مع نشرها "يوميات دراجة نارية" لارنستو تشي غيفارا، في ترجمة جميلة ومتينة أنجزها الكاتب الفلسطيني صلاح صلاح، تكون سلسلة"ارتياد الآفاق"التي تصدرها"دار السويدي"الاماراتية، بدأت في تقديم أدب رحلات كتب في ملفات أخرى غير العربية الى القارئ. وتغطي هذه اليوميات وقائع رحلة قام بها تشي غيفارا مع صديقه البرتو غرانادو الطبيب المتخصص في الجذام وقطعا خلالها 4500 كيلومتر على دراجة نارية. الدراجة التي يسميانها"الجبارة"سرعان ما يتضح انها، بعكس اسمها، متداعية وغير مهيأة لمغامرة من هذا النوع، فتتعطل أكثر من مرة ثم تنعطب فيكلمان الرحلة في الشاحنات وعبّارات الأنهر والسفن وسيراً على الأقدام... ويستخدمان أكواخاً وبيوت مستضيفين طارئين أو العراء طلباً للراحة والنوم والطعام!! بحيث يضطران أحياناً وكما يليق بأي مغامرين أن يكونا من"دون سنت أو أي فرصة في المدى القصير لكسب أي نقود... لكننا كنا سعداء"كما يكتب هو. لا يستطيع قارئ هذه اليوميات أن يكف عن التفكير في سؤال مهم جداً وهو: هل نستطيع قراءة ما كتبه تشي غيفارا الشاب والطالب في كلية الطب بعيداً من صورته كرمز انساني نضالي وتقدمي تحول في ما بعد الى واحدة من أيقونات القرن العشرين. وهذا ما تطرحه مقدمة الكتاب، ولو أن مغامرة الشباب هذه لم تكن مقدمة الى تكوين تشي غيفارا الثوري لاختلفت قراءتنا لها، معرفتنا المسبقة بأنها تخصه تحثنا على النظر اليها بتقدير خاص وتدفعنا الى ربط كل كلمة وكل اشارة وكل تفصيل فيها بالصورة التي سيكون عليها تشي غيفارا لاحقاً. الاحساس بالصورة اللاحقة يتغلب على معرفتنا البديهية بأن كاتب اليوميات هو مجرد شاب قرر ذات يوم مع صديق له أن يقوما بهذه المغامرة. حتى غيفارا نفسه يعرف هذه الثنائية فيقول:"الشخص الذي كتب هذه اليوميات توفي لحظة لمست قدماه تراب الأرجنتين. الشخص الذي أعاد تبويبها وصقلها، أنا، لم يعد له وجود، على الأقل لست ذلك الشخص الذي كان". ولكن مشكلة القارئ أنه لا يستطيع نسيان العلاقة بين غيفارا الذي كان وغيفارا الذي سيكون. وهنا بالضبط تكمن الأهمية الأولى لهذه اليوميات التي، لو يكن غيفارا هو الذي دوّنها، تمكن قراءتها في شكل عادي أو حتى طرحها جانباً، فهي في النهاية مجرد يوميات لرحلة شابين كان واحد منهما لا يزال شخصاً مجهولاً وكان احتمال أن يظل كذلك وارداً لولا أن القدر قد رسم له أن يعاود الرحلة نفسها تقريباً ولكن باستعداد فكري وهدف كفاحي وتحرري بدل الاستمتاع بالمغامرة التي طبعت الرحلة الأولى، وذلك لأن"كل هذا التجوال هنا وهناك... غيّرني أكثر مما حسبت"باعتراف تشي نفسه، ولولا هذا لظل تشي، على الأرجح، مجرد طبيب عادي مثل شريكه البرتو غرانادو في الرحلة. لا يمكن للقارئ، في هذا المعنى، سوى أن يطالع اليوميات لا على انها تعود لشاب يدرس الطب قرر ذات يوم أن يعيش هذه المغامرة بل على انها ستؤول في ما بعد الى الصورة أو المكانة التي سيحتلها تشي في حركة التحرر العالمية. والحال أن هذا القارئ سينقب بين صفحات الكتاب عن أي اشارة تدل على هذا المآل والمكانة اللاحقة، وسيُهمل، من دون قصد، الصفحات التي تتعلق بالمغامرة فقط. وهذا ما يتحقق مرات عدة والسبب ان غيفارا، حتى وهو شاب، لا يغيب عن باله أن يلاحظ ويسجل ويحلل. اليوميات تدين، في أجزاء منها، لوعي مبكر بالمآسي التي تعيشها شعوب أميركا اللاتينية في ظل الديكتاتوريات. غيفارا الشاب هو مقدمة طبيعية لغيفارا اللاحق. انه، وهذا ما تريد اليوميات أن تقوله، ليس مجرد شاب أو مغامر عادي، وأن رحلته هذه يمكن اعتبارها بروفة لرحلة تالية وأكثر أهمية ستقوده الى الانخراط في الكفاح المسلح وحرب العصابات في سبيل