بين مهرجانات الصيف في العالم العربي، يحتل "موسم أصيلة الثقافي" مكانة على حدة، نظراً الى جرأة وفرادة الرهان الذي قامت عليه هذه التظاهرة ذات يوم من صيف 1978. فالمدينة المغربية الشمالية التي ازدهرت على قاعدة "الثقافة في خدمة التنمية"، تستقبل كل عام مبدعين ومثقفين قادمين من مختلف الاقطار والآفاق، ليشاركوا في محترفاتها ولقاءاتها وأمسياتها. وأصيلة فضاء للحوار والاختلاف والتفاعل، تحتل فيها الفنون المرئية حيّزاً أساسياً الى جانب العروض واللقاءات وأعمال "جامعة المعتمد بن عباد"... لكن الموسم هو قبل كل شيء حكاية اللقاءات واللحظات الاستثنائية التي تقوم عليها ذاكرته وتاريخه... "الوسط" شهدت بعضها وعادت بملاحظات وانطباعات. على منصة متوسطة الارتفاع مفروشة بالسجاد تسبح في ضوء خافت، جلس العازفان بالزي التقليدي بين الارائك. الاول يحتضن آلة السيتار والثاني ينقر برهافة على الطبلة. "سأغني شعراً من القرن السابع"، بخجل ملحوظ ينبّه صاحب السيتار جمهوره المختبئ في العتمة وقد التقط أنفاسه. "القصيدة للشاعر الفارسي حافظ - يضيف نادر مجد بالانكليزية، وهو فنان ايراني جاء خصوصاً من نيويورك - والاغنية على مقام أصفهان". وما أن يبدأ بمداعبة أوتاره، يرافقه زميله خوسرو موجفاني على الايقاع، حتّى يدخل الحضور في حالة من التأمل والوجد، تبدو للوافد لتوّه وكأنها عادة دارجة وأليفة في هذا المكان. و"هذا المكان" يستقبل للعام السادس عشر على التوالي، مهرجاناً ثقافياً وفنياً يندر أن نجد تظاهرة عربية بجدته وسعة أفقه وتنوع اهتماماته وضيوفه وثقافاته، وقدرته على الاستمرار: نحن في أصيلة. وتحديداً في الباحة الداخلية ل "قصر الريسوني"، حيث تشرد النظرات وتنساب على وقع الموسيقى بين نقوش الجدران، تدور مع "الزليج" حول الاقواس، تلك الفسيفساء التي يطغى عليها اللون الازرق ليذكرنا أننا في المغرب، في مكان ما بين العصور الذهبية للاندلس ومجاهل قرن جديد يتراءى في الأفق باطلالته المقلقة. قصر الريسوني: أطياف وأساطير نحن في أصيلة. في قصر تخيم عليه الحكايات والاساطير. يقال إن باني القصر كان يدفن جثث معارضيه في الجدران السميكة، وأن أرواحاً تحوم فوق المكان، ويقال... لكن الريسوني الذي حاول أن يستقل عن السلطة المركزية أيام الاحتلال البرتغالي، لقي مصيره المشؤوم قبل أن يهنأ بالقصر الذي بناه، فبقي هذا الاخير متلفعاً بالأسوار التاريخية، على كتف المحيط الاطلسي، داخل المدينة القديمة ذات البيوت التقليدية المتبرجة بالابيض والازرق. بقي هكذا على حاله، الى أن جاءت مجموعة أخرى من المغامرين، أغلبها من الفنانين، لتؤسس "جمعية المحيط" وتضع يدها على المكان بعد أن طوّبته "قصر الثقافة". بين هؤلاء كان ابنا أصيلة محمد بن عيسى، عمدة المدينة ووزير الثقافة الاسبق في بلاده قبل أن يصبح سفير المغرب في الولاياتالمتحدة، ومحمد المليحي الفنان المعروف الذي رسم أمواج المدينة، واستعار ألوانها ومنحها أحلامه. أما الاشباح المتسكعة في القصر، إذا كان لا بد لكل حكاية جميلة من أشباحها، فهي أطياف الفنانين الذين عبروه، وتركوا فيه جزءاً منهم على مرّ عقد ونصف عقد من عمر "موسم أصيلة الثقافي" الذي توحي تسميته بالخصب وبالغلال الوفيرة. فبين رواد أصيلة والمبدعين الذين تركوا بصماتهم على تاريخها الحافل، مَن طوته المنية لكنه حافظ على مكانه هنا كأن شيئاً لم يكن: المفكر المصري لويس عوض، الكاتب المصري يوسف ادريس، الشاعر السوداني صلاح أحمد ابراهيم، الشاعر الكونغولي تشيكايا أوتامسي، وقبل أيام الكاتب المغربي محمد عزيز الحبابي. نحن في أصيلة. في قصر الثقافة، حيث يحيي الثنائي الايراني أمسيته. قبل سنوات كانت الندوات أيضاً تعقد هنا، لكن "مركز الحسن الثاني للثقافة والفنون" الحديث العهد، ورث جزءاً من النشاطات بقاعة ندواته، وفضاء المعارض، وحيز اللقاءات، وبقي القصر للمحترفات وللمناسبات الفنية. الموسم السادس عشر بدأ قبل أيام، متوزعاً على الندوات الفكرية ومشاغل الحفر والرسم والسيراميك، على المعارض والامسيات الفنية. تماذج الثقافات وأرض التفاعل والاختلاف قبل الوصول الى هذه القاعة، تقوم بجولة تفقدية بين أزقة المدينة، بعد عام من الغياب. هنا جدارية جديدة على واجهة أحد البيوت المطلية بالكلس الابيض، وهناك ورشة ترميم ل "برج القمرة" من العهد البرتغالي، تسأل نفسك لماذا تحوّلت الى عملية تشويه بالاسمنت لذاك المعلم التاريخي؟ أمسية الموسيقى الايرانية تبلغ أوجها الآن، وترتفع حدّة التصفيق والحضور يطالب بالمزيد. تواصل جولتك على الزخارف في حركة رأس بانورامية كالتي تقوم بها الكاميرا خلال لقطة سينمائية، قبل أن تهبط بأنظارك بين الجمهور المحتشد في "وسط الدار"، لتتبيّن في الظلمة خليطاً من الفنانين الاجانب والادباء العرب والمستمعين المغاربة من ضيوف المدينة ومصطافيها. وتماذج الثقافات هذا، من المبادئ الذهبية التي يقوم عليها "موسم" يريد نفسه فضاء للتفاعل والحوار بين العرب، بينهم وبين الافارقة، بين الشمال والجنوب...، وأرضاً للاختلاف واختلاط اللغات وتلاقح التجارب. على بعد خطوات من هنا، قبيل الغروب، تحلق نفر من الفنانين المغاربة والضيوف عند الشاطئ، ليشهدوا لحظة نادرة من لحظات تعانق الفن والحياة. فالنحات الاميركي تود شلوتر عمل منذ الصباح بمساعدة فنانين وفنانات من شباب أصيلة، ليخوض تجربته. بعناء اشتغل الفريق على نحت تمثال عملاق من الرمل، عند سفح الاسوار التي طالما صمدت في وجه المغيرين. ثم طلوا رَجُلَهم بالزعفران وراحوا يترقبون المد، ليعيشوا تلك الحالة السحرية التي سيمحي فيها كل شيء. فأصيلة، على صورة رجل الرمل الذي ابتكره شلوتر ثم التهمته الامواج، هي أيضاً أرض اللقاءات والتجارب الزائلة التي لا يبقى منها الا ضربات ريشة على قماشة بكر، بضع خربشات على ورقة صفراء أو جمل تاهت في الاثير، ودعسات على الرمال... الذي يبقى من أصيلة، ويترسّخ عاماً بعد آخر، هو أسطورة مدينة منسيّة في الشمال الغربي الفقير، يعيش أهلها من الصيد ويحصون أيامهم تمر بطيئة متشابهة. واذا ببن عيسى والمليحي ومن حولهما عدد من الفنانين المغاربة التحقت بهم نخبة من الكتاب العرب، يطلقون رهانهم الجريء: الثقافة في خدمة التنمية. يومها لم يكن في أصيلة فندق لائق، ولم يكن الماء متوفراً للجميع ولا الكهرباء. أما الضيوف من المشاهير فدخلوها على الحمير، لأن الطريق كانت تتوقف عند محطة القطار. الثقافة في خدمة التنمية مع مرور المواسم، أصبحت أصيلة مسرحاً لنشاطات فنية وندوات بارزة ومختبراً ثقافياً في الهواء الطلق، وباتت مقصداً لمصطافي الداخل، الى كونها معروفة عربياً وعالمياً. وانتعشت المدينة اقتصادياً فاذا بها واحة مزدهرة تربّى فيها جيل كامل على هموم الثقافة والابداع. ما زلنا نذكر جيّداً، كيف وقفت