مدينة جزين الجنوبية المسيحية السكان تقع خارج الحزام الامني الذي اقامته اسرائيل في جنوبلبنان بعد تنفيذها عملية الليطاني في العام 1978. لكنها تقع منذ انسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان بعد الاجتياح العسكري الواسع لمعظم أراضيه في العام 1982، تحت نفوذ اسرائيل الذي يمثله "جيش لبنانالجنوبي" المتعامل معها والخاضع لتوجيهاتها وأوامرها. وهذا الواقع يجعلها خارج سيطرة الشرعية اللبنانية على الرغم من وجود وحدات عسكرية نظامية فيها تابعة للجيش وقوى الامن اللبنانيين وعلى الرغم من امتناع القوات الاسرائيلية عن دخولها مكتفية بتحريك عناصر مخابراتها في هذه المدينة. وتعاني جزين اليوم مشكلة بعدما فجرت "المقاومة الاسلامية" بضع عبوات على عدد من طرقاتها ما ادى الى سقوط عدد من المدنيين قتلى وجرحى تعتبر المقاومة بعضهم عملاء لإسرائيل وعاملين في "جيش لبنانالجنوبي"، في حين يشكك قسم من اهالي المدينة في هذه الرواية، ويرى فريق آخر ان اخذ البريء بجريرة المذنب امر لا يجوز شرعاً وقانوناً. وهذا ما جرى في رأيه في جزين اخيرا وما يجري فيها منذ زمن. وقد اثار التفجير بما أسقط من ضحايا ردود فعل سياسية وشعبية سلبية، اذ اعلن اهالي جزين الاضراب احتجاجاً وقام نوابها وفاعلياتها بتحرك واسع في اتجاه رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب طالبوا فيه بالضغط لمنع هذا النوع من العمليات الذي يطال المدنيين، معتبرين ان استمراره قد يؤدي الى تهجير البقية الباقية من سكان جزين واستيلاء الآخرين على اراضيها، سواء بالقوة او بأسعار بخسة. هل من تفسير لما حصل في جزين من فعل ورد فعل خارج اطار التفسير الرسمي الذي اعطته المقاومة وقيادات جزين للحادث؟ يعتقد بعض المصادر السياسية بأن المسار التفاوضي اللبناني - الاسرائيلي الذي جمده تