"كتاب التيه" لحسونة المصباحي يبدو استراحة كاتب بين روايتين. فالكتاب الصادر أخيراً عن "دار نقوش عربية" تجوال سياحي في مدن الشرق والغرب من الاندلس حتى اسطنبول وميونيخ واستوكهولم وأصيلة والقيروان وغيرها. مدن يسوح فيها الكاتب ليسجل انطباعاته، حاملاً عدّته كمثقف يرى في هذه المدن بعض انتساب، أو يكتشف ما لم يكن يعرفه عنها. وهذا النوع من الكتابة الشائعة اليوم، تختلف من كاتب إلى آخر، حسب زاوية الطرح وعلاقتها بأدب اليوميات. وعلتها أن ما يريده الكاتب منها كأديب يفسد الرؤية في الغالب، ويحوّل النص إلى حافظة تبثّ انطباعات ومشاعر متشابهة. وفي كتاب المصباحي تنأى المدن عنا، قدر ما تنأى الجملة عن أن تعقد صداقة حقيقية مع ذاتها ومع قارئها. إنها تستعجل قولها في انطباعات مرتبة بين معلومة يمكن أن يسجلها الكاتب على طاولته من دون عناء التجوال، ومغامرة دونكيشوتية تحضر فيها الماء والخضرة والوجه الحسن. ويدلّنا عنوان الكتاب على استنفار للمشاعر يبدو فائضاً، ويفتقد إلى حميمية الطرح، ويحمّل تلك السياحة ما لا تطيقه من حمولة، لتتحول المدن في مادته إلى أطياف باهتة. فالاندلس تستدعي حنيناً عربياً مرصّعاً بأشعار لوركا المترجمة، لكي تكتمل الصورة التي حفظناها عنها حدّ الملل. ومدن المغرب العربي تمرّ عليها العين بما يثقلها من معلومات عن ابن خلدون وجان جينيه. إنها مادة تحرم النصّ من خصوصية تحتاجها الكتابة، وتجعل من اليوميات أو ذلك النوع الذي يقترب من أدب الذكريات، مادة تعلّم كاتبها فن الصداقة مع القارئ، ونحسبها أولى المهمات التي يخوض من أجلها الكاتب مغامرة من هذا النوع. وفي كل الأحوال، لا يخلو الكتاب من متعة توفرها لنا تلك السياحة، على رغم اقتحامها من قبل المشاغل الأدبيّة. ففيه بعض تسلية لمن لم تتح له فرص ذلك التجوال، شرط أن يستخدم خيالاً مضاداً يعيد تبسيط الأشياء لكي تكون لتلك المدن ملامح غير مثقفة.