سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قراءة وليد الخالدي في مذكرات رشيد الحاج ابراهيم "الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين" . بدايات الحاج أمين و القسام ... وتصاعد الصراع والمطالبة برحيل الانتداب 1 من 5
تستعد مؤسسة الدراسات الفلسطينية لإصدار كتاب الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين - مذكرات رشيد الحاج ابراهيم 1891 - 1953، وتنشر الحياة في حلقات التقديم الذي كتبه وليد الخالدي لهذه المذكرات قارئاً فيها ومقارناً بينها وبين مذكرات آخرين عايشوا رشيد الحاج ابراهيم وكانوا رفاقه في بدايات النضال من أجل فلسطين. في ربيع سنة 2004، وخلال زيارة لها لمنزلنا في كمبريدج ماساتشوستس في الولاياتالمتحدة، ذكرت صديقة العائلة السيدة سهى شومان، زوجة المرحوم السيد خالد عبدالحميد شومان، خلال تبادلنا الحديث أنها ما زالت تحتفظ بمذكرات جدها لوالدتها الذي توفي سنة 1953، وأنه لم يستقر رأيها بعد على نشرها أو عدمه. وبما أني لم أكن أعلم من هو جدها سألتها عنه، وإذ بها تفاجئني بأنه السيد رشيد الحاج إبراهيم. فذهلت وسعدت لمعرفتي بنضاله ووطنيته وزعامته في فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني، ورجوتها أن تسمح لي بالاطلاع على المذكرات واعداً إعطاءها رأيي بكل صراحة في صلاحية المذكرات للنشر، فوعدت أن ترسل نسخة عنها فور عودتها إلى عمّان وأوفت، إذ لم تمض بضعة أيام على سفرها حتى وصلتني المخطوطة بالبريد العاجل. كانت المخطوطة مطبوعة على الآلة الكاتبة، وتقع في 225 صفحة من الحجم الطويل فولسكاب. وكان عدد أسطر الصفحة الواحدة نحو 25 سطراً. ولاحظت أن ثمة من راجع المخطوطة وأدخل بعض التصحيحات القليلة بخط اليد، بأحرف دقيقة تشبه إمضاء المؤلف الذي كنت اطلعت عليه في وثيقة لديّ، فرجحت أن المراجع هو المؤلف ذاته. وعلى الرغم من أن المخطوطة وصلتني في أصعب ظرف مر عليّ خلال نصف قرن ونيف، فقد انكببت على قراءتها بنهم واهتمام متزايدين، ولم أستطع وضعها جانباً حتى أكملت قراءتها. وقد اكتشفت فيها إضافة لا تثمن إلى الأدب الفلسطيني السياسي، فسارعت إلى الكتابة إلى الأخت سهى موصياً من دون أي تردد، أو تحفظ، بنشر المذكرات كما هي، وعارضاً أن أضع تقديماً لها فوافقت على الأمرين مشكورة. وهكذا كان. وما يميز هذه المذكرات أنها من تأليف شاهد عيان من أبرز زعماء فلسطين. فهو الوحيد مثلاً من غير أعضاء اللجنة العربية العليا الذي نفته السلطات البريطانية إلى جزيرة سيشل في المحيط الهندي سنة 1937 مع من نفت إليها من أعضاء اللجنة ذاتها، وكان زعيم حيفا خلال فترة الانتداب، وقائد مقاومتها سنة 1948، ومن أكثر العاملين في الحقل الوطني معرفة واحتكاكاً وتعاملاً ندّياً مع الحاج أمين الحسيني. ولا أعرف الكثير من النصوص الفلسطينية السياسية الأولية من باب المذكرات عن فترة الانتداب الذي يماثل هذه المذكرات أهمية سوى مذكرات محمد عزة دروزة، وأكرم زعيتر، وعوني عبدالهادي، وعجاج نويهض. خرج صاحبنا من حيفا في 8 نيسان أبريل 1948 في مهمة عاجلة للقاء الحاج أمين الحسيني في القاهرة، والرئيس شكري القوتلي وأعضاء اللجنة العسكرية في دمشق، بنيّة العودة إليها بعد إتمام مهمته. لكنها سقطت في غيابه، ولجأ إلى عمّان حيث عكف على كتابة مذكراته التي كان لا يزال يسجلها سنة 1952 كما يستدل من إشارة فيها إلى صحيفة بهذا التاريخ قبيل وفاته في السنة التالية، رحمة الله عليه. عندما برح رشيد حيفا لم يأخذ معه سوى ما لزم من ثياب وأغراض وترك وراءه مذكرات كان يدونها مع وثائقه وأوراقه التي ضاعت جميعها مع ضياع منزله وسائر أملاكه. وعندما شرع في كتابة مذكراته ثانية، نزولاً عند إلحاح إخوانه وزملائه، كان اعتماده بالدرجة الأولى على ذاكرته وعلى"قصاصات من الورق بقيت في محفظتي". كما استعان بمفكرة للحوادث اليومية دوّنها محمود المنوّر مدير مكتب اللجنة القومية في حيفا التي كان صاحبنا رئيسها، وكان المنوّر غادر حيفا قبل رشيد للمعالجة بعد إصابته إصابة بالغة خلال هجوم يهودي. يقر صاحبنا بأنه لم يقصد أن يكتب تاريخ القضية بكاملها، أو سيرته هو، أو حتى تاريخ حيفا فحسب، بل أن يسجل للأجيال المقبلة الأحداث في حيفا من تاريخ قرار الأممالمتحدة بالتقسيم في تشرين الثاني نوفمبر 1947 حتى سقوطها في نيسان ابريل 1948 وأسبابه. كما قصد أن يشير بصراحة، ومن دون أي مداورة، وبدافع ضميري يحفزه هول ما جرى، إلى دور الزعامة الفلسطينية التي عرفها عن كثب والممثلة بشخص الحاج أمين الحسيني، ونهجها السياسي خلال عقود الانتداب، ومسؤوليتها عما آلت إليه الأمور سنة 1948، مع قناعته بأن القضية ليست"حديثة العهد، أو وليدة أوضاع دولية طارئة، وأنها قضية قديمة قدم القرآن والتوراة". قسّم رشيد مذكراته ثلاثة أبواب، فجعل الأول يتناول بالتسلسل الزمني أحداث حيفا خلال الأشهر الخمسة التي سبقت سقوطها ودوره في قيادة المقاومة فيها، وجعل الثاني مزيجاً من لمحات أو مقاطع عن تطور القضية ونشاطه السياسي تعود إلى الماضي البعيد عند بداية الانتداب حيناً، وإلى الماضي الأقرب حيناً آخر، وصولاً إلى نهاية سنة 1947، من دون أن يربط شذراتها رابط التسلسل الزمني. أمّا الباب الثالث والأخير، فيتناول الحرب النظامية بين إسرائيل والجيوش العربية من 15 أيار مايو حتى اتفاقات الهدنة سنة 1949، من دون التطرق إلى أي نشاط سياسي للمؤلف إلاّ في مقطع قصير واحد فحسب. ولمّا رأيت الشذرات التي تتعلق بسيرة صاحبنا مبعثرة بهذا الشكل شعرت بواجب جمعها بعضها إلى بعض بالتسلسل الزمني، وإضافة مواد من مظان خارج هذه المذكرات تملأ ما بينها من فراغ ووضعها في سياقها التاريخي العام ما أمكن، وذلك تعبيراً عن بالغ تقدير وإعجاب بزعيم فلسطيني مجاهد فذ، وتكريماً لذكراه، ولتكون تقديماً لعمله الثمين هذا، رحمة الله عليه. من عوائل حيفا القديمة ولد رشيد الحاج إبراهيم أبو العبد في حيفا سنة 1891 يوم كان مسقط رأسه لا يزال بلدة صغيرة لا يتعدى سكانها بضعة آلاف، يتساوى المسلمون منهم مع المسيحيين، إلى جانب أقلية يهودية ضئيلة، وتنتشر منازلها على الشاطئ مسافة قصيرة. وكان يحيط بحيفا وقتئذ سور بني أصلاً لحمايتها من القراصنة، وكانت حياة أهلها تقوم في الغالب على صيد الأسماك والزراعة وبعض التجارة. ولم تكن الدولة العثمانية بعد قد ربطت حيفا بشبكة سكة حديد الحجاز، الممتدة من اسطنبول إلى المدينةالمنورة عبر دمشق، ولم يكن مرفؤها المتواضع ليؤذن، ولو من بعيد، بمستقبل حيفا الزاهي كسيدة مرافئ شرق المتوسط في النصف الأول من القرن العشرين. كانت عائلة الحاج إبراهيم من عوائل حيفا القديمة، مثل عائلة خمرا وطه وميقاتي ومحمدي والشيخ حسن، جل أفرادها من الملاّك، وبعضهم يتعاطى تجارة الحبوب مع الداخل ومع حوران. وعلى الرغم من أنهم لم يحتلوا على العموم وظائف دينية، كعائلات مراد والخطيب والإمام، فإنهم كانوا سدنة مزار النبي الياس القريب من البلدة، تشاركهم في ذلك عائلة الشيخ حسن، وهو المزار الذي كان يؤمه حجاج من الديانات التوحيدية الثلاث. كان أول عمل مارسه رشيد، على حسب ما نعلم، هو كموظف في سكة الحديد في زمن الدولة العثمانية بعد افتتاح الفرع الغربي للخط الحديدي الحجازي في حيفا سنة 1905، وهو الخط الذي وصل حيفا بدرعا في سورية عبر بيسان وسمخ. غير أن رشيداً انتقل إلى العمل التجاري مع أخيه بُعيد الاحتلال البريطاني سنة 1917. وباشر صاحبنا نشاطه السياسي والقومي بُعيد الاحتلال أيضاً. إذ نجده سنة 1918 بين أعضاء تنظيم اتخذ لنفسه اسم"الحزب العربي"في حيفا، إلى جانب نجيب نصار وأمين عبدالهادي وغيرهما، ثم نراه للتو ممثلاً لحيفا إلى جانب إسكندر منسّى في المؤتمر العربي الفلسطيني الأول المنعقد في القدس بتاريخ 3 - 5 شباط فبراير 1919 برئاسة عارف باشا الدجاني، وهو المؤتمر الذي حضره"مندوبو جميع بلدان سورية الجنوبية"، وقرروا فيه"الخوض في أي بحث"رفع احتجاجهم الشديد إلى مؤتمر السلم المنعقد آنذاك في باريس على جعل بلادهم وطناً قومياً لليهود ومنحهم حق الهجرة إليه. وحتى قبيل هذا نجد اسم رشيد بين الذين وقّعوا في 20 كانون الثاني يناير 1919 مذكرة احتجاج إلى مؤتمر السلم ذاته على سماح السلطات البريطانية لليهود باستثمار الأراضي الفلسطينية"المدورة"، التابعة سابقاً للسلطة العثمانية. ويروي محمد عزة دروزة أن رشيداً كان يبدو، حين التقاه خلال مؤتمر القدس سنة 1919،"كثير الحركة والنشاط وحدوياً وطنياً عروبياً إسلامياً استقلالياً طموحاً". وينتقل رشيد من فلسطين إلى دمشق لحضور الدورة الأولى للمؤتمر السوري العام المنعقد في حزيران يونيو 1919 برئاسة الأمير فيصل بن الحسين، منتدباً من الجمعية الإسلامية في حيفا التي كانت، مع رديفتها الجمعية المسيحية في المدينة، قد حلت محل الحزب العربي الآنف الذكر. ويمثل حيفا، إضافة إلى رشيد، في هذا المؤتمر معين الماضي وإبراهيم الخليل وقسطه المدوّر وغيرهم. ويطالب المؤتمر بالاستقلال التام لسورية الطبيعية، وينتخب فيصلاً ملكاً عليها، ويرفض وعد بلفور. يلتقي صاحبنا في دمشق خلال المؤتمر، بين من يلتقي، شاباً مقدسياً، عائداً بعد نهاية الحرب من الخدمة العسكرية كضابط صغير في الجيش العثماني هو الحاج أمين الحسيني، فيرى فيه"شاباً يتدفق غيرة ونشاطاً نحيل الجسم ضعيف البنية". ويكون أمين الحسيني قد اكتسب لقب الحاج لمّا حج برفقة والده وهو لم يزل يافعاً. وهكذا تبدأ علاقة بين الرجلين تدوم طوال حياة صاحبنا، وتتميز صعوداً وهبوطاً بتعاقب مراحل من دفء الصداقة وبرودة الجفاء، ومن الإعجاب حيناً والاستهجان حيناً آخر. وتنعكس هذه في ميدان العمل الوطني في فترات متقابلة من التعاون والتباعد والتضامن والتشاد، لكنها لا تصل في يوم من الأيام إلى حد العداء السافر، وتبقى دوماً حصيلة الاختلاف في الشأن العام، ونتيجة رؤية كليهما لمصلحة البلاد، من دون الانحدار إلى سوى ذلك من الاعتبارات. ولا أغالي إن قلت إن العلاقة بين صاحبنا والحاج أمين تشكل محوراً أساسياً لهذه المذكرات، إن لم تكن محورها الرئيسي، لما كان للطرفين من مكانة في تاريخ فلسطين الانتدابي، ولخطورة دور كل منهما بالنسبة إلى حيفا سنة 1948، وللعلاقة الندّية بينهما، إضافة إلى تصميم رشيد على تدوين ما يمليه ضميره عليه بلا مواربة تحت وطأة ما حل للتو بالبلاد، وتسجيلاً للحقيقة كما عرفها. ولا يلبث رشيد أن يعود إلى القدس ثانية في 15 أيار مايو 1920 لحضور المؤتمر العربي الفلسطيني الثاني، لكن السلطات البريطانية تمنع عقده، ويتمكن بعض المندوبين من الإبراق إلى المؤتمر السوري في دمشق مؤيدين مطلبي الاستقلال والوحدة السورية، ورافضين الوطن القومي اليهودي والهجرة الصهيونية، ومطالبين بإرسال وفد فلسطيني من دمشق إلى مؤتمر السلم في باريس لمعارضة الإنكليز إيفاد وفد من فلسطين ذاتها. ويكون رشيد أحد موقعي هذه البرقية السبعة، إلى جانب محمد إسحق درويش، وفخر الدين النشاشيبي، وغيرهما. في هذه الأثناء يمر الملك فيصل بحيفا أوائل سنة 1920 في طريقه إلى باريس، ويزور الحاج أمين الحسيني صاحبنا طالباً مساعدته للقاء فيصل، ذلك بأن السلطات البريطانية حصرت الأمر بأعضاء الجمعية الإسلامية في حيفا. فما كان من رشيد إلاّ أن اصطحب أميناً معه وناوله بطاقته الخاصة وأدخله على الملك، فترسخت الصداقة بين الاثنين بذلك، وتوطدت دعائمها. ومن طريف لقاءات رشيد بالملك فيصل ما يرويه عن ذلك صديق رشيد الاستقلالي عجاج نويهض، ذلك بأن زار رشيد يوماً عجاجاً في القدس حيث التقى أيضاً الاستقلالي اللبناني رشيد طليع، المقيم بها حينئذ. وكان طليع على علاقة وثيقة بالملك فيصل تعود إلى انتسابهما إلى حزب الفتاة أيام العثمانيين. وصدف أن رست، في هذه الأثناء، في مرفأ يافا باخرة تقل الملك فيصل في إحدى رحلاته إلى أوروبا، وعزم طليع أن يلقى الملك في الباخرة، وطلب رشيد وعجاج أن يصطحباه. سافر الثلاثة إلى يافا، وأرسل طليع بطاقته إلى الملك، فأذن لهم في الصعود إلى الباخرة، ووجدوا الملك في صالونه الخاص يتحادث في زاوية مع أمير الشعراء أحمد شوقي.ويتابع نويهض روايته فيقول:"لاحظ شوقي من رقة إحساسه أن هذا الرجل - أي رشيد طليع - عميق الصلة بالملك فيصل ولمّا علم أنه آت من القدس لمقابلته وجه كلاماً رقيقاً جداً إلى الملك واستأذنه في الانتقال إلى مكان آخر... ولمّا لاحظت أنا ورشيد الحاج إبراهيم أن رشيد طليع صار يتحدث عن أشياء بصوت فيه شيء من الانخفاض، استأذنّا الملك في أن يسمح لنا بالانتقال كما فعل شوقي قبل قليل. خرجنا إلى جانب الباخرة حيث الدرابزون يمكن الوقوف عنده ومشاهدة المدينة يافا... وجلسنا حول شوقي من يمينه ويساره... وكان شوقي يذكر زيارتي له في القاهرة قبل شهر. أمّا رشيد الحاج إبراهيم فكان يلقاه لأول مرة". ويضيف نويهض:"علمنا في تلك الغضون أن من رغباته أي رغبات شوقي أن يُدعى إلى العراق وقتئذ من قبل الملك فيصل وكان شوقي يصطاف في زحلة فلمّا علم بسفر فيصل إلى أوروبا بالباخرة قطع اصطيافه ورجع إلى مصر في تلك الباخرة نفسها. وعلمنا أيضاً أن رغبة شوقي في دعوته إلى العراق من قبل فيصل كانت عزيزة عليه ويقال إن قصيدته التي لحنها محمد عبد الوهاب يا شراعاً وراء دجلة يجري تتعلق بهذه الأمنية في نفس شوقي، والله أعلم". وتغزو فرنسا سورية من لبنان، وتدخل جيوشها دمشق بعد معركة ميسلون في تموز يوليو 1920، وتقضي على العهد الفيصلي، ويلجأ الملك وأعوانه إلى فلسطين ماراً بحيفا في طريقه إلى أوروبا. ويكون الأمير عادل أرسلان ممن رافق فيصلاً فيطلب من صاحبنا أن يخلي منزله لعقد مؤتمر سوري استثنائي فيه، فيوافق رشيد فوراً. وتحول السلطات البريطانية دون ذلك فيتفق رشيد وعادل على استبدال المؤتمر السوري بمؤتمر فلسطيني يشجب اجتياح فرنسا لسورية. ويتولى رشيد الدعوة