سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
تداعيات عن المدن والرجال في حديث غير منشور مع الجواهري : رأيت الشام بعيدة كالقمر وفلسطين ذهباً مفقوداً ودخولي لبنان "غير شرعي" بعد "باق واعمار الطغاة قصار" !
محمد مهدي الجواهري، عمره الشعري من عمر العراق الحديث، ولذلك تصدرت شعره قضايا تكوين هذا البلد. كأن الشاعر ضمير عام، يرضى حين ترضى الجموع ويغضب لغضبها. وهو لم يلحق بالجموع وانما تقدمها، ففي طبيعة الضمير ان يستشرف، لذلك يبدو الشاعر منصتاً لحركة الأحداث: تبعث فيه الأمل او تعده بالخيبات. والحساسية السياسية غلبت على شعر الجواهري، خصوصاً ذلك المشهور والذائع من قصائده: ارادة الحرية والاستقلال وحق الانسان في الوجود الكريم. وعالمه الشعري الذي لامس الفعل السياسي والتطور الاجتماعي وحقوق الانسان، كان نابعاً من بداوة وأصالة يلتقي عندهما اليقين والشك. وكأنه كان يتفرس في غضون الاشخاص وتعرجات الامكنة ومنعرجات الاحداث ليقرأ طالعها. فإذا به الشخصية الرمز التي تتوحد عندها تناقضات الجموع والتي بقي العراقيون جميعاً، يرضون عنها ويرتضونها. والجواهري الذي فقد الشعر الكلاسيكي العربي، برحيله، احد آخر كباره، شاعر يأنس الى سلطة قصيدته، فكأنها كيان خارج عنه، وهو يتحاور معها كمن يحادث مستشاريه. هنا الجزء الثاني والأخير من حديث أجرته "الوسط" سنة 1992 مع هذا الشاعر العربي الكبير، فيه يتابع حديثه عن البلاد والرجال والقصائد، فيستعيد رحلاته الى دمشقوفلسطين ومصر، ويتناول اقاماته في لبنان، وملابسات قرار إبعاده الساري المفعول منذ 42 عاماً. أتحدث عن دمشق التي رأيتها. فهناك دمشق قبل ان ارأها، كحلم... اعني بلاد الشام. فدمشق يأتي ذكرها عرضاً، ولبنان ايضاً: "وعقاب لبنانٍ وكيف بقطعها وهو الشتاء وصيفهن شتاء" هذا البيت للمتنبي، هو من القليل النادر عند العرب. بلاد الشام هذه البقعة، بما فيها الأردنوفلسطين برمتها ولبنانودمشق. لا يصدق المرء ان مدة ساعتين بالطائرة فقط تفصله عنها، فكأنه قام برحلة الى القمر. هكذا كنا نتصور في بغداد عندما نذهب الى دمشق. وعندنا في العراق مثل يقول "رجل في الشام ورجل في حلب"، اي على مسافة بعيدة جداً! وهذا الشعور بالمسافة سببه الفرق الحضاري بيننا في الحقيقة. كان لبنان جنة ما يسمى ببلاد الشام في الواقع، وتأتي دمشق بعده. وحتى اليوم احلم ان ارى لبنان من جديد. فأنا كنت واحداً من الشبان العرب الحالمين بالرباط العربي المشدود بيننا كلنا. دع عنك تخيل المسافة، لكنني كنت واحداً من القلائل الواعين لمدى الرباط الذي يشدنا. فالاقليمية المتمركزة كانت هي السائدة، وأنا أحكي عن فترة مضى عليها سبعون سنة. الاقليمية الآن موجودة، كما ترى، فتصور الحال قبل سبعين سنة او قبل قرن من الزمن. وأذكر اول ما شدني الى دمشق الثورة ضد الفرنسيين سنة 1925 او سنة 1926. نشرت يومها قطعة حلوة تلاها بعض الذاهبين الى دمشق عن طريق المصادفة. صار احتفال، وكان مطلوباً كلمة من العراق، حسب ما روى لاحقاً اصدقاء حاضرون، بينهم المرحوم احمد حامد الصراف الذي كان في عداد الوفد. قال: "لم نجد أنسب من أبياتك لنقرأها ككلمة تمثل