الحرية، بحيث سيقتل في أدغال بوليفيا عام 1967 بعد ستة عشر عاماً على قيامه بالرحلة الأولى. ويبدو واضحاً أن تشي غيفارا حين كتب يوميات هذه المغامرة قام بتحويلها الى نوع من التجربة أو الاختبار، وهذا ما من شأنه أن يرفع من قيمة الرحلة ومن قيمة اليوميات في الوقت نفسه. وهكذا تتحول الرحلة الى تجربة ذاتية وموضوعية، بحيث تتدخل مشاهدات الناس ومقاربة أوضاعهم وتحسس الظلم الذي يعيشونه، بساطتهم ويأسهم ومآسيهم... يتدخل كل ذلك في صوغ وعي ما لدى تشي أو تضيف الى هذه الوعي النظري الجرعة الواقعية الملموسة لكي يكون مستعداً وراغباً في الممارسة، وهي ممارسة ستخلّد تشي نفسه لا بوصفه ثائراً ومقتولاً من أجل قضية انسانية سامية فحسب بل، وأيضاً، بوصفه صورة ومثالاً لأجيال شبابية قد تأخذ منه جانب الفتوة والجرأة والجاذبية والكاريزما وتترك جانب الفكر والنضال والثورة، أو قد تفعل العكس. تشي، على الأرجح، واحد من الشخصيات النادرة في التاريخ الحديث التي امتلكت صورة جذابة ولكنها تُرى من الأمام والخلف، من مكانته واسمه كثوري يساري قُتل قبل أن يكمل حلمه فصار أسطورة تشبه أساطير العشاق الذين لم تجمع بينهم أقدارهم، وأيضاً من صورته الجذابة بحسب الأجيال الشابة التي تجد فيه نوعاً من ستايل يفكرون به ويتماهون فيه. والحال ان تشي يعني أشياء ومعاني كثيرة وهذا، على الأرجح، سبب خلود قصته غير المكتملة وثورته غير المنجزة، ويحق للقارئ أن يسأل ماذا لو أن تشي عاش حتى يومنا هذا أو، على الأقل، لم يمت بتلك الطريقة وفي عز شبابه وحماسته. هل كانت نظرتنا اليه ستختلف؟ هل كان تقديره سيتغير؟ هل كان خلوده سيتعرض لامتحان آخر يخفت وهج اسطورته؟ يطالع القارئ اليوميات بطريقة مزدوجة. انه، تقريباً، مجبر على اتباع أسلوب ثنائي في قراءتها، فهو يدرك أنه يقرأ يوميات شاب مغامر ولكنها، في الوقت نفسه، ستسجل في ما بعد باسم تشي الأسطورة، والواقع ان في الكتاب مقاطع عدة تكفل للقارئ صوابية قراءته وجدواها. مقاطع وأسطر تكشف حساسية تشي الشاب في التقاط عصب ما يشاهده ويعاينه في الرحلة. يلتقط آلام الناس وفظاظة الحكومات والجنرالات، يتحسس روح البشر البسطاء، فنراه يصف ذلك ببراعة بعد أن يوافق ربان سفينة على سفرهما في الدرجة الأولى على أن يدفعا كلفة الدرجة الثالثة:"كنا ميالين للبحارة البسطاء أكثر من تلك الطبقة الوسطى... المربوطة بقوة الى ذكرى ما كانت عليه يوماً حتى تسمح لنفسها برفاهية التعامل مع رجال مفلسين. كان جهلها مطبقاً مثل أي انسان آخر، لكن الانتصارات الصغيرة التي حققتها في الحياة أدارت رؤوسها، وتقدم وجهات نظرها المملة بغطرسة أعظم لأنها قامت بنفسها بعرضها". هذه ليست وجهة نظر فحسب بل تتضمن تحليلاً اجتماعياً وطبقياً عميقاً، إضافة الى ان هذه الكلمات تكشف عن موهبة في الكتابة والتدوين، وهذا ما نراه في الصفحات التي يصف فيها تشي وسط مدينة ليما عاصمة البيرو:"الجزء الذي يستحق الوصف في ليما هو مركز المدينة الوحيد بكاتدرائيتها الرائعة المختلفة تماماً عن الثقل الوحشي لكاتدرائية كوزكو بحيث خلّد الغزاة أنفسهم بقسوة... ليما هي المثال الكامل لبيرو التي لم تتطور بعد ظروف الاستعمار الاقطاعية، وما زالت في انتظار دم ثورة التحرر الحقيقي". يجمع تشي هنا بين مهارة الوصف وعمق النظرة السياسية، ونجد هذه النظرة مبثوثة وموزعة في الكثير من الفصول والصفحات، ويتجاوز تشي في بعضها النظرة الى التخطيط والطموح بالتغيير فنراه يكتب:"ان تقسيم أميركا اللاتينية الى أمم غير مستقرة ووهمية هو خيالي تماماً. نحن نشكل عرقاً عجيناً واحداً يحمل من المكسيك الى مضائق ماجلان خواص اثنوغرافية فذة متشابهة".