إلى ذلك على صفحات الجرائد، ويجري اتصالات حثيثة برجالات البلاد في يافا ونابلس والقدس لهذا الغرض، ويلقى من صديقه الحاج أمين في القدس كل عون وتأييد، وخصوصاً في إقناع زعماء القدس من أقاربه بعقد المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث على هذا النحو. وينعقد المؤتمر فعلاً في كانون الأول ديسمبر 1920، ويمثل رشيد حيفا فيه بتفويض من الجمعية الإسلامية، إلى جانب محمد مراد وعبد الله مخلص وغيرهما، ووديع البستاني ورجا الريس وغيرهما عن الجمعية المسيحية. ويرسل المؤتمر برقية إلى عصبة الأمم يناشد دولها"الوقوف دون عبث الحلفاء بالعهود التي قطعوها للعرب"، إشارة إلى اجتياح فرنسا لسورية. كما يرفع مذكرة إلى المندوب السامي البريطاني يطالب فيها ب"المبادرة إلى تأليف حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي، ينتخب أعضاءه الشعب المتكلم باللغة العربية القاطن في فلسطين حتى أول الحرب"، إشارة إلى تدفق المهاجرين اليهود وفقاً لوعد بلفور. تتوالى الأحداث بسرعة خاطفة، ويتحول ذاك الشاب"النحيل الجسم الضعيف البنية"، بين عشية وضحاها، إلى أبرز شخصية دينية في البلاد. ذلك بأن أخاه الأكبر مفتي القدس، الشيخ كامل الحسيني، يتوفى في 21 آذار مارس 1921 فيسارع الحاج أمين إلى ترشيح نفسه، بعد أن لبس العمامة وأطلق لحيته، لمنصب المفتي المتوارث عائلياً. ويتم تعيينه مفتي القدس بقرار من المندوب السامي البريطاني في 12 نيسان أبريل 1921، ويردف المندوب قراره هذا بتعيين الحاج أمين سنة 1922 رئيساً للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، المستحدث والمكلف الإشراف على القضاء الشرعي والأوقاف الإسلامية في البلاد. وينقسم الشعب الفلسطيني منذئذ فئتين: مجلسيين، أي مؤيدين للحاج أمين الحسيني وسياساته، ومعارضين بقيادة راغب النشاشيبي رئيس بلدية القدس، وهو المنصب المقابل في اعتباره لمنصبي الحاج أمين. وتشهد حيفا، شأنها شأن سائر فلسطين، نمو الوطن القومي اليهودي المطرد خلال العشرينيات من القرن الماضي. ويقول صاحبنا:"وجدنا نحن أهل حيفا العرب بلدنا الصغير الجميل يتسع وتتغير معالمه في آن واحد وقمنا ندفع عنه خطر التهويد بوطنية صادقة تعرف العمل لا القول والصدق لا الكذب والتضحية والبذل لا التجارة والربح". ويتابع:"وكنت شخصياً آنذاك أرتبط بنفر كريم من رجالات العرب بروابط من الود والعمل المشترك لخدمة القضية العربية العامة، فأخذت أتصل بهم وأستعين بآرائهم وتوجيهاتهم". وهكذا يواظب رشيد على حضور المؤتمرات الفلسطينية المتتالية، فيحضر المؤتمر الرابع في 29 أيار مايو 1921، والخامس في 24 آب أغسطس 1922، والسادس في 29 تموز يوليو 1923، والسابع في 21 حزيران يونيو 1928. ويكون هذا آخر المؤتمرات الفلسطينية، إذ انتقلت القيادة الوطنية بعده إلى اللجنة التنفيذية المنبثقة منه برئاسة موسى كاظم باشا الحسيني حتى وفاته سنة 1934. ولا يقتصر نشاط رشيد القومي في العشرينيات على حضور المؤتمرات، إذ تنتدب الهيئات الوطنية سنة 1924 وفداً لزيارة العراق وإمارات الخليج العربي من أجل جمع التبرعات لترميم المسجد الأقصى، برئاسة الحاج أمين، وعضوية كل من رشيد وأمين التميمي. وتستغرق الرحلة ثلاثة أشهر يزور الوفد خلالها العراق ويتناول العشاء مع الملك فيصل في كل مساء مدة أسبوعين، ويسافر من العراق إلى المحمرة والأهواز حيث يقيم أعضاؤه أسبوعاً ضيوفاً على أميرها الأمير خزعل، ومنها إلى البحرين ضيوفاً على الأمير عيسى آل خليفة، ومن البحرين إلى الكويت لتمضية أسبوع في ضيافة الأمير أحمد الصباح، ثم يعودون إلى العراق للتجوال في أرجائه. ويروي صاحبنا عن هذه الرحلة قائلاً:"كانت في الحقيقة سياحة موفقة سواء من جهة الاطلاع العام على أحوال البلاد العربية التي هي حلقات تؤلف سلسلة واحدة لا تنفصم حلقة منها عن الأُخرى ولها مطمح قومي واحد... أمّا من جهة الغاية الأولى من سفرتنا وهي جمع الأموال لمشروع عمارة الأقصى... فكنا حيثما حللنا نلقى الأهل والإخوان والغيرة والإقبال من الحكومات والحكام والأهالي. والعرب هم في الواقع أسرة واحدة متفرقة جمعها الله في صعيد واحد". وكانت هذه الرحلة فرصة لترسيخ العلاقة بين رشيد والحاج أمين وتوطيدها. ويقول رشيد في هذا الصدد:"وفي هذه الرحلة الطويلة تسنى لي أن أعرف الحاج أمين الحسيني معرفة تامة إذ ليس كرفقة السفر رفقة توقف الرفيق على طبائع رفيقه". ويجتاز الحاج أمين هذا"الامتحان"بامتياز، ذلك بأن رشيداً يدرج في سرد شائق قائمة من صفات الحاج أمين وخصاله الحميدة التي اكتشفها فيه، ويخلص