لم يكن موسم أصيلة الثقافي هذا الصيف ككلّ المواسم. فهو شهد انتهاء مرحلة وولادة مرحلة جديدة من تاريخه الحافل بالمحطّات والانجازات. فقد أعلن السفير محمد بن عيسى ولادة "منتدى أصيلة" وهو مؤسسة خاصة ستتولّى ادارة المهرجان، ويكون مقرّها "قصر الثقافة" التاريخي الذي يخضع حالياً لعملية ترميم واسعة. وفي انتظار اعادة افتتاح القصر، تعدّدت النشاطات والندوات والامسيات، ووضع الحجر الأساس ل "معهد الدراسات الأميركيّة"، وكان بين الضيوف البارزين الطيّب صالح وأحمد عبد المعطي حجازي ومنير بشير، ومحمد سعيد الصكار، وشريف الخزندار، ودلال المفتي، وجابر عصفور وآخرون. مثلما كانت منذ 3600 سنة ملتقى العابرين بين الشرق والغرب، ها هي أصيلة المغربيّة تجدد، من خلال موسمها الثقافي السنوي، التفاعل بين المفكرين والمبدعين من كل الأصقاع، وتقيم الجسور بين الحضارات والثقافات. وهكذا جاء الموسم التاسع عشر حافلاً بالجديد والطريف معاً، سواء في عروضه الفنية أو في حلقات النقاش. غير أن الاضافة البارزة تمثلت في الاعلان عن قيام "منتدى أصيلة"، حيث تحولت "جمعية المحيط الثقافية" التي تأسست قبل عقدين تقريباً إلى مؤسسة، على غرار المؤسسات الثقافية العلمية الكبرى مثل معهد "اسبين" في ولاية كولورادو و"مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" في واشنطن، لتكون بذلك أول مؤسسة من نوعها في العالم العربي تنظم الحلقات الدراسية، وترعى الأبحاث العلمية والانسانية والابداعية. عشرون سنة مرت هذا الصيف على أول موسم نظمته "جمعية المحيط الثقافية" التي يرأسها محمد بن عيسى وزير الثقافة الأسبق وسفير المغرب حالياً في الولاياتالمتحدة. وككل البدايات، انطلق الموسم صغيراً، لا سيما أن أعضاء هذه الجمعية غير الحكومية ليسوا سوى مجموعة قليلة من أبناء المدينة المغربيّة الشماليّة الصغيرة، إنما العريقة بتاريخها وعطاءاتها الفذة. وشيئاً فشيئاً تطور الموسم ليصبح تظاهرة دولية شاملة، ذائعة الصيت عربيّاً وعالميّاً. وتمخّضت هذه الدورة عن مؤسسة مستقلّة، تعمل بمنطق أكاديمي عقلاني، وتواصل تطوير مشروع أصيلة الطموح الذي يجمع الثقافة والفن والسياسة والاقتصاد والأدب والفكر، في ممارسة ترسّخت عاماً بعد آخر، حتّى أفرزت تقاليدها المميّزة، وحققت سمعتها عربياً ودولياً. والصورة تكبر في الشوارع والساحات وعلى جنبات البيوت الواطئة البيضاء، ومع الجداريات المغمورة بألوان الطبيعة المشرقة تحت شمس مغربية دافئة، وفي صالات العرض التي تتوزعها لوحات مبدعين من مختلف الأجيال، وعلى مسرح "مركز الحسن الثاني" حيث ينتشي عشاق أصيلة بالشعر مرة وبالغناء والموسيقى مرات. فالموسم كان سباقاً في تكريس حيّز واسع للفنون التشكيليّة، حين شرّع جدرانه البيضاء لفنّانين عرب وعالميين رسموا الجداريّات التي صارت من معالم المدينة. كما كان سباقاً إلى اقامة أول مشاغل الحفر والخزف ومختلف الفنون البصريّة خارج المدارس الاكاديمية، لتكون في متناول الهواة من كل الأعمار. ولا بدّ من التذكير بأن أول جامعة مفتوحة في العالم العربي أبصرت النور في أصيلة، مع "جامعة المعتمد بن عباد" التي تأسست قبل 12 عاماً، اضافة إلى تأسيس أول