احدى عاملات الفندق قبل عامين، تلقي علينا بطريقة مسرحية قصيدة المتنبي "واحرّ قلباه" أمام حشد من الضيوف المشدوهين. كان من الطبيعي اذاً أن يفسح "الموسم" بين ندواته الكثيرة، وأغلبها دار حول قضايا فكرية وابداعية وسياسية، مكاناً لندوة متخصصة في المسائل الاقتصادية، وذلك بحضور خبراء عالميين. فالهم التنموي لم يغب يوماً عن أصيلة، لكن الوقت كان قد حان لتناول قضايا التنمية انطلاقاً من أطر علمية ملموسة. فتحت عنوان "دور المؤسسات المالية في التنمية: النموذج العربي" تداول ثلاثون اختصاصياً في ميادين المال والاقتصاد والاستثمار بينهم محمود عبد العزيز رئيس اتحاد البنوك العربية، القاهرة - عثمان الانصاري مستشار مصرفي، سوريا - عمر عبدالقادر باجمال من البنك الاهلي التجاري، السعودية... مختلف جوانب المسألة واجتهدوا في عرض امكانات وشروط اجتذاب رؤوس الاموال، ودراسة مستقبل الاستثمار في المنطقة العربية. وحين تتعب من متابعة النقاشات المتخصصة لا بأس أن تخرج من قاعة الندوات في "مركز الحسن الثاني"، الى الباحة الخارجية التي تحولت الى كافيتيريا عائمة بين اللوحات والمعارض. فهنا تتم اللقاءات الاندر، ويجتمع شمل مبدعين ومثقفين باعدت بينهم المنافي، كما يلتقي بعد طول فراق أفراد الاسرة الواحدة. وهنا تولد المشاريع وتحتدم النقاشات. الكاتب التونسي المقيم في ألمانيا حسّونة المصباحي مستغرق في حديث مع الشاعرة والناقدة العراقية المقيمة في عمان مي مظفر، وقد تأبط "اعترافات" القديس أغسطينوس. ينتقل الكلام من الكاتب الفرنسي جان بودريار وكتابه "في الاغراء"، الى أعمال محمد خيرالدين والأدب المغاربي بشكل عام. واذا بالشاعر والناقد المغربي محمد بنيس يدلف الى القاعة، آتياً من طنجة. بعد التحية والسؤال عن الاحوال، تكتشف أن مجموعة من الشبان الذين لا تعرفهم، تحلقوا حول الطاولة، وأن الحديث أخذ طابعاً أكثر خطورة. بنيس يتكلم ونحن نستمع. عن أصيلة بالتحديد. فبعض الكتاب والمثقفين المغاربة البارزين، بقيت علاقتهم صدامية ب "الموسم": "يتمتع الوافد العربي الى أصيلة بمطلق الحرية في الكلام والنقاش، فهل أن المثقف المغربي يتمتع هنا بنفس الامتيازات؟". ويضيف بنيس الذي جاء على هامش المهرجان لمتابعة بعض نشاطاته، أنه في كل الاحوال ضدّ المقاطعة السلبية التي يختبئ خلفها مثقفو المعارضة: "يخافون من الاحتواء، والاستغلال السياسي؟ ليأتوا اذاً ويثبتوا حضورهم ويخوضوا معاركهم. أصيلة على الاقل نجحت في ارساء تقاليد ثقافية. لماذا لم يفعل الآخرون الشيء نفسه؟ مشكلتي مع أصيلة تتعدّى السياسة، لا يهمّني محاسبة النيّات. مأخذي ثقافي بحت، ولو أن الموسم اختار الانفتاح المطلوب لكان تطوّرَ في اتجاه آخر. فهو انطلق في فترة حساسة وخصبة من تاريخ المغرب. أتعرف ما معنى أن تبدأ مهرجاناً ثقافياً في العام 1978؟". يتكلم محمد بنيس، ويحك لحيته بين حين وآخر. ويحين وقت القيام بجولة على اللوحات المعروضة هذا العام. يقدم الموسم الى زواره تجربة لافتة من خلال معرض جماعي لسبعة فنانين من "غاليري مرسم" في الرباط: أحمد بن يسف، محمد شبعة، عبدالله الديباجي، حسين الميلودي، محمد موسيك، عبدالله وابراهيم صدوق. وتتجاور لوحات هؤلاء مع مجموعة أخرى من اللوحات لفناني أصيلة من أبناء الجيل الجديد. فبعد رعيل محمد المليحي، ها هو جيل جديد يبزغ حاملاً همومه وتجاربه من النحت