إلى القول:"فكان الرفيق الطيب... فلم يدخل علينا لا مللاً ولا ضيقاً رغم ما لاقينا من مشاق وكان مؤنساً لنا يروي لنا بعض الوقائع التاريخية والقصص النادرة للترفيه والترويح عن النفس. لذلك كانت هذه السفرة من دواعي حبي واحترامي له زمناً طويلاً". وينعكس هذا الشعور بعد العودة إلى البلاد في وقوف رشيد في وجه منتقدي الحاج، فيقول أنه كان يدافع عنه بمنتهى القوة والحرارة"إذ كنت أعتقد أن لا بد لهذه الأمة من زعيم يتولى قيادتها فإذا لم يظهر فيجب أن نخلقه خلقاً لذلك كنت أقول دائماً بضرورة مؤازرته ومعاونته حتى ومقاومة كل فكرة ترمي إلى إضعافه بأي معنى من المعاني". بعيد عودة رشيد من هذه الرحلة الخليجية أسس، في آب أغسطس 1924، جريدة يومية باسم"اليرموك"ظلت حتى توقفت عن الصدور سنة 1933 الجريدة العربية اليومية الوحيدة التي صدرت في حيفا خلال الانتداب. وساهم مع رشيد في إصدار"اليرموك"كل من عبد الرحمن الحاج رئيس البلدية، وسليمان الصلاح مفتي حيفا، وأحمد الإمام. وكانت سياسة"اليرموك"مؤيدة ل"المجلسيين"وللحاج أمين وللجنة التنفيذية، وشديدة في انتقادها للمعارضة. كما كانت منفتحة على المسيحيين العرب، ومؤيدة لمطالب العمال العرب وللمسرحين العرب من موظفي الحكومة. وإضافة إلى نشاطه الخاص التجاري العائلي والعام الوطني كان رشيد، منذ البدء، وثيق الصلة بالجماعات الإسلامية ذات النشاط الوطني. ولقد مر ذكر انتسابه إلى الجمعية الإسلامية في حيفا وتمثيله لها في المؤتمرات الفلسطينية وغيرها. واشترك منذ سنة 1921 في إدارة الوقف"السهلي"، وهو من الأوقاف المعروفة في حيفا. ولاحظت السلطات البريطانية هذا النشاط في وقت مبكر، في أوائل سنة 1919، وصنفت رشيداً كأحد أعضاء"المجموعة الرديئة"Bad lot في نظرها. وتوثقت علاقة رشيد بالجماعات الإسلامية الوطنية عن طريق توطد العلاقة بينه وبين الشيخ عز الدين القسّام الوافد إلى حيفا. ولد القسّام في بلدة جبلة بالقرب من اللاذقية سنة 1871، ودرس في الأزهر، وكان في عداد تلاميذ الشيخ محمد عبده، وشارك في ثورة العلويين ضد الفرنسيين وحكم عليه بالإعدام فلجأ إلى حيفا في شباط فبراير 1922، ولجأ معه من رفاق الجهاد الشيخ محمد الحنفي والشيخ علي الحاج عبيد. ويحدثنا رشيد عن القسّام فيقول إنه"كان... أقرب العلماء المسلمين إليّ في حيفا"، ويضيف:"وعُيّن بعد اختبار علمه ومعرفة فضله والتأكد من إخلاصه ووطنيته ودينه أستاذاً للديانة الإسلامية في مدرسة البرج الإسلامية بحيفا ثم إماماً وخطيباً لجامع الاستقلال وذلك في أواخر عام 1925... وكان مورد الشيخ عز الدين من عمله كإمام وخطيب لجامع الاستقلال لا يسد نفقاته لذلك عُيّن مأذوناً لعقود الأنكحة في قضاء حيفا". ويقول رشيد في خطابة القسّام إنه"خطيب جهوري الصوت مخلص أمين متين الإيمان ثائر على الاستعمار". وتتعدد مظاهر سياسة بريطانيا الصهيونية ونمو الوطن القومي اليهودي ومضاعفاتها في حيفا كما في سائر البلاد. فبينما كانت نسبة اليهود سنة 1918 إلى مجمل عدد سكان حيفا الثُمن، تضاعفت خلال فترة وجيزة إلى الربع سنة 1922، وارتفعت إلى الثلث سنة 1931. وقد امتدت الأحياء اليهودية الجديدة على سفوح جبل الكرمل لتشرف على الأحياء العربية الأقرب إلى الشاطئ، وأحاط سوار من المستعمرات والأراضي ذات الملكية اليهودية بالسكان العرب بحيث وصف أحد كبار الموظفين البريطانيين في تقرير له إلى رئيسه سنة 1924 شعور عرب حيفا ب"الكلوستروفوبيا"أي"الخوف من الاختناق". وانعكست هذه التحولات على أكثر من صعيد، ليس أقلها شأناً صعيد المجلس البلدي. وكانت الدولة العثمانية أنشأت سنة 1877 نظام بلديات، وأسست بموجبه اثنين وعشرين مجلساً بلدياً في فلسطين أبقتها الحكومة البريطانية على حالها عند احتلالها البلاد سنة 1917، كما"حافظت"على نهج الحكام الأتراك في التدخل المباشر في المجالس البلدية بحجة أنه العرف المتبع. ولم تجر الحكومة البريطانية انتخابات للمجالس البلدية الفلسطينية حتى سنة 1927، مع أن العرف المتبع كان إجراء مثل هذه الانتخابات دورياً. وكانت السلطات البريطانية لغاية سنة 1927 تعيّن وتقيل رؤساء البلديات وزملاءهم كلما ارتأت ذلك. أمّا دافع بريطانيا إلى الحفاظ على إشرافها على البلديات فكان طبعاً حرصها على إرساء ركائز الوطن القومي اليهودي الوليد، ومن أهمها احتكار توفير الطاقة الكهربائية في فلسطين وشرق الأردن الذي منحته باستثناء القدس سنة 1921 لليهودي الروسي الأصل والوزير السابق في حكومة كيرنسكي عشية الثورة الشيوعية، بنحاس روتنبرغ. وهكذا بلّغ المندوب السامي البريطاني هربرت