لم يترك جان كوكتو فناً أو أدباً من دون ان يخوض فيه. كان شاعراً وسينمائياً وروائياً وناقداً، كما كان كاتباً مسرحياً ورساماً وخاض في أدب الرحلات، من دون ان ننسى كتابه لنصوص استعراضات الباليه، وصخبه الدائم في الحياة الفنية والفكرية الفرنسية. كان واحداً من الذين يحركهم لهيب الروح الداخلي فيعطيهم تلك القدرة على التحرك، وذلك الشغف الدائم الى البعيد، والى التجاوز. ومن هنا كان نادراً ما يعبأ بالنوع الأدبي او الفني الذي سيعبّر عن حال من احواله، من خلاله، مهتماً بالتعبير نفسه. او هذا - على الأقل - ما أكده دائماً كاتبو سيرته من الذين لم يتوقفوا على اي حال طويلاً عند ذلك «التناقض» بين لهيبه الفني النابع من الداخل، وأناقته الخارجية وكونه عرف كيف يكون أيضاً، رجل صالونات وعوائد اجتماعية مرهفة. مهما يكن، واضح ان هذا الجانب الأخير من شخصية جان كوكتو لم يعد اساسياً اليوم، بعد نحو خمسين سنة مضت على وفاته التي تزامنت تماماً مع وفاة صديقته الفنانة الفرنسية الكبيرة اديث بياف. الأساسي اليوم هو تلك النصوص والأفلام والرسوم التي تركها الرجل لتقول كيف انه يبقى دائماً عصياً على التصنيف وعلى ان يحصر داخل تيار او نوع او مدرسة. ومع هذا يبقى ان كوكتو كان، اكثر من أي شيء آخر، رجل مسرح في الدرجة الأولى. كتب للمسرح وكتب عن المسرح. وكتب كثيراً مستلهماً جولاته المسرحية كما علاقته بالمسرح. ولعل من أفضل تراثه في هذا المجال الأخير كتابه المسمى «معليش» مكتوبة على الغلاف بمعناها ومبناها العربيين ولكن بحروف لاتينية. ولا بد من ان نشير هنا، منذ البداية، الى ان جان كوكتو استعار التعبير، الذي لاءم مزاجه تماماً، من تلك الكلمة الشهيرة التي نسمعها كثيراً في مصر، في كل مرة نجد فيها الناس انفسهم امام مأزق او كارثة، او خطأ ما، فيجابهون الامر بكل بساطة قائلين «معليش». كتاب جان كوكتو «معليش» صدر في طبعته الاولى في عام 1949، ولقد عرّفه كاتبه يومها بأنه عبارة عن «كتاب للعقل»، ملأ كوكتو صفحاته بيوميات وأفكار وملاحظات كان يدوّنها في شكل يومي خلال الشهور الثلاثة التي تجوّل خلالها كوكتو في صحبة فرقة مسرحية في العديد من بلدان شرق البحر الابيض المتوسط لا سيما في مصر وتركيا واليونان. وكانت الجولة قد بدأت يوم السادس من آذار (مارس) من تلك السنة نفسها، وقد اصطحب فيها كوكتو اصدقاءه الفنانين جان ماريه وإيفون دي براي وغابي سيلفا ومارسيل اندريه، لتقديم عروض مسرحية عدة في المدن الرئيسة في تلك البلدان الثلاثة، حيث قدمت بالفعل وفي شكل متوالٍ اعمال لجان كوكتو ولغيره مثل «الآلة الجهنمية» و «الوحوش المكرسة» و «الأهل الاشقياء» و «بريتانيكوس» و «غرفة مغلقة»... وغيرها. ومن الواضح هنا ان كوكتو انما حاول - وبنجاح كبير على اي حال - ان يرسم لنا في صفحات هذا الكتاب، كواليس الجولة واللقاءات الشعبية والرسمية، والتعب والمعاناة اللذين كانا من نصيب الفنانين المتجولين بفعل المسافات الكبيرة التي قطعوها خلال ذلك الوقت القياسي في قصره، والذي استغرقته الجولة. والمدهش هنا هو ان اسلوب كوكتو في كتابته فصول الكتاب، لا يشعر المرء ابداً بأن ثمة وقتاً ضاغطاً، بل يكاد القارئ يشعر بأن الزمن بلا حدود، كما هو الزمن المعاش في تلك المناطق من العالم على أي حال. من ناحية مبدئية لا بد من الموافقة هنا مع اولئك الذين خلال سردهم سيرة كوكتو وحديثهم عن أدبه، أشاروا الى ان الصفحات العديدة الخاصة بمصر واليونان في هذا الكتاب، انما تطوّر وتعمّق ملاحظات عدة حول هذين البلدين كان كوكتو قد سبق له ان ملأ بها صفحات كتاب سابق له عنوانه «رحلتي الأولى» وتناول فيه مشاهداته ومعايشاته في مصر واليونان خلال زيارات اولى إليهما. من هنا لا يحس المرء بأي جديد في وصف الكاتب لهذين البلدين انطلاقاً من معايشته لتقديم العروض المسرحية فيهما. هنا، اذاً، يكاد السرد يتعلق فقط بالعروض المسرحية نفسها، والنجاح الذي حققته وبردود الفعل التي