منتدى ثقافي عربي - أفريقي اقترنت به جائزة للشعر باسم الشاعر الكونغولي الراحل تشيكايا اوتامسي، أحد روّاد الموسم المؤسسين، قبل ان تحمل اسم الشاعر العراقي بلند الحيدري تخليداً لذكرى أحد الأوفياء للموسم وللمدينة. بلند الحيدري: اغتراب الورد موسم أصيلة 1997 كان مناسبة لاحياء الذكرى الأولى لرحيل بلند الحيدري. فاضافة إلى اطلاق اسمه على احدى ساحات المدينة، خصصت له ندوة تكريميّة بعنوان "بلند الحيدري وحركة الشعر العربي المعاصر"، بحضور أرملته الفنّانة العراقيّة دلال المفتي والطيّب صالح وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد سعيد الصكّار. وأعلن محمد بن عيسى أن أصيلة أرادت هذا الاحتفال تحيّة وفاء لبلند الذي عرفه "صديقاً وشاعراً ومشاكساً"، ومساهماً في المغامرة منذ انطلاقتها. كما تحدث الناقدان جابر عصفور وصلاح فضل مصر عن حياة المنفى التي عاشها، وهو موضوع شكل محور مداخلة هنري لوبيز الكونغو الذي عقد مقارنة بين موت مواطنه تشيكايا أوتامسي في منفاه الفرنسي وموت بلند في منفاه اللندني. وقدم كلّ من عيسى مخلوف لبنان الذي جمع شهادات عدد من النقاد والشعراء عن الشاعر الراحل في كتاب بعنوان: "بلند الحيدري… اغتراب الورد"، وسعيد السريحي السعودية، ومبارك ربيع وبشير القمري وعيسى بوحمالة المغرب، محيي الدين اللاذقاني سورية، محمد ابراهيم الشوش السودان... شهادات وقراءات نقدية أجمعت على الدور الريادي الذي مثله بلند الحيدري في سيرورة الشعر العربي الحديث إلى جانب نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي، فضلاً عن اسهاماته في مجال الفنون التشكيلية. كما تحدثت عقيلة الشاعر النحاتة دلال المفتي، بكثير من البساطة، وبعيداً عن الاطناب والمبالغات، وتمالكت أعصابها إلا أن صوتها خانها مراراً، فبدا التأثّر واضحاً، ولعلّ الحياء وعدم التئام الجرح جعلاها تضنّ بالتفاصيل الحميمة عن بلند الانسان. أما جائزة بلند الحيدري للشعراء الشباب فتأجّلت إلى العام المقبل، بسبب نوع من الارتباك وسوء التفاهم في أعمال لجنة التحكيم الموزّعة على أكثر من مؤثر واعتبار وخيار. ولم يفت الموسم استحضار شاعر العربية الكبير محمد مهدي الجواهري الذي غيبه الموت أخيراً، وهو في المنفى أيضاً، بعد حياة حافلة بالمفارقات امتدت على مساحة قرن. وقدم الشاعر العراقي صلاح نيازي لمحات خاطفة عن الجواهري الشاعر والانسان تلازمت فيها الذكريات الشخصية والآراء النقدية. كما قرأ مقاطع مختارة من قصائد الشاعر الراحل. العرب وأميركا: من الهيمنة إلى التقارب المعرفي للمرّة الثانية حضرت أميركا بقوة في أصيلة، عبر ندوة "العرب والأميركيون في الاعلام العربي والأميركي"، وكان من الطبيعي أن تنفجر الخلافات نفسها التي شهدتها ندوة الموسم الماضي "العرب والأميركيون: صورة الواحد في منظور الآخر". فعلى مدى أربعة أيام حاولت نخبة من العرب والأميركيين الاجابة عن جملة من التساؤلات حول العرب والاسلام، والتطرف، والعلاقات العربية - الأميركية وما يحيط بها من حقائق وأساطير. ولكن لماذا أميركا؟ كان واضحاً أن الهدف هو فتح باب الحوار حول حضور العرب في عصرهم، وطرح مستقبلهم الفكري والسياسي والحضاري في مواجهة الآخر المهيمن، أميركياً كان أم اوروبياً أم غربياً بوجه عام. وهذا ما أكده الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز سفير المملكة العربية السعودية في الولاياتالمتحدة في كلمته التي افتتح بها الندوة، حين دعا إلى تصحيح بعض المفاهيم واجلاء بعض الحقائق عن صورة العرب في أميركا، وذلك بحثاً عن حلول مشتركة تقرّب بين الطرفين والثقافتين، وتمهّد للتقدم على طريق الفرص الهائلة التي توفرها وسائل الاتصال الجديدة. أما النقاشات التي أسهم فيها مفكرون ورجال اعلام وديبلوماسيون مرموقون بينهم هشام شرابي الأستاذ في جامعة جورجتاون، ريتشارد مورفي مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق، والطيب صالح الروائي السوداني الشهير، آسيا العلوي أستاذة القانون في جامعة محمد الخامس في الرباط، البرلمانيّة والأكاديميّة المصريّة منى مكرم عبيد، فهد الحارثي عضو مجلس الشورى السعودي، وعثمان العمير رئيس تحرير جريدة "الشرق الأوسط"، والزميل خيرالله خيرالله مدير تحرير الشقيقة "الحياة"، فأثارت القلق والمخاوف من اتساع الفجوة بين العرب والأميركيين. وذلك نتيجة عوامل عدة ليس أقلها انحياز الادارات الأميركية المتعاقبة لاسرائيل ما جعل منها طرفاً في الصراع العربي - الاسرائيلي. وعبّر المشاركون، بمن فيهم الأميركيون، عن مشاعر القلق والاحباط، من جرّاء "الصورة النمطية" للعرب والمسلمين التي دأب الاعلام الأميركي على رسمها وتسويقها، لتنعكس على الرأي العام الأميركي، خصوصاً في ظل فردانية القوة التي تمثلها الولاياتالمتحدة بعد نهاية الحرب الباردة. لكن حصيلة السجال مثلت نقلة نوعية في فضاء التقارب المعرفي، والتفاهم بين صناع الرأي من اعلاميي الجانبين، لرفع الالتباس وتوضيح المفاهيم، واستجلاء سبل التعاون على أساس الاحترام المتبادل والواقع المعيش والمصالح المشتركة. "العولمة" والعمارة الاسلاميّة ندوة "العولمة والخدمات الاقتصادية: أي مستقبل للعالم العربي؟" أثارت هي الأخرى قدراً من النقاش، إذ شكل موضوع اندماج الاقتصاد العربي في المنظومة الاقتصادية العالمية الهاجس الأول، حيث الاقتصاديات العربية غير المتجانسة بل المتفاوتة في امكاناتها وقدراتها من بلد لآخر. وكما أرادت أصيلة التصدي لمعالجة القضايا الساخنة، واقتحام عالم الاقتصاد في دورات سابقة دور المؤسسات المالية في التنمية: النموذج العربي - 1993، فإن قرارها هذه المرة ببحث موضوع الخدمات الاقتصادية السياحة، المؤسسات المالية، النقل، وسائل الاتصال يأتي من منطلق اعتبارها أحد الخيارات المصيرية في اللحاق بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها العالم اليوم. أما ندوة "المدينة الاسلامية والتخطيط الحضري المعاصر" التي نظمت بالتعاون مع صندوق الآغا خان للثقافة، فإن النقاش الذي أثارته ساهم بشكل فعال في توجيه الاهتمام نحو التصاميم الاسلامية في العمارة، وابراز دور التراث المعماري كقاسم مشترك في انعاش التبادل الثقافي والفني. والمعروف أن أصيلة التي فازت مرّتين بجوائز عالميّة في مجال العمارة، هي الفضاء الأنسب لطرح مثل هذه المسائل الحضاريّة، بسبب تراثها