عرفت عبدالوهاب البياتي منذ أكثر من أربعين عاماً معرفة تكاد تكون متصلة. التقينا للمرة الأولى في القاهرة في شتاء 1957، كنت في الثانية والعشرين، وكان هو في الحادية والثلاثين. والتقينا آخر مرة في القاهرة أيضاً في شتاء العام الماضي، حين شاركنا مع آخرين في الندوة التي أقيمت في معرض القاهرة الدولي للكتاب بمناسبة مرور خمسين عاماً على ظهور حركة الشعر الحر. ومنذ أقل من شهرين كنت أزور باريس بدعوة من معهد العالم العربي الذي اقترح عليّ الإشراف على تنظيم مهرجان الشعر العربي، يقام في آذار مارس من العام المقبل، فاقترحت على المعهد تشكيل لجنة تضمني مع من يمكنهم أن يسهموا في مثل هذا المشروع كعبدالوهاب البياتي، ومحمود درويش، وأندريه ميكيل، وجمال الدين بن الشيخ. وقد قمت بالاتصال بهؤلاء جميعاً عن طريق المعهد، حيث يقيمون، فكانت آخر مرة أسمع فيها صوت عبدالوهاب قادماً من دمشق. كان مفعماً كعادته بالحيوية، ولم يفته أن يعلق على ندوة المعرض وما أعقبها من مناقشات ومشاجرات. وبين التاريخ الأول والتاريخ الأخير التقيت بالبياتي، ورافقته في السفر والإقامة، في الفنادق والمنابر، والمقاهي والمطارات والصحف والمجلات. في إقامته الأولى في القاهرة التي امتدت بضعة شهور كان يتردد علينا في دار "روزاليوسف" حيث يجد حسن فؤاد، وصلاح عبد الصبور، وصلاح جاهين، وأحمد بهاء الدين، ويجدني، ويجد غيري من اصدقائه وقرائه. أو كنا نلتقي في المقهى أو في المطعم أو في الفندق مع اساتذة وزملاء من أمثال إحسان عبدالقدوس، وكامل الشناوي ولويس عوض ونجيب محفوظ. بعد قيام ثورة تموز يوليو في العراق انقطعت علاقتنا حتى غادر موسكو الى القاهرة حوالي سنة 1964، فعادت سيرتها الأولى. لقاء يومي في مقهى من مقاهي وسط المدينة، ريش غالباً، او لاباس، وسهرة مرة أو مرتين في الاسبوع، تمتد حتى الفجر. هذه الاقامة الثانية في القاهرة - وقد امتدت سبعة أعوام - انشأت بين البياتي وبين المصريين علاقة خاصة، فهو ليس ضيفاً وليس مواطناً كبقية المواطنين. إنه ضيف مستوطن، أو مواطن فخري مثله مثل خليل مطران أو عبدالرحمن الكواكبي، أو جورجي زيدان. في السبعينات تركت أنا مصر الى باريس، وعاد هو الى العراق ليقضي سنوات، ثم يذهب الى مدريد مستشاراً ثقافياً، وبين أواسط السبعينات الى أواخر الثمانينات سنلتقي في باريس، ومدريد، ولوند في السويد، ودلفي في اليونان، وسنواصل في هذه المدن حياتنا كما تعودنا أن نعيشها في القاهرة، وبيروت، ودمشق. أما في السنوات الأخيرة فسوف نلتقي في جدة، ودبي، ومسقط، وبيروت، والقاهرة. ولن نلتقي بعد ذلك في أية عاصمة أخرى من عواصم هذا العالم، فقد رحل البياتي، ولن يعود هذه المرة أبداً!. هذا الرحيل الأخير لم يكن بالنسبة لي مفاجأة كاملة. لم تكن سنه عالية جداً، ولم يكن يشكو من مرض عضال. وكان باستطاعته أن يواصل الحياة سنوات أخرى، لكنه كان لا يزال متشبثاً ببرنامجه اليومي الذي ظل وفياً له منذ كان في الثلاثين من عمره أو قبل أن يبلغها، فهو يحتل مكانه المعلوم في مقهاه المعتاد، وكان له في كل عاصمة مقهى لا يغيره، يدخن، ويطالع الصحف بعناية، ويلتقي بأصدقائه، ويتأمل، ويراقب ما حوله، ثم ينهض ليستريح