صامويل، في أول لقاء مع المجلس البلدي في حيفا، قراره بأن يتولى روتنبرغ توفير الكهرباء للمدينة. كما رفض عروضاً من رجال أعمال عرب من سكان حيفا تيوفيل بوتاجي لتولي هذا الأمر، ورعى حاكم المدينة البريطاني زيارة روتنبرغ للمجلس البلدي سنة 1923 لإقناعه بقبول مشروعه. وعلى الرغم من معارضة معظم أعضاء المجلس العرب لذلك، بدعم من الجمعية الإسلامية، ومن رشيد ورفاقه فيها، فقد تم إدخال حيفا في مشروع روتنبرغ سنة 1925 عن طريق التنفيذ الميداني له على أساس سياسة الأمر الواقع. ونجم عن"معركة الكهرباء"أن أصبح المجلس البلدي حلبة رئيسية للصراع بين الأطراف المتنافسة في المدينة. وفي سنة 1927 قررت السلطات البريطانية اجراء أول انتخاب للمجالس البلدية، وكان لكل من المسلمين والمسيحيين أربعة أعضاء في مجلس حيفا، بينما كان لليهود عضوان فقط. وترشح عن"المجلسيين"والجمعية الإسلامية كل من رشيد وسليمان الصلاح وعبدالرحمن الحاج وتوفيق الخليل، بينما دعم"المعارضون"قائمة ترأسها حسن شكري الذي كان مَرْضياً عنه من جانب الحكومة والأوساط الصهيونية معاً، وترشح عن المسيحيين أحد عشر مرشحاً، فنجم عن تبعثر الأصوات العربية والتضافر بين المرشحيْن اليهوديين اللذين انتخبا بالتزكية، أن نجحت قائمة حسن شكري، ولم ينجح من قائمة الجمعية الإسلامية إلاّ توفيق الخليل، وأصبح حسن شكري رئيساً للبلدية. فكانت هذه التطورات صدمة كبرى لصاحبنا وللأوساط الوطنية في حيفا عامة. شهدت مصر في أواخر العشرينيات حركة لتأسيس جمعيات الشبان المسلمين، على غرار جمعية الشبان المسيحية العالمية، وقاد هذه الحركة عبد الحميد سعيد، زميل مصطفى كامل زعيم الحزب الوطني المصري. وزار عبد الحميد سعيد فلسطين مراراً داعياً إلى الاقتداء بحركته. وفعلاً، لاقت الفكرة تجاوباً كبيراً، وعقد المؤتمر التأسيسي في نيسان أبريل 1928. وانتشرت فروع الجمعية في مدن البلاد الرئيسية، وأدى رشيد والقسّام دوراً بارزاً في تأسيس فرع حيفا الذي ما لبث رشيد أن انتُخب رئيساً له. وساهم الاثنان في تأسيس فروع للجمعية في القرى المحيطة بحيفا، وازداد الإقبال على الانتساب إلى الجمعية في إثر تصاعد الأطماع الصهيونية في البراق حائط المبكى الذي انفجر في ثورة 1929. ويجزم رشيد أن الحركة الثورية القسّامية انبثقت لاحقاً من جمعيات الشبان المسلمين،"إذ وجد الشيخ عز الدين القسّام في التوجيه الوطني الديني الذي تولته جمعيات الشبان المسلمين في البلاد ما ساعد على نشر مبادئه وتنفيذ سياسته فالتف حوله من أعضائها من الشباب من أنس فيهم الغيرة والحمية". ويروي رشيد:"وكانت أعمال الشيخ وتنظيماته سراً لا يطلع عليه إلاّ المنضمون للحركة وواصل الشيخ في الوقت نفسه خطبه النارية ضد المستعمرين من الإنكليز والسماسرة". ويضيف:"ورغم ما كان يحيط بالشيخ عز الدين من عداوات... فقد كانت صداقتنا له والتصاقنا به يزدادان قوة ومتانة". وظل رشيد رئيساً لجمعية الشبان المسلمين في حيفا حتى سنة 1932 حين خلفه القسّام، الذي استمر في الرئاسة حتى استشهاده سنة 1935. وقد تعاون الاثنان تعاوناً وثيقاً مع معين الماضي وصبحي الخضراء في تنظيم فروع لجمعية الشبان المسلمين في الجليل. واتهمت السلطات البريطانية الخضراء بالتحريض على ثورة البراق، وفرضت عليه الإقامة الجبرية. أدت ثورة البراق إلى مقتل 133 يهودياً وجرح 339 على أيدي العرب في القدس والخليل وصفد، بينما قتل 116 عربياً وجرح 232، جلهم على أيدي الجيش البريطاني. وفي 17 حزيران يونيو 1930 نفذت السلطات البريطانية حكم الإعدام في سجن عكا بثلاثة من المجاهدين، هم محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، اتهمتهم بقتل يهود في إبان الثورة. ويروي رشيد:"وكان هؤلاء الشباب أول قافلة من شهدائنا علقهم الإنكليز على أعواد المشانق في سبيل الصهيونية الآثمة. دفنّا الشهداء الثلاثة في مقبرة النبي صالح بعكا وتوليت أمر بناء قبورهم بنفسي". بريطانيا و"الكتاب الأبيض" في إثر ثورة البراق بدا لفترة وجيزة أن بريطانيا تتردد بعض الشيء في تنفيذ سياسة الوطن القومي اليهودي. وفعلاً، أصدرت في تشرين الأول أكتوبر 1930"كتاباً أبيض"يعكس هذا التردد، وذلك في أعقاب تقارير للجان كانت أوفدتها إلى البلاد للتحقيق في أسباب ثورة البراق. فقامت قيامة الصهيونية في لندن بقيادة الزعيم الصهيوني المخضرم حاييم وايزمن، ولم تقعد. فما كان من رئيس الوزراء، رمزي مكدونالد، إلاّ أن أرسل في شباط فبراير 1931 رسالة إلى وايزمان تنسخ نسخاً ما ورد في كتابه الأبيض سارع العرب في فلسطين إلى إطلاق تسمية"الكتاب