عبد القادر المليحي الى التصوير الفوتوغرافي محمد الجباري مروراً بالرسم: كوثر الشريكي، وفاء الهضيبي، نور الدين بوغلالة، سهيل بن عزوز... وكما ذكرنا فان الفن التشكيلي هو حجر الاساس في عمارة "الموسم" الذي يدعو سنوياً مجموعة تشكيليين من العالم أجمع، يعملون في محترفات أصيلة ويتركون لوحاتهم ومنحوتاتهم ورسومهم واعمالهم الحفرية غرافور والفخارية سيراميك لتغني مجموعة المدينة. بين ضيوف هذا الصيف فنانون من السعودية واسبانياوالولاياتالمتحدة وبريطانيا والمغرب نشير بينهم الى الباكستانية منصورة حسن مشغل الغرافور، العراقي طارق ابراهيم السيراميك. وحين تزور مشغل الحفر، لا مفر من أن تصادف رجلاً طويلاً نحيل القامة خفيف الحركة هادئاً دائم الابتسام فائق اللطف، شعره الاشيب المنفوش يضيء بشرته السوداء. انه الفنان السوداني محمد عمر خليل مسؤول المشغل. منذ الدورة الاولى للمهرجان، لم يتخلف مرّة عن الموعد. بصبر ينتقل بين وعاء الاسيد وآلة المكبس، يدرب عشرات المبتدئين المغاربة وغير المغاربة. واذا سمعت لغطاً في القاعة المجاورة، لا بد أنه الفنان العراقي رافع الناصري، وهو أيضاً من الرعيل المؤسس، يعلن عدم رضاه عن نتيجة طبع احد اعماله في الحفر. هذه السنة يشتغل الناصري على مادة ال "بلكسيغلاس" بدلاً من المعدن، وقد احتل الاسمنت مساحة اللوح ليشكل النتوءات والتدرجات اللونية، بعيداً عن الاسيد الذي يتم اللجوء اليه عادة لتحضير الكليشيه المعدني. عند باب المشغل يستوقفنا فنان شاب للكلام عن تجربته، انه عبد الكريم الوزاني. "هل شاهدت جداريتي؟" يسأل. نرد بالنفي، فيروح يدلّنا على "الزنقة" حيث يقع المنزل الذي تحولت واجهته البيضاء - عملاً بالتقليد ال "زيلاشي" - الى مساحة من الاشكال والالوان تحمل توقيعه. لا نتوصل الى تحديد المكان، فازقة المدينة القديمة دهاليز تحتفظ بأسرارها وألغازها. يقول وقد نفد صبره "مكان جدارية فريد بلكاهية سابقاً". - آه. رسمت فوقها؟ الآن عرفت. في هذه المدينة الجداريات تمحو الجداريات، انها حركة الزمن، والجيل الجديد يحل مكان جيل الرواد. عساه يحافظ عل المستوى الفني نفسه، ويهتدي الى أسئلته ومشروعه... أصيلة، اللحظات الاستثنائية نحن في أصيلة، اذاً. والمدينة القديمة يشكل تراثها المعماري ثروة ثقافية نادرة. ألم تنل هذه، بفضل مشروع احيائها وصيانتها، "جائزة آغا خان للعمارة الاسلامية"، قبل أربع سنوات؟ وهذا الموسم خصصت جامعة المعتمد بن عباد أشغال احدى ندواتها لتناول "العمارة الشعبية" في الغرب بالمقارنة مع تجارب مشابهة في شبه الجزيرة الايبيرية وأميركا اللاتينية. وتقرر انشاء فريق بحث متخصص في العمارة، بانتظار تنظيم ندوة أشمل عام 1994 واعادة تحديد معنى العمارة المحلية والاقليمية. ما يبقى من أصيلة هو تلك اللحظات الاستثنائية التي تأتي على غفلة من الجميع، حاملة زخمها الانفعالي. من الصور التي عدنا بها واحدة تتعلق بذكرى تشيكايا أوتامسي، وأخرى بالندوة الادبية ومفاجآتها، وثالثة من ليل المدينة حين يشتعل بالاحتفالات. تشكايا أوتامسي كاتب وشاعر فركوفوني من الكونغو، عايش الولادة الصعبة للمهرجان، احب المدينة وصار من أبنائها، وفيها احتفل بميلاده الخمسين، قبل أن يرحل عن دنيانا في لحظة حب، مخلفاً وراءه القصائد والذكريات. تخليداً لذكراه، أنشئت حديقة تحمل اسمه عند باب "القصبة"، وجائزة تمنح سنوياً