وانجازاتها. وهي جعلت من موضوع العمارة الاسلاميّة أحد المحاور المهمّة لندواتها. ولعل أهمية هذه الندوة، التي شارك فيها باحثون ومهندسون وانثروبولوجيون من المغرب والأردن ومصر ولبنان وفرنسا وبريطانيا والولاياتالمتحدة وكندا، تكمن في اجاباتها عن أبرز الأسئلة حول الهوية المعمارية وعناصرها الثقافية والتاريخية، وفي الصميم منها الهوية الاسلامية. وشملت الندوة محوراً عن دور التراث الاسلامي في كيفية الدفع بهوية جديدة للعمارة المعاصرة. ذلك أن العمارة الاسلامية التي تجري دراستها على فترات مختلفة، ابتداء من المسجد النبوي في المدينةالمنورة إلى تطورها اليوم في مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء، عرفت تطورات كثيرة، مع أنّها حافظت على المبادئ والمقومات نفسها. وتريّات وجداريات وكما في كل موسم، تعددت الأنشطة الفنية هذا العام. لكنها المرة الأولى التي يعقد فيها ملتقى للوتريات بالتعاون مع دار ثقافات العالم في باريس التي يديرها المسرحي السوري الأصل شريف الخزندار، وبمشاركة فنّانين بينهم عازف العود العراقي الشهير منير بشير، وعازف الطامبور سيتار الكردي طيمبو، وعازف العود السوري بشار زرقان، والعازف الملغاشي جوستان فالي والعازفة الصينيّة يانغ لينينغ. وبموازاة ذلك شهدت أروقة الموسم ثلاثة معارض تشكيلية: معرض جماعي للفنانين المغاربة الذين شاركوا في صباغة جداريات 1997، ومعرض "أبواب من الأطلس" الذي ضم قطعاً من مجموعة رواق خالد للفنون في مراكش، ومعرض لثلاثة فنانين شباب من أصيلة هم محمد العنزاوي، سهيل بنعزوز ومعاذ الجباري. وتظل الجداريات العلامة البارزة منذ 1978 الذي شهد أول مواسم أصيلة الثقافية، حين تبلورت تجربة العمل التشكيلي على الجدران مع فريد بلكاهية ومحمد المليحي ومحمد شبعة وسعد الحساني وآخرين من أوروبا وأميركا والعالم العربي، ساهموا بجدارياتهم في تجميل البيئة وحوّلوا المدينة إلى متحف الهواء الطلق. وهذا الصيف دعيت مجموعة جديدة إلى ترك بصماتها على جدران المنازل التاريخية. في عداد المجموعة: مليكة أكزناي، فرنسواز غروند، مريم العلج، أحمد جاريد، عبدالقادر لعرج، محمد العنزاوي، سهيل بن عزوز، كوثر الشركي، يوسف الغرباوي، معاذ الجباري، لمياء سكيردج... وإذا كانت مشاغل الفنون التشكيلية التي كان يحتضنها "قصر الثقافة" غابت للعام الثالث، فإن محمد بن عيسى ضرب موعداً مع رواد هذه المشاغل في دورة الموسم المقبلة بعدما تبرع الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز من ماله الخاص لترميم قصر الريسوني الذي يضمّ المشاغل والمراسم والمحترفات، وتوسيع هياكله وتجهيزه وتطوير أثاثه. كما تبرع لانشاء مكتبة ومجمع ثقافي يعتمد أحدث وسائل الاتصال والمعلومات، على أن يضمّ قسماً خاصاً بالشعر من الجاهليّة إلى اليوم، يحمل اسم الراحل بلند الحيدري. وكان الأمير بندر وضع، في حفل افتتاح الموسم، حجر الأساس لپ"معهد أصيلة للدراسات الأميركية" الذي اقترحته ندوة "العرب والأميركيون" عند انعقادها العام الماضي، ليملأ الفراغ ويلبي حاجات الباحثين إلى معرفة الآخر القريب جدّاً، على رغم المسافات والأزمنة والحواجز النفسيّة التي تفصلنا عنه .