الأسود"عليها. وأردفت بريطانيا هذا الفعل بتعيين مندوب سام جديد هو الجنرال السير آرثر واكهوب، المفتون بالصهيونية، وزودته تعليمات لتسريع وتيرة بناء الوطن القومي لم تلبث أن تجلت في سيل عرم من المهاجرين اليهود، إذ قفز عدد المهاجرين السنوي من 4075 سنة 1931، إلى 9553 سنة 1932، إلى 30.327 سنة 1933، إلى 42.359 سنة 1934، إلى 61.854 سنة 1935. ونتج من هذا الازدياد الهائل أن تضاعف مجمل عدد يهود فلسطين، ما بين سنة 1930 وسنة 1935، من 164.796 يهودياً إلى 355.157 يهودياً. ورافق هذه التحولات الديموغرافية الحاسمة تثبيت الوجود البريطاني في حيفا وخليجها بالذات. ففي سنة 1933، انتهى العمل في بناء أحواض عميقة في المرفأ قادرة على استقبال السفن والناقلات الضخمة، وفي مد أنبوب للنفط عبر الصحراء من العراق لشركة نفط العراق IPC الإنكليزية، وبدأ الضخ فيه سنة 1934. وتنوع نشاط صاحبنا أمام هذه التحديات الجسام. ففي تموز يوليو 1930، أسس عبدالحميد شومان، الاقتصادي العصامي من قرية بيت حنينا من أعمال القدس، بالاشتراك مع أحمد حلمي باشا عبدالباقي الذي عرف أنه مقرب من حزب الاستقلال الذي تأسس خلال العهد الفيصلي في دمشق سنتي 1919 - 1920، كمظهر علني من جمعية العربية الفتاة السرية، والذي كان للتو يعمل مراقباً عاماً للأوقاف الإسلامية تحت إشراف المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى برئاسة الحاج أمين، أسس الاثنان البنك العربي في القدس، الذي أصبح ولا يزال الركن الركين للاقتصاد الفلسطيني الخاص. وعُيِّن صاحبنا رشيد مديراً لفرع البنك في حيفا. سعى رشيد، وهو في هذا المنصب، لمساعدة مختلف قطاعات الشعب الفلسطيني الكادحة، وأولى حركة التعاونيات الريفية الناشئة اهتماماً خاصاً، حتى إنه قدم لها قروضاً توازي ضعف رأس مالها تشجيعاً لها. والجدير بالذكر أن المصاهرة جمعت بين رشيد وأحمد حلمي، الأمر الذي زاد في اتساع شبكة علاقاته ونفوذه. في أواخر كانون الأول ديسمبر 1931 دعا الحاج أمين الحسيني إلى عقد مؤتمر إسلامي عام في القدس لتأمين الدعم من بلاد الإسلام للقضية الفلسطينية عامة، وللأماكن الإسلامية المقدسة خاصة، بعد تكشف الأطماع اليهودية فيها، اشتركت فيه وفود من مختلف الأقطار، وكان رشيد عضواً في لجنته التأسيسية وأحد أعضائه، ممثلاً عن حيفا إلى جانب معين الماضي. وحضر فيمن حضر من خارج فلسطين: محمد رشيد رضا وعبد الرحمن عزام ومحمد مصطفى المراغي وعبدالحميد سعيد من مصر، ورياض الصلح والشيخ عارف الزين من لبنان، وشكري القوتلي من سورية، والإمام محمد حسين آل كاشف الغطاء والشاعر محمد بهجة الأثري من العراق، والسيد عبدالعزيز الثعالبي من تونس، وضياء الدين الطباطبائي من إيران، ومولانا شوكت علي من الهند، وغيرهم كثيرون. ويروي رشيد:"استمر انعقاد المؤتمر أسبوعين... [و]زاد في مكانة الحاج أمين في العالم الإسلامي وأكسبه شهرة واسعة وأصبح زعيماً من زعماء هذا الشرق يشار إليه بالبنان". وتلي هذه الملاحظة في المذكرات مقاطع لا تقع في سياقها الزمني، لكنها تأملات كتبها صاحبنا استرجاعياً بعد النكبة تطرق فيها ثانية إلى صفات الحاج أمين، ومنها"أنه غيور على دينه وبلده... قوي الأعصاب شجاع مقدام ولم أر أقدر منه على متابعة الأعمال وملاحقتها... وله في معرفة الناس مقدرة فائقة لا يجاريه فيها أحد... ولكنه مع الأسف الشديد غير موفق في أعماله والتوفيق من الله". ويستطرد رشيد في تبيان أسباب عدم توفيق الحاج أمين وبماذا يتحدث الناس عنه في مقاطع يجدر بالقارئ أن يتوقف عندها. وينتهز القوميون العرب حضور الوفود التي اشتركت في المؤتمر الإسلامي ليعقدوا على هامشه مؤتمراً خاصاً بهم، دعوا فيه إلى"عقد مؤتمر عام في إحدى العواصم العربية"لتبني ميثاق يقوم على مبادئ"وحدة البلاد العربية وحدة تامة لا تتجزأ... وتوجيه الجهود... إلى وجهة واحدة هي الاستقلال التام... ومقاومة... الاقتصار على العمل للسياسات المحلية... ورفض الأمة للاستعمار ومقاومتها له بكل قواها". وحضر هذا المؤتمر من الفلسطينيين رشيد ومعين الماضي وصبحي الخضراء وأحمد حلمي باشا وعوني عبد الهادي ومحمد عزة دروزة وغيرهم، وحضره من خارج فلسطين عبد الرحمن عزام ورياض الصلح وشكري القوتلي ونبيه العظمة وعجاج نويهض وغيرهم. ولم يلبث رشيد أن انضم سنة 1932 إلى عضوية اللجنة العليا لصندوق الأمة برئاسة أحمد حلمي باشا. وكان هدف الصندوق جمع التبرعات الشعبية الشهرية من أجل إنقاذ الأراضي في فلسطين، أي الحيلولة دون انتقالها إلى الملكية اليهودية. ويتوقف رشيد عند عرضه أحداث