استعداداً للسهرة التي تمتد الى وقت متأخر، سواء قضاها وحده أو قضاها مع سواه. خمسون عاماً عاشها وفياً لهذا البرنامج اليومي الذي كان حافلاً بأعياد وأسفار، ومهرجانات ومعارك كانت كلها ثمرة لأسلوب البياتي في الحياة، كما كانت تبريراً له، فالبياتي يكتب ويتحدث ويهاجم خصومه ويدافع عن نفسه، ثم يؤوي الى فراشه ويصحو ليحصد ما زرعه بالأمس، صداقات، وعداوات، ومكاسب، وخسائر تغذي برنامجه اليومي الدوار كأنه الطاحونة دون كلل أو ملل، ودون مراجعة أو تعديل يخفف عن الجسد الذي أنهكته مواظبة صاحبه على القيام بهذه الأعباء. ولقد كان جسد البياتي وفياً له كريماً معه الى اللحظة الأخيرة، فلم يمرض، ولم يتمارض، ولم يسبب لصاحبه ألماً، ولم يفرض عليه الاقلاع عن عاداته أو حتى التخفيف منها. كل ما فعله أن غافله وهو نائم ولفظ النفس الأخير، كأنه كان يخشى أن يستأذنه في الرحيل أو التقاعد فلا يأذن له، لهذا انتهز فرصة استغراقه في النوم وهرب! والجانب الغامض بالنسبة لي في هذه الحياة هو ما يتصل بعلاقة عبدالوهاب بأسرته، أقصد زوجته وأولاده. وأغلب الظن أنه كان من الدهاء بحيث استطاع أن يوقع معهم عقداً لم يخل أحد الطرفين ببند من بنوده. أن يمنحهم اسمه وذيوع صيته واعجاب الناس به، وعليهم في مقابل هذا أن يتركوه وشأنه يحيا كما يحلو له، في القاهرة أو موسكو، في بغداد أو مدريد، ليت هذا العقد كان سارياً على كل الشعراء العرب! وأراني استطردت في هذا المدخل الذي كنت مقدراً أن أختصره في أقل حيز ممكن، لأتمكن من الحديث عن شعر البياتي بشيء من التوسع. لكني عقدت مع البياتي صداقة - بين قوسين - امتدت أكثر من أربعة عقود خاض فيها أهم ما خاض في حياته من تجارب، وحقق ما حقق من انتصارات، وعرف ما عرف من مسرات وأحزان، فكيف أقفز فوق هذا التاريخ كأني لم أعرفه لأتحدث عن الشعر الذي يستطيع أن يتحدث عنه شعراء ونقاد آخرون لم يعرفوا البياتي كما عرفته، وربما استطاعوا ذلك خيراً مني وأكثر تجرداً وموضوعية؟ وأنا متأكد من أن هذا المدخل ضروري، على الأقل بالنسبة لي، لفهم شعر البياتي، والاحاطة بمصادره وتطوراته سواء كانت سلباً أو ايجاباً. والمسألة معقدة من كل جوانبها، فقد عرفت البياتي الرجل كما عرفت البياتي الشاعر، وأنا لا استطيع حتى لو أردت أن اتخلص من هذه المعرفة أو اتجاهلها. وقد امتدت هذه المعرفة عشرات من السنين لم يكن البياتي خلالها رجلاً واحداً أو شاعراً مفرداً، وإنما كان البياتي الشاب مختلفاً عن البياتي العجوز. ولم يكن شاعر الخمسينات هو هو شاعر السبعينات والثمانينات. وأنا لست ناقداً، أنا شاعر أنظر في عمل الشعراء الآخرين إن نظرت إليها بداية، من عملي، وأتخذ مما أتمنى كتابته معياراً أزن على أساسه ما أقرأ. وأنا رجل لي ما لكل رجل من نقاط الضعف والقوة، والمزايا والعيوب. فكيف أكون موضوعياً مع البياتي أو مع شعره، أنا الذي أعلم علم اليقين أن البياتي لم يكن موضوعياً مع أحد، ولا حتى مع نفسه، مثله مثل البشر جميعاً، والشعر بالذات؟ ومن الذي كانت تتاح له هذه الموضوعية، ممن عاشوا في سنوات الجمر التي عاش فيها البياتي، فاكتوى بها، ونضج في حرها، وانصهر، واحترق؟ لم يكن البياتي أول رواد حركة التجديد الشعرية. فقد سبقه مصريون منهم أحمد زكي ابو شادي، وخليل شيبوب، وعلي أحمد باكثير، ولويس عوض، وعبدالرحمن الشرقاوي، كما سبقه عراقيون في مقدمهم نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب. غير أن الرواد المصريين لم يكونوا متفرغين كلهم للشعر، وربما كانت الكتابة بالنسبة لمعظمهم أهم من النظم، أما نازك التي ولدت في اوائل العشرينات وظهرت في الاربعينات، فقد اعتبرت شاعرة رومانتيكية رغم تجاربها الطليعية، أو اعتبرت مخضرمة، فلها قدم في الشعر الرومانتيكي وقدم في الشعر الحر. وربما كان السياب أولى بالريادة الأولى، تؤهله لذلك موهبته الكبيرة وتجاربه المبكرة ونضجه المطرد، غير أن تجارب السياب الأولى كانت عادية، وكان انسحابه من صفوف الشيوعيين العراقيين في اوائل الخمسينات بداية لحملة عنيفة شنوها ضده وحصار مميت أحكموه من حوله، في الوقت الذي توجوا مكانه شاعرا آخر تقدم بسرعة ليملأ المكان الشاغر بشعره وذكائه العملي، هو عبدالوهاب البياتي. لقد ظهر البياتي إذن في تلك الخمسينات العجيبة التي تعج- كما يقول هو- بالموهوبين الحقيقيين والأدعياء، والأبطال المنسيين، والضحايا، ومزيفي التاريخ، والمتهرئين. فمن الصعب ان تخضع البياتي لتفسير موضوعي، وكل شيء يدل على أننا أمام ظاهرة أسطورية، وان كانت هذه الظاهرة التي بدأت في الخمسينات بداية أسطورية، دخلت بعد ذلك في تحولات متعاقبة. الخمسينات هي مجد البياتي ونسبه العريق، فقد كانت لغته فيها متوافقة مع حركته، وتنبوءاته صادقة مع أيامه، وكان له خصم خرافي واحد يتراجع على طول الخط، وكل شيء بعد ذلك يمحضه الود ويحيطه بالاعجاب والتمجيد. وفي اعتقادي أن البياتي كتب أفضل قصائده في الخمسينات، قصائد بسيطة نعم، لكنها نتاج لهذا المناخ البطولي الملهم المنسجم. فاذا كانت قصائده بعد ذلك تبدو أنضج وأغنى بالاشارات والرموز فهي لا تخلو - جانب منها على الأقل - من تلفيق واضح. عندما كنا نلتقي، خصوصاً في السهرة المتأخرة، كان لا بد أن أتذكر قصيدة بديعة له أحفظها عن ظهر قلب، منذ سمعتها منه قبل ثلاثين عاماً أو تزيد، عنوانها "الوحدة" لا الوحدة العربية كما يمكن أن يتبادر للخاطر، ولكن الانفراد: كقطرة المطر كنت وحيداً آه يا حبيبتي، كقطرة المطر لا تحزني سأشتري غداً لك القمر ونجمة الضحى وبستاناً من الزهر غداً اذا عدت من السفر غداً اذا أورق في ضلوعي الحجر لكنني، اليوم، وحيد آه يا حبيبتي كقطرة المطر إنها تقوم على تشبيه، تشبيه ملهم لا مجانية فيه ولا افتعال. تشبيه غني، فالشبه موجود في كل وجه من وجوه الصورة. البساطة، بساطة - الماء وبساطة الكائن الانساني. والعلاقة بين الماء والانسان علاقة بديهية "وجعلنا من الماء كل شيء حي". والانسان في وحدته وإنفراده قطرة ماء تسقط في لا نهاية الأفق. وهناك من بعد هذا المزاج الكئيب السوداوي Melancolique الذي يوحي به سقوط المطر، وهذا الايحاء بالضياع في المنافي الضبابية البعيدة. كل هذا في تشبيه، في كلمة واحدة لم يقحم البياتي هنا وهو يحلم بيوم عودته من السفر - لم يقحم اسم عوليس أو بنلوب، ولم يهج الناس، ولم يتنبأ بخراب العالم كما أصبح يصنع في المراحل التالية. نعم، في هذه القصيدة، وفي أمثالها يكتمل فن البياتي في نظري. لكن اكتمال الفن مرتبط أشد الارتباط بالظروف التي أنتجته والتي ستتغير في الستينات والسبعينات فتصبح غير مواتية للشاعر الذي سيغير لغته ليصبح هجاء لزمن الهزيمة بدل أن كان مداحاً مغنياً لانتصارات وهمية أو ناقصة على الأقل. هل هذا الشعور بأنه كان ضحية خديعة كبرى هو الذي زين للبياتي ان يخدعنا ويخدع نفسه بتلك القصائد التي لا تخلو من تلفيق؟ أريد أن أقول إن البياتي ليس مجرد شاعر، وإنما هو وجه من وجوه الأسطورة، ضحية من ضحاياها، وشريك في صنعها. والدور الذي لعبه، والحقيقة أن بدايات هذا التلفيق قديمة. فقد وجد البياتي منذ أوائل الخمسينات من يشبهه بناظم حكمت، ومايا كوفسكي، ومن يخصه بكتاب يجعله رائداً للشعر الحديث مساويا لايليوت وأودن. وإذن فقد أصبح على البياتي أن يكون عند حُسن ظن هؤلاء النقاد، ولو بشيء من التلفيق الذي يبهر معظم القراء، ولا يستطيع إلا القليلون اكتشافه، لا لأنه بعيد الغور شديد الخفاء، بل لأن اكتشافه يحتاج الى شيء من سوء الظن يترفع عنه الكثيرون. في مجموعته "المجد للأطفال والزيتون" فقصيدة سماها "اغنية إلى يافا" مؤلفة من حوالي عشرة أبيات، ومع ذلك فقد أتخمها بالاشارات الأسطورية والثقافية. تضمينات من الشعر العربي القديم، ورموز مسيحية، واساطير يونانية، وعبارات من الماركسية، والوجودية، كل هذا محشور فيما لا يزيد على أثني عشر سطراً: يافا يسوعك في القيود عار تمزقه الخناجر عبر صلبان الحدود وعلى قبابك غيمة تبكي، وخفاش يطير يا وردة حمراء، يا مطر الربيع قالوا "تمتع من شميم عرار نجد" يا رفيق فبكيت من عاري "فما بعد العشية من عرار" فالباب أوصده يهوذا، والطريق خال، وموتاك الصغار بلا قبور، يأكلون أكبادهم، وعلى رصيفك يهجعون. أما في الستينات والسبعينات فسوف يكتب البياتي قصائد طويلة يسميها باسماء الملاج، والمعري، والخيام، وابن عربي، دون أن يبذل جهداً كافياً في استلهام سير هذه الشخصيات، أو في الكشف عن بواطنها، أو تجسيد أفكارها وتفسير مصائرها وإحياء دورها في حياتنا المعاصرة. لكننا مع هذا نقع في شعر هذه السنوات على قصائد حقيقية أو مقاطع وشذرات تذكرنا بالنغمات الرائعة التي أحببناها في شعر البياتي وأصبحنا نفتقدها في مجموعاته التي كانت تصدر بقدر من الإفراط. ولقد ظل البياتي حاضراً في الوقت الذي كانت فيه أحلامه السياسية تتساقط وتتراجع. وربما جنح في سلوكه العملي وحياته الشخصية الى شيء كثير من الاعتدال كان يتناقض جداً مع النبرة السياسية المتشددة التي ظلت تتردد في أشعاره، وإن فقدت قدرتها على الاقناع، وآلت الى تقليد خطابي. غير أن هذا لم ينل من حضور البياتي الذي ظل قادراً على ان يذكر الناس بأنقى ما في تاريخه. لم يكن البياتي مجرد شاعر، وإنما كان وجهاً من وجوه الأسطورة، شريكاً في صنعها، وضحية من ضحاياها. لم يكن الدور الذي لعبه البياتي في حياتنا محصوراً في الشعر كما هي الحال بالنسبة لنازك الملائكة أو السياب، أو صلاح عبد الصبور، وإنما كان دوراً ثقافياً بالمعنى الاجتماعي للعبارة. كان البياتي ضرورة عاطفية نخلقها خلقاً إذا لم تكن بنفسها موجودة، ولا شك ان حياتنا من دونه ناقصة!. * شاعر مصري.