الى فئة ثالثة تتوسط السعرين، وتتراوح ما بين 500 و1000 دولار للمتر المربع، ومعظمها لشقق متوسطة الى كبيرة المساحة. الى ذلك، يستفيد طالبو الشقق الصغيرة من فرص الحصول على قروض ميسرة، ولو محدودة، تقدمها بعض الجهات الحكومية، مثل الصندوق المستقل للاسكان، وهو جهاز حكومي متخصص في اقراض ذوي الدخل المحدود، الى بنك التسليف التعاوني، في حين ان بنك الاسكان المتخصص بإقراض ذوي الدخل المتوسط، لا زال ينتظر استكمال اجراءات تأسيسه. وتقول تقديرات متطابقة ان حجم الطلب على السكن في لبنان يزيد حالياً عن 100 الف وحدة سكنية، إلاّ أن غالبية اللبنانيين لا زالت عاجزة عن توفير التمويل الكافي بسبب تدني القوة الشرائية للاجور الحد الادنى لا يزيد حالياً عن 250 الف ليرة، اي ما يساوي حوالي 152 دولاراً في الشهر، في حين تقول تقديرات اخرى، ان هناك ما يصل الى حوالي 80 ألف وحدة سكنية معروضة في الوقت الحاضر مرشحة للارتفاع الى أكثر من 100 ألف وحدة في خلال 6 أشهر على الاكثر، نظراً الى الابنية التي هي قيد الانجاز حالياً. قيود على التسليفات واللافت في قطاع البناء في لبنان هو صموده في وجه المشاكل المالية، وعدم تعرضه لانتكاسات ناتجة عن تقلص حجم الطلب. ويعتبر هذا الوضع نتيجة مباشرة لمحدودية التسليفات المصرفية واعتماد التجار بصورة رئيسية على صيغة التمويل الذاتي، اذ غالباً ما يقوم التاجر بتمويل مشروعه من امواله الخاصة الى حين بيعه بالكامل لتنفيذ مشروع آخر، وهو ما يفسر في بعض صوره الاسباب التي تمنع اسعار الشقق من التراجع. وتفرض المصارف قيوداً واسعة على التسليفات الممنوحة لقطاع البناء والعقارات لاعتبارات تجارية من جهة، وتقيداً بتوجيهات اصدرها مصرف لبنان قبل سنوات للحد من احتمال استخدام هذه التسليفات في مضاربات عقارية، كما ان استمرار تطبيق فوائد مرتفعة على التسليفات بواقع 13 و14 في المئة على الدولار، و19 و20 في المئة على التسليفات بالليرة ساهم الى حد بعيد في الحد من لجوء تجار البناء الى المصارف للاقتراض منها. ويقدر عاملون في قطاع البناء ان يتحسن الطلب في خلال النصف الثاني من العام الحالي لاعتبارات عدة، من بينها عودة اللبنانيين من الخارج، في فصل الصيف، ثم استئناف بنك الاسكان والصندوق المستقل للاسكان التوسع في منح القروض، الى جانب اعتبار آخر لا يقل اهمية ويتمثل في دخول المصارف التجارية مجال التسليف العقاري لفترات طويلة الاجل تصل الى 10 و12 سنة بفوائد لا تزيد كثيراً عن فوائد مصرف الاسكان، وهو ما يمكن ان يوفر مصدراً آخر لتوظيف السيولة الفائضة لديها.