الثلاثينيات وأثرها في مدينته وبلده، ليستذكر بحنين وحسرة طريق حيفا الساحلي القديم الذي استعيض عنه بطريق بري حديث، فيقول:"لم يكن قبل سنة 1933 طريق معبد يربط حيفا بعكا بل كان هناك طريق ساحلي رملي يسير على شاطئ البحر مبتدئاً في حيفا من المحل المعروف ببوابة عكا ثم يتجه نحو الشمال. ويا له من طريق جميل، يسير على قرب من الأمواج المتلاطمة التي أحياناً تقترب حتى تنساب بين عجلات السيارات والعربات التي كانت تجرها الخيل قبل استقدام السيارات، وكانت العربة تسير الهوينا تارة تداعب أجنحة الأمواج عجلاتها وطوراً تسير على الرمال الناصعة البياض ووقع حوافر الخيل كأنه ضرب من الأنغام الموسيقية...". كان أمل الذين حضروا المؤتمر القومي العربي على هامش المؤتمر الإسلامي في القدس، أن يعقد المؤتمر العربي العام المزمع في بغداد برعاية الملك فيصل، ورجل العراق القوي ياسين الهاشمي. وقامت اتصالات حثيثة واجتماعات تحضيرية في هذا السبيل، بما في ذلك زيارة للهاشمي إلى فلسطين في حزيران يونيو 1932، تبعتها زيارة للملك فيصل ذاته في أيلول سبتمبر. غير أن هذه المساعي لم تثمر في الأغلب بسبب معارضة بريطانيا الخفية في العراق، ومن ثم وفاة الملك فيصل في أيلول 1933. وقامت في هذه الأثناء، إلى جانب هذه المساعي، مساع غيرها تهدف إلى تأسيس فرع فلسطيني لحزب الاستقلال، لولبها محمد عزة دروزة الذي كان في ذلك الحين مديراً للأوقاف الإسلامية العامة في القدس، بتعيين من رئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الحاج أمين. ويروي لنا دروزة ظروف نشوء حزب الاستقلال الفلسطيني والحافز عليه، فيقول:"كان الباعث على ذلك ميوعة الموقف السياسي وخموده، أو بكلمة أُخرى خفوت الحركة الوطنية، فقد عاد التشاد بين فريقي المجلسيين والمعارضين إلى حدته في مناسبة المؤتمر الإسلامي... وعاد الفريقان إلى المهاترات والانفعالات الشخصية، وشغلوا بها عن الحركة الوطنية وواجباتها... وأخذت الأفكار تتجه إلى وجوب وأفضلية تشكيل حزب سياسي يضطلع بمهمة تصحيح مسار الحركة الوطنية ويخلصها مما ألمّ بها من ميوعة وخفوت وازدواجية". ويعني دروزة ب"الازدواجية"مكافحة الصهيونية من دون مكافحة بريطانيا. وصار القوميون الوحدويون الاستقلاليون، الأعضاء في اللجنة التنفيذية، والداعون إلى نبذ الازدواجية والتخلص من الحزبية الضيقة، يتداولون هذا الشأن، مثل دروزة ومعين الماضي ورشيد الحاج إبراهيم وصبحي الخضراء وغيرهم، ويكثرون الحديث فيه مع الحاج أمين وصحبه، من أمثال حسن أبو السعود وإسحق درويش ومنيف الحسيني، إلى أن اقترح الحاج أمين أن تعقد خلوة في طبرية تضمه هو وكلاً من دروزة ورشيد ومعين الماضي وإسحق درويش للبحث في الأمر"بصراحة وجد". وفعلاً عقدت الخلوة"في فرصة عيد"، لكنها لم تصل إلى نتيجة. ويعلق دروزة على ذلك بقوله:"ظلت الأفكار في مدى الحزب متباينة، وتأكدنا أنا ومعين ورشيد من أن مزاج الحاج أمين أبعد من أن يقبل حزباً على الأفكار التي سقتها، والتي كان معين ورشيد موافقين عليها". أمّا أفكار دروزة في تشكيل الحزب، فكان لبّها من حيث سياسته أولاً:"أن يكون صريح المنهج والإعلان في مكافحة الاستعمار الانكليزي مع مكافحة الصهيونية، ليعيد الحركة الوطنية إلى أصلها القومي الاستقلالي"، وثانياً ألاّ ينزج الحزب"في تيارات السياسات المحلية والشخصية". أمّا من حيث العضوية والتنظيم، فكان رأي دروزة أن تقتصر عضوية الحزب على عصبة قليلة العدد"ومن المنسجمين في الوقت نفسه مع بعضهم صداقة وثقة وأفكاراً وجهاداً، وأن لا يدخله أي شخص عرف عنه لوثة في وطنيته وسلوكه الأخلاقي"، على ألاّ يقوم هذا الحزب على عمليات انتخابية،"وأن لا يهتم بالتالي بما إذا كان من هذه الناحية أقلية في البلاد أم أكثرية". هكذا، وبعد فشل خلوة طبرية، قرر دروزة ورشيد ومعين الانفراد عن الحاج أمين والمضي في إنشاء الحزب على هذه الأسس، واختاروا ليكونوا"عمدة الحزب ومؤسسيه"، إضافة إلى أنفسهم، كلاً من فهمي العبوشي وعجاج نويهض وصبحي الخضراء وعوني عبدالهادي وأكرم زعيتر وحربي الأيوبي وحمدي الحسيني والدكتور سليم سلامة. وكان الزعيم الاستقلالي السوري نبيه العظمة مقيماً بالقدس منفياً من دمشق، وكان ثلاثي دروزة ورشيد ومعين يشركه في أمر الحزب ويطلب مشورته. وتقرر الاكتفاء بالأشخاص الأحد عشر المذكورين كمؤسسين للحزب، والشروع في الظهور. كما تقرر عدم إيجاد رئاسة للحزب، وأن يكون عوني أميناً عاماً له، وعجاج نويهض مساعداً لعوني، ودروزة أميناً للمال. وحصل الحزب على العلم بتأليفه من الحكومة في 13 آب أغسطس 1932.