العراق". نشرت قصيدتي عن الثورة السورية، ولم يكن شيء من هذا القبيل موجوداً في بغداد ذلك الوقت. فالتجاوب في الصحف والأخبار كان موجوداً في ما يشبه الشكليات، اما على صعيد الشعر، فلم يكن هناك مثل هذا الصوت الذي عبرت عنه. أيام لا تنسى في دمشق ثم كانت دمشق التي رأيتها بعيني بعد ذلك بثلاث سنوات او اربع، يعني قبل الثلاثينات. وعند وصولي الى ابو الشامات، حيث الحدود، اقول "ازداد كلواً أي وزناً" على مدخل دمشق، فكيف لو اكون فيها. وكانت ايام لا تنسى في الحقيقة. كانت المدينة غير ما هي عليه اليوم، ومن النادر ان تجد اليوم من رآها كما رأيتها أنا، نظراً الى عمري. وما اقل الذين يحسبون الفرق بين رؤيتين لمدينة واحدة، يفصل بينهما ما لا يقل عن ستين عاماً. مع الأسف، وبصراحة اقولها، هذا التخطيط الذي اعتمده المسؤولون من زمن غير قليل لم يكن صحيحاً، ولم يكن تخطيطاً يعطي دمشق صورتها الطبيعية الزمنية والمكانية. فما معنى ان تُشترى الارض وترتفع العمارة على حساب رفاهية الناس في الحقول والبساتين، وفي الطبيعة؟ حرام ان يحضر التصنّع على حساب الطبيعة، ان ترتفع البنايات الشاهقة لمجرد الارتفاع والتسابق على بناء البيوت والشقق بلا حساب، او على حساب طبيعة دمشق ورفاهيتها وجمالها نفسه. ارجو ألا يفهم من هذا الكلام انني ضد التطور، كل ما في الأمر ضرورة وجود التخطيط. دمشق الأولى أتمنى ان تعود، ولو تهدم الف عمارة. كانت كلها بساتين ومنتزهات تساعد انفاس الناس واستراحاتهم وأسمارهم وجلساتهم. كانت بين الشارع والشارع حدائق وبساتين خضراء ومقاه جميلة. هل ثمن العمران ان تُخنق المدينة؟ البقع الخضراء راحت، وهم الآن يزحفون على الغوطة التاريخية، ودمشق لا تُذكر إلا بالغوطتين. طبعاً ما كانت النساء الدمشقيات يرين في الشارع، وبالحلل العصرية، كما اليوم. كان الوضع مثل العراق تقريباً، ولكن النمط أرقى طبعاً. فالبيت السوري أرقى بكثير من البيت العراقي. الجماعة سبقوا العراق في الحضارة، واللبناني طبعاً سابق لسورية في الحضارة. ومن دمشق باق في ذاكرتي كثيرون منهم المرحوم خليل مردم بك. كنت أدعى الى المجمع العلمي في عهد محمد كرد علي الشهير، وكان مهرجان المعري. صحيح ان شكري القوتلي رعى المهرجان لكن خليل مردم كان ينظمه. ومن طبقة الأدباء الكهول مثلي، كان سعيد الجزائري، وأصحاب الصحف يكتبون عن وصولي وأزورهم. بدوي الجبل كان يأتي بغداد لاجئاً او فاراً او غير ذلك، متكتلاً كان حزب الكتلة الوطنية، والاتجاهات الحزبية تعرقل الشاعر. كان يأتي اليّ في "الرأي العام" وفي البيت، وعندما آتي الى دمشق لا يدعوني. لكنه شاعر سورية الاول وهذا لا يُنكر، وعندما يقال فلان وفلان معه، لا بد من ذكر الفارق. كان متقوقعاً تجاهي، انا من الناس، من الشارع مع الشارع، ما احضر الى دمشق الا وحضرته وزير او نائب ينتمي الى الكتلة الوطنية المزعومة، وكلها الله يعلم من هي او من هم. عمر ابو ريشة مختلف. كان اشد الملتصقين بي، وما ان احضر الى سورية حتى لا نعود نفترق. هذا من حيث الصداقة، ولكن هناك اسئلة انحرج منها، فالجماعة انتقلوا الى رحمة الله. فالمذكوران، وثالثهم اللبناني بشارة الخوري، الاخطل الصغير، اهدوا ديوانهم، وعاشوا برفاه لا يوصف، وانت تعرفني كما انا حتى الآن. تسألني عن مقياس الشاعرية بالنسبة اليّ؟ شاعر لا يوجد الناس في ديوانه ليس بشاعر. نعم، هو يصوغ وينمق. ولكن الى اي مدى هناك حضور للناس في ديوانه، والى اي مدى هو مع الناس: هذا هو السؤال. لكن بدوي الجبل وعمر أبو ريشة وبشارة الخوري لا ينكرون. وأنا وبدوي الجبل من عمر واحد، كانت تنشر الجرائد لي وله، عمر ابو ريشة كذلك، والأخطل الصغير ايضاً. ليتني لم اشاهد فلسطين! تسألني عن فلسطين؟ هل بقي كلام لم يقل عن فلسطين، في الشعر وغير الشعر؟ الفلسطيني الذي ولد بعد 1948 في الخارج، لم ير فلسطين، انا رأيتها وجلت فيها. كنت في مكتبي في جريدة "الرأي العام" في بغداد، جاءني رجل، عجيب يا أخي، من قبل ممثلي اذاعة لندن، اي مكتب الاذاعة في العراق، يتوسط بيني وبينهم في ان ألقي أمسيات شعرية من اذاعة الشرق الأدنى ومقرها في يافا سميت لاحقاً اذاعة لندن. كنا سنة 1944، وموظفو مكتب الاذاعة في بغداد من البريطانيين. حين طلبني الرجل للمشاركة قلت له: اذهب، ولكن بشرط واحد: ان اقول كل ما اريد، فنصف قصائدي تقريباً ضد بريطانيا، وهذا معروف. اذا وافقوا اذهب وإلا فلا. وأتى الجواب: نعم، وزيادة. رحت مع الوسيط الى مكتبهم في الباب الشرقي على دجلة، حيث التقينا ثلاثة بريطانيين والوسيط العراقي. هذا الوسيط بيني وبين الانكليز اصبح لاحقاً وزيراً للخارجية في العراق، وزير خارجية في ثورة تموز، في الجمهورية المزعومة زمن عبدالكريم قاسم. هذه حيرتني في الواقع. "شو... آكو أسرار"، "شو آكو تحت العباءة مغطى". رافقني في الذهاب الى مكتب الانكليز الى بيتهم، وجلس يتوسط بيني وبينهم، واتفقنا. سافرت الى فلسطين، وقدموا لي السيارة والمرافق. شاهدت كل فلسطين وليتني لم اشاهدها. دائماً اقول هذا، لو لم اشاهدها لكان اروح لنفسي. كانت جنة على الارض، تنسى فيها كل شيء حتى لبنان. أنت تعرف، لبنان كان عندي الدنيا كلها، افكر ان آخذ بيتاً فيه على البحر، حتى لو منعوني من الدخول اضرب بقدمي السور، ادخل من طريق آخر، لتكون لي شقة صغيرة على البحر. ومع هذا الشعور كله تجاه لبنان، لما رجعت من فلسطين وأوصلني السائق الى دمشق قال: "عمي، تحب تنزل لبنان؟" قلت: "لا يا ابني شو أسوي بلبنان، فأنا جايي من فلسطين؟". فلسطين الارض الذهب، كيف قدمناها؟ هذه لعنة الاجيال القادمة علينا كلنا. اقل من مليون يهودي هزموا جيوش الدول العربية السبع! هزمت؟ هي ما هزمت في الواقع. هزّموها. صدرت الاوامر من مرجع التكتل العسكري، ومعروفة الكلمة: "ماكو أوامر". فنكس الجند بنادقهم ورجعوا، وأعطيناها الى يومك هذا. وهناك ألقيت قصيدتي في يافا. شيوخ لبنانوفلسطين. الوجوه البارزة حضرت الحفلة التي اقيمت في يافا، قبل ذهابي الى الاذاعة، الكبار اخرجوا مناديلهم عندما سمعوني وبكوا. بين الحضور وجوه بارزة نسيت اسماءها. لكنني أذكر بين الوجوه الأدبية، شاعراً كان اول وأعلى من عرّب عمر الخيام، انه الأديب والشاعر اللبناني وديع البستاني. كان صاحب ديوان "الفلسطينيات" ومترجم رباعيات الخيام وانجيل بوذا وغيرهما، وكنت معجباً بترجماته وأقاموا