لشاعر من أفريقيا بغض النظر عن اللغة التي يكتب بها. بعد ادوار مونيك ورينيه ديبستر، كانت الجائزة من نصيب مازيسي كونيني من أفريقيا الجنوبية، وهو يكتب بلغة الزولو وقد رفض حتّى الامس القريب أن تترجم قصائده الى أي لغة أخرى. في جلسة احياء ذكرى تشيكايا وتقديم الجائزة، كان الحزن بادياً على الوجوه. محمد بن عيسى الصديق الدائم، شريف خزندار الذي ينفق عمره على درب "ثقافات العالم"، الشاعر المارتينيكي ادوار مونيك، الكاتب السوداني الطيب صالح، والكاتبة والمخرجة الفرنسية فرنسواز غروند. وعندما وقفت هذه الاخيرة لإلقاء كلمتها توقع الجميع خطبة مجاملة كالتي تحفل بها مثل هذه المناسبات. فاذا بغروند تؤدي بمهارة تمثيلية مشهداً مرتجلاً على طريقة الرواة الشعبيين، تستعيد خلاله حكايات وذكريات من سيرة تشيكايا، الفتى الذي آلمه فراق أمه، والذي كان يعرج ولم يتكلم الا متأخراً... إميل حبيبي وأنسنة العدو الندوة الثالثة والاخيرة للموسم خصصت للادب ودعي اليها عدد هائل من الكتاب العرب والمحسوبين على عالم الكتابة. محور الندوة كان "الكاتب العربي بين نشوته الذاتية والعالم من حوله"، شارك فيها لطفي الخولي، أحمد عبد المعطي حجازي، رأفت الميهي، الطيب صالح، أحمد ابراهيم الفقيه، بلال الحسن... وأميل حبيبي، الآتي من فلسطين ليخلق المفاجأة كما هي عادته. في بحثه، حاول حبيبي بأسلوبه العذب أن يقدم مراجعة لتجربته بين مقتضيات الابداع واكراه السياسة التي وهبها الجزء الاكبر من حياته. بين عالمية الادب وذاتيته توقف صاحب "المتشائل" عند مسألة حساسة وجارحة لم تلبث أن فجرت غضب بعض الحاضرين. كلمة واحدة وردت في مداخلته، هو الذي يعيش تحت الاحتلال كانت كافية لزرع البلبلة واحتدام النقاش. دعا حبيبي الى "أنسنة العدو"، والبدء في جردة الحساب المطلوبة من "محاسبة الذات". وانقسم الحاضرون بين مهاجم مستنكر ومدافع، وكبرت المسألة في عناوين الصفحات الاولى، والرجل على تشاؤله المعهود بين اغفاءتين يرمي حجراً في البركة الآسنة ثم يعود من حيث أتى. لكن، لنترك المنتدين يتخاصمون ويتقاذفون بالاتهامات، فليل أصيلة هو وحده الملجأ، وفي أمسياته الفنية شفاء للغليل وعزاء للروح التي أضنتها الخيبات والهزائم الحميمة. فهنا سيحيي "جوق فاس" حفلته مع "الآلة" والموسيقى الغرناطية، بقيادة الحاج عبد الكريم الرايس، تقود حركة يده على الربابة ايقاع النشيد... واذا كنت تفضل الموسيقى الكلاسيكية، فها هي فرقة طنجة تؤدي الموشحات والمقامات. أما اذا كان الجاز ما تبتغيه، فعليك ان تغتنم فرصة وجود "فنسنت تشانسي كوينتت" الآتية من نيويورك لتقدم نوعاً من الجاز الحديث الذي انقسمت حوله الآراء. وهناك لمحبّي الفولكلور والتراث المغربي العريق أمسية "أحواش ورزازات" حيث تتكاتف الراقصات بالعشرات في الزي التقليدي على وقع موسيقى يعزفها رجال تحلقوا في وسط الساحة. فهذا النوع من العروض لا يلذ التواصل معه الا في الهواء الطلق. و"ساحة القمرة" معروفة برحابتها، يعبر المتنزهون بالاحتفال يلقون نظرة أو يتدافعون لمتابعته حتى المشهد الاخير. والساحة نفسها هي التي استضافت، ككل عام، فرقة "كناوى أصيلة" التي تشكل خير تجسيد لهذا العمق الثقافي للمكان وأهله، عند مفترق الطرق الحاسم بين الثقافات، العرب، البربر، أفريقيا، اسبانيا، فرنسا... من أصيلة على شاطئ الاطلسي، يبدو العالم حقاً "قرية صغيرة"!