أبداها المتفرجون سواء كانوا متفرجين عاديين او رسميين أو مثقفين. وفي هذا السياق يطنب الكاتب احياناً في رسمه صورة ما للحياة الفنية والثقافية منظوراً اليها من خلال عروض المسرح الفرنسي. ومع هذا ثمة صفحات خارح هذا النطاق يكاد القارئ يشعر وهو غارق فيها بروح الشاعر الكاتب، وكأنها تتجول على سجيّتها مسكونة بأشباح أهل الماضي الذين تشي النصوص بحضورهم الطاغي داخل المعابد والقبور... وتصل لغة كوكتو الى مداها حين يحدثنا عن هذه الاماكن وكأنها ديكورات بنيت خصيصاً من اجل استعراضات وهمية لن يراها ابداً أي مشاهد سواه. وهذا ما يفتح المجال امام كوكتو كي يعود الى العروض المسرحية نفسها فيتحدث عنها بالتفصيل، وعن اداء الممثلين فيها، لا سيما عن الكيفية التي يتبدل فيها ذلك الاداء تحت وقع هذه النقلة الجغرافية. هنا، في مثل هذه الصفحات يتحول اسلوب الكاتب ليبدو كأنه صار اسلوباً تقنياً بحتاً مملوءاً بالملاحظات على التمثيل وعلى نطق الجمل الحوارية، ما يجعل النص يبدو وكأنه كتاب تدريس في فن الحركة والالقاء. وذلك تحديداً، انطلاقاً من علاقة هذا الفن بطبيعة الجمهور المتلقي نفسه. وما يقال عن هذا الجانب التقني المعرفي هنا، يمكن قوله ايضاً عن الوصف الذي يورده الكاتب للّقاءات التي يعقدها مع نخبة المثقفين في المدن التي تزار، ليس فقط لمناسبة تقديم العروض المسرحية، بل كذلك لمناسبة استفاضته في الحديث، ايضاً، عن المحاضرات التي كان يدعى الى إلقائها بين الحين والآخر، وعن المناقشات التي كانت تدور بينه وبين مستمعيه من بعدها. الحقيقة هي ان ذلك التأرجح بين الجانب العملي - المسرح، المحاضرات، اللقاءات وخصوصاً بين الحين والآخر، المناقشات السياسية وغير السياسية -، والجانب الادبي السحري، حيث يتجول كوكتو وحيداً، في معظم الاحيان بين الآثار والاماكن الفاتنة، هو الذي يؤمن لنص «معليش» ككل سمات العمل القائم بجولة مكوكية متواصلة بين الماضي والحاضر، كما بين الطبيعة وآثارها والعمران من ناحية، وبين البشر الاحياء من ناحية ثانية. او هذا - على الأقل - ما يمكننا ان نقوله عن القسمين من «معليش» المتحدثين عن مصر واليونان. اما القسم الثالث، والمتحدث عن تركيا - فإنه يختلف الى حد كبير. ذلك انه اذا كانت نظرة الكاتب الى البلدين الآخرين نظرة تأتي هنا لتؤكد اكتشافات ورؤى سابقة، فإن نظرته الى تركيا هي نظرة اكتشاف خالصة. هنا، في تركيا وفي اسطنبول بخاصة، لا يعود كوكتو مهتماً كثيراً باللعبة المسرحية، وباستقبال الجمهور المحلي للاعمال التي أتى الفنانون الفرنسيون ليقدموها، بل يصبح همه الاساس ان يكتشف. ان ينظر. ان يرى، بحسب تعبيره هو. هنا يكون الاكتشاف الحقيقي مدينة اسطنبول نفسها «الشابة جداً والقديمة جداً» بحسب تعبيره. هنا يلفت كوكتو ان اسطنبول تغيب عن النظرة الثقافية الفرنسية منذ كتب عنها بيار لوتي، مواطنه الكبير بعض اجمل نصوصه. من هنا يكون من الطبيعي لكوكتو وهو يتجوّل في احياء اسطنبول ومناطقها ان «يترافق» في تجواله مع بيار لوتي. صحيح ان لوتي كان قد مات منذ زمن بعيد، لكنه لا يزال حياً في اسطنبول، كما في ذاكرة جان كوكتو. من هنا لم يكن من الصعب على هذا الاخير ان يتحاور معه وقد «جمعتهما» هذه المدينة، في لغة هي - بعد كل شيء - اجمل ما في الكتاب، وخصوصاً حين تتسم بقدر كبير من الذاتية والحميمية لا يكون واضحاً في اي صفحات اخرى من صفحات «معليش». عندما نشر جان كوكتو (1889 -1963) كتابه هذا، كان قد أنجز القسم الأكبر من وجوده الأدبي والفني هو الذي كان اصدر اول كتاب له، وهو في العشرين، في عنوان «مصباح علاء الدين»، ثم حين قرر ذات يوم ان يصدر مجلة اطلق عليها اسم «شهرزاد». وما هذا الا لكي نشير الى كم ان جان كوكتو كان دائماً معبأ بالشرق، الشرق القديم والشرق الجديد على السواء. ومع هذا فإن كوكتو، خاض حداثة عصره وربطها بالأساطير القديمة من خلال افلام ومسرحيات لا تزال حتى اليوم تحمل نضارتها. [email protected]