لي حفلات في يافا وفي حيفا وفي الخليل. فلسطين اجمل من لبنان. لقد ضيعناها، تصوّر! اما مصر، فعلاقتي بها قديمة. منذ تفتحت على القراءة، أدمنت مجلاتها وكتبها. والتقيت طه حسين في دمشق اثناء مشاركتي في مهرجان المعري في الاربعينات، وبقيت العلاقة مستمرة بيننا، حتى ان صاحب "الأيام" طلب من مراسل مجلته "الكاتب المصري" في العراق، وهو من آل النحاس، ان يزوده قصائدي الجديدة، حتى وان كانت منشورة، وبالفعل، نشرت "الكاتب المصري" قصيدتي "دجلة في الخريف" و "جعفر أبو التمن" التي اصبح عنوانها في المجلة "جعفر ابو التمني"! وهذا المنبر الأدبي الذي اعاد نشر قصائدي، كان ينشر في الاعداد نفسها مقالات خاصة ارسلها جان بول سارتر وروجيه كايوا وغيرهما. وكما تعرف كتبت وألقيت قصائد عدة عن مصر، مسجلاً وقائع جهادها، وكان للوفديين نصيب كبير من هذه القصائد. والطريف ان اول زيارة قمت بها لمصر كانت هبوطاً اضطرارياً للطائرة، بسبب سوء الاحوال الجوية، وكنت في رفقة الأمير عبدالاله. ثم زرت مصر في مناسبات تالية، أولها في العام 1950 حين استقبلني في المطار طه حسين الذي كان وزيراً للمعارف، وسهّل اقامتي في مصر وأعطى منحاً دراسية لأولادي. كما حاول اقناعي بالاستقرار، لكن هاجس العراق الوطن كان كالعادة هو الغالب، يلاحق أيامي حباً وعذاباً. ولبنان، كما هو الآن، عساني لا أراه. البلد الذي عرفته كان فردوس المشرق العربي وجنته. فكيف صار كما هو الآن؟ لا اتحدث فقط عن الخرائب والركام والضحايا والتراب والغبار، بل كيف صار مركزاً للعصابات المسلحة، ولا اسميها غير عصابات. كل واحد اقتطع منطقة من لبنان وصار أميراً عليها، ولبنان كله رقعته صغيرة بالنسبة الى العالم. ولكن سبعة او ثمانية او عشرة من اللبنانيين يتقاسمونه الآن في ما بينهم. اعرف ان الأمور حساسة، وأنا أسير الحيرة والحرج عندما اتحدث عن تلك البلاد. سأقول كلمة جريئة هنا. صحيح ان هناك فئات مسحوقة في لبنان، ولكن اسمح لنفسي بالقول ان لبنان كان لبنان المسيحيين، لبنان الجنة! وليس عيباً ان يعترف الانسان بما هو. انا اتكلم للتاريخ. المسيحيون سبقونا حضارياً، وفي لبنان بالذات، في الثقافة والانفتاح على العالم، خصوصاً على باريس وغيرها، والثقافة العميقة الاصيلة كانت عندهم. الآن صارت القضية مجرد طائفية وسلاح، وجرى تدمير لبنان النعيم. ثم ما هذه المهازل الشنيعة؟ هل سمعت قبل اليوم بوزير للعدل، يداوم مع المسلحين بدلاً من ان يداوم في الوزارة؟ أجريت المقابلة في عهد حكومة الرئيس عمر كرامي - المحرر. هذا هو وزير العدل، فماذا عن الآخرين؟! لبنان العظيم ما خربه إلا هذه المذهبيات القذرة، والعصابات. انه حلم عربي مجهض. وصلنا الى هذا الحد، نخرب تلك البلاد المزدهرة، ثم نفتخر بأن عربياً يقتل أخاه في الشوارع. منع الدخول الى لبنان في الثلاثينات، كنت احضر الى لبنان كل صيف تقريباً، عبر دمشق. وفي سنة 1939 اعلنت الحرب العالمية الثانية وأنا في دمشق. ووصلت مع عائلتي لنصطاف، وعلى الرغم من اننا كنا نعيش في شبه كفاف، نزلنا في بلدة بكفيا، بلدة آل الجميل وغيرهم، واكتشفنا اننا يمكن ان نصل الى ضهور الشوير سيراً على الاقدام فكنت ازورها يومياً انا والعائلة. وشاركت في عيد الزهور الذي يقام سنوياً في بكفيا. كان في الحفلة كل اعيان لبنان، ومندوب عن سلطة الانتداب الفرنسي، فقلت قصيدة مطلعها "أرجعي ما استطعت لي من شبابي، يا سهولاً تدثرت بالهضاب"، الى ان وصلت الى المقطع الذي اعرض فيه بسلطة الانتداب: "أفيبقى "الأحرار" منا ومنكم بين سوط "الغريب والارهاب؟". ومع هذا لم يقل لي الفرنسيون: اخرج من البلاد. بقينا الى حين شئنا الرجوع. لكن في السنة التالية وصلت الى الحدود اللبنانية - السورية فإذا بركاب السيارة يمرون جميعاً إلا انا، وحقيبتي أنزلت من السيارة. مدير الحدود الذي يمثل سلطة الانتداب كان شاباً طيباً من الجزائر، طبعاً كان آمراً فرنسياً، ومن أعز الشباب، يحفظ شعري وضيفني ضيافة جميلة. حضر العشاء لنا بيديه، وأعطاني سريره. لم أبق سوى ليلة واحدة عند الحدود، كانت في حد ذاتها متعة، اذ شاهدت المنطقة والخيم المضروبة للبدو في المصنع. وسعدت بصداقة مدير الحدود. وفي الصباح جاء أمر السماح بدخولي: أهلاً وسهلاً. والامر صادر عن الانتداب الفرنسي. في لبنان هناك سعيد عقل، احبه كثيراً، على رغم ما قد يفرقنا سياسياً. والمرحوم الياس ابو شبكة كان من اعز اصدقائي. رثيته في ديواني رثاء أليما: "أخي الياس". وأمين نخلة، احبه، ولكن كل خمس سنوات كان ينظم خمسة ابيات وصاحب كتاب "لا هوادة" عمر فاخوري، شيخهم جميعاً، علاقتي به كانت جيدة، كنا نلتقي بانتظام، وكنا نريد انشاء دار للنشر مشتركة بين العراقولبنان. واستمر حضوري الى لبنان، مرة في السنة تقريباً خلال فترة الاصطياف، الى ان دعتني لجنة تأبين عبدالحميد كرامي لالقاء قصيدة في الاحتفال الذي تقيمه. كان ذلك في العام 1950، وانتشرت القصيدة التي تبدأ ب "باق وأعمار الطغاة قصار". فابلغني الامن العام اللبناني امراً بمغادرة لبنان في اليوم التالي بسبب القصيدة. كنت عند الشيخ احمد رضا في النبطية عندما تبلغت الامر، وفي اليوم التالي سافرت. كان ذلك الحكم الوطني! سلطات الانتداب الفرنسي أبقتني ليلة عند الحدود مع سورية، ثم سمحت لي بالدخول بكل حرية، وبكل ما قلت وأقول. وقرار منع دخولي الى لبنان لا يزال قائماً الى الآن، 1992. منذ ذلك العهد لم احاول ان اذهب خارج الاطر الرسمية الى لبنان، فالمنع قائم ولم ابلغ عكس ذلك. لم يمنعني آل كرامي، لكن لهم حصة في هذه القضية السيئة الصيت: واحد يقول عن الآخر امام العالم، ويجري قوله سائراً في كل بلاد المشرق: "باق وأعمار الطغاة قصار"... كلمة كبيرة. في الجزء الثاني من مذكراتي اتهمت رشيد كرامي. ثلاث برقيات أتتني للمشاركة في مهرجان تأبين عبدالحميد كرامي في بيروت، كنت مشغولاً في مؤسسة "الرأي العام"، مع ذلك لبيت طلبهم. وبعد ذلك تسلم رشيد كرامي ابنه رئاسة الوزراء والمنع قائم. ابن "وأعمار الطغاة طوال" وليس "قصار" لم يلغ قرار المنع. كتبت هذا في مذكراتي. وكيف يريدون نقش "باق وأعمار الطغاة قصار" على قبر او تمثال عبدالحميد كرامي؟ قلت لهم لو رحت الى لبنان ووجدته منقوشاً، احضر فأساً وأحطم النقش بيدي امام الناس. الى ان جاءني شخص يستأذنني: ابن اخ رشيد كرامي وليس أخاه. جاءني الى دمشق يستأذنني في نقش البيت. أتى بشكل مؤدب، كان يجب ان أكون خشناً، فاجأني وغلبني في المفاجأة، ولما سألني يستأذنني في الامر قلت له: والله... يعني، ما اجبته الجواب الذي يريده. ضيعت الكلام بدلاً من ان اشدد على المنع. لكنه يخطئ اذا قال انني قلت له نعم. زياراتي الى لبنان، بسبب قرار المنع كانت محدودة، ومحصورة في المناسبات. سنة 1961 شاركت في تكريم بشارة الخوري الأخطل الصغير الذي جرى تنظيمه برعاية الدولة اللبنانية. جاءتني ثلاث برقيات دعوة للحضور، وتأجل المهرجان حتى أتيت. كانوا اتخذوا ترتيباً خاصاً، ولو بقيت اسبوعاً اضافياً لرحلوني. وفي الستينات كنت في براغ في شبه ضائقة، فاضطررت ان استعين بطبع جزء من جزءين من ديوان لي. قصدت السفير اللبناني في براغ استأذنه بالقدوم الى لبنان، فقام الرجل بالواجب ليبلغني بعد اسبوع بأن رشيد كرامي، وكان رئيساً للوزراء آنذاك، سمح لي بالدخول لمدة شهر واحد. وفي بيروت، هناك رجل اسمه سعيد عقل ما زال حياً يرزق. انه انسان شهم وكريم، وأنا معجب به كشاعر مهما فرقتنا السياسة. سعى الى تمديد اقامتي في لبنان اسبوعين، وفي الثالث قال لي: ابا فرات لا تكلفني اكثر من ذلك، لأنني سوف أخجل امامك. حتى سعيد عقل مع كل ما كان له من مكانة ونفوذ في لبنان، وخل عنك الشاعرية الباقية أبداً، لم يستطع تمديد اقامتي بسبب المنع السابق. ثم قصدت بيروت في السبعينات لحضور "مؤتمر نصرة الشعب الفلسطيني" الشهير. ما كنت مستعداً للمجيء، وصلتني برقية عاجلة. عبدالخالق السامرائي الذي أعدم لاحقاً وهو في السجن، خلافاً لكل قوانين العالم، كان رئيس الوفد الحكومي العراقي. اتصل بي في الليل، هو وطارق عزيز، وقال: لا نسافر الى بيروت اذا لم تسافر أنت. هكذا ذهبت الى لبنان كعضو في الوفد العراقي، ومع ذلك شعرت ب "حسحسة" فما رددت عليها. أما الزيارة الاخيرة، كما تعرف، قصة سورية ولبنان، ومؤتمر بيروت للمعارضة العراقية المزعومة. وهذه آخر سفرة، وتعرف كلمتي في المؤتمر، وأنا الى الآن فخور بها وفي وجوه الجالسين قلت: "ما في معارضة تستحق هذا الاسم، والاجنبي يدنس تراب العراق ويلوث الرافدين، والدبابات والصواريخ هناك". فلسطين والأندلس ناشدتُ جندَكَ جندَ الشعب والحرسا أن لا تعودَ فلسطينٌ كأندلسا ناشدْتُكٍ الله ان تسقي الدماء غداً غرِساً لجدك في أرجائها غُرساً تَلمَّس الجدث الزاكي تجدْ لهثاً من الشَّكاة وتسمعْ للصدى نَفَسا ناشدتك الله والظلماء مطبقةٌ على فلسطين ان تُهدي لها قَبَسا نشرت في جريدة "الحضارة" - بغداد 1948 يافا الجميلة مقاطع ب "يافا" يوم حُطّ بها الركابُ وقلتُ وما أحيرُ سوى عتاب تمطر عارضٌ ودجا سحابُ ولستُ بعارفَ لمن العتابُ ولفَّ الغادة الحسناء ليلٌ أحقاً بيننا اختلفت حدودٌ مريت الخطو ليس به شهابُ وما اختلف الطريق ولا التراب وأوسعها الرداد السجَ لثماً ولا افترقت وجوهٌ عن وجوه ففيها من تحرشه اضطراب ولا الضاد الفصيح ولا الكتاب و "يافا" والغيوم تطوف فيها * * * كحالمة يجللها اكتئاب فيا داري إذا ضاقت ديارٌ وعاريةُ المحاسن مغريات ويا صحبي إذا قل الصحاب بكف الغيم خيط لها ثياب ويا متسابقين الى احتضاني كأن الجو بين الشمس تزهى شفيعي عندهم أدبٌ لُبابُ وبين الشمس غطّاها نقابُ ويا غُرَّ السجايا لم يمنُّوا فؤادٌ عامر الايمان هاجت بما لطفوا عليّ ولم يُحابوا وساوسه فخامره ارتياب ثقوا أنا توجدنا همومٌ وقفت موزع النظرات فيها مشاركة ويجمعُنا مُصابُ لطرفي في مغانيها انسيابُ تَشِعُّ كريمةً في كل طرف وموج البحر يغسل أخمصيها عراقي طيوفُكُمُ العِذابُ وبِالأنواء تغتسل القِبابُ وسائلة دماً في كل قلب و "بيْاراتُها" ضَربتْ نطاقاً عراقي جروحُكُمُ الرِغابُ يخطِّطها كما رسمَ الكتابُ يُزكينا من الماضي تراثٌ فقلتُ وقد أخذت بسحر "يافا وفي مستقبل جَذِلٍ نِصابُ وأتراب ليافا تستطابُ قوافيَّ التي ذِوبتُ قامت "فلسطين" ونعم الام، هذي بعذري. إنها قلبٌ مُذابُ بناتك كلّها خوْدُ كَعابُ وما ضاق القريض به ستمحو * * * عوائره صدوركم الرّحابُ ولمّا طبَّقَ الأرَجُ الثنايا لئنْ حُمَّ الوداع فضقت ذرعاً وفتح من جنان الخُلدِ بابُ به، واشتفَّ مهجتي الذهابُ ولاحَ "اللَدُّ" منبسطاً عليه فمِنْ أهلي الى أهلي رجوع من الزَهرات يانعة خِضابُ وعن وطني الى وطني إياب نظرْتُ بمقلة غطَى عليها من الدمع الضليل بها حِجابُ ألقاها الشاعر في يافا أوائل الأربعينات ونشرت في جريدة "الرأي العام" العراقية سنة 1945. عبدالحميد كرامي مقاطع باقٍ - وأعمارُ الطغاة قصارُ - ولو ارتضيت الحكم أعرج أهوأتٌ من سفر مجدك عاطر موارُ لمشتْ اليك عجولة أوطار متجاوب الأصداء نفح عبيره جئت الوزارة ليلة ونهارها لطفٌ. ونفح شذاته إعصار فرأيت كيف تراكم الأوزار رفّ الضمير عليه فهو منور ورأيتَ كيف الحكم يشمخ كاذباً طُهراً كما يتفتحُ النوّار في حين يملأ دفتيه العار وذكار به وهجُ الاباء فرده ولمست كرسياً يرجُّ كأنه وقدا يشب كما تشبُ النار نعش يدق بجنبه مسمار العمر عمرُ الخالدين يمُّه فنفضت كفك من حطام عنده فلك بطيب نثاهم دوار 1 يخزى البنون وتخجل الأسفار يتمخصُ التاريخ في أعقابهم وخرجت موفور الكرامة عالقاً حمداً، وتعصف ليلةٌ ونهار من فوق مفرقك الأغر الغار أما النفوس الزاخرات عروقها * * * بالمغريات فنشوة وخمار لبنان نجوى مُرّةٌ وسرار * * * إنا بحكم بلائنا سُمّارُ عبد الحميد وكل مجد كاذبٌ ماذا يرادُ بنا؟ وأين يسار؟ إن لم يصن للشعب فيه ذمار والليل داج، والطريق عثارُ والمجد ان تهدي حياتك كلها الوحش يربض في الثنايا منذراً للناس لا برم ولا إقتار والموت جار بها زآر والمجد ان يحميك مجدك وحده أعقاب لبنانٍ تدنّس وكره في الناس... لا شرط ولا أنصار للأجنبي قواعد ومطار؟ والمجدُ إشعاع الضمير لضوئه أو بحرهُ نبعُ الفخار يشقه تهفو القلوب، وتشخص الأبصار في كل يوم منهم بحّار؟ والمجد جبارٌ على أعتابه أو فخر مُنهاض الجناح بأنه تهوي الرؤوس... ويسقط الجبار بجناح اقتم كاسرٍ طيّار؟ * * * اليوم ينزلُ عشه ويدوسه جانبت مزلقة الطغاة وإنها لا الريش ينجده ولا المنقار بالورد تفرش والنضار تنار ... وسلكت نهج المخلصين وإنه أسلٌ يخضب من دمٍ وشفار لو كنت تستام الحياة رخيصة وأفاك منها مغنم وتجار ألقاها الشاعر في تأبين عبدالحميد كرامي في بيروت عام 1950، وتسببت في منعه رسمياً من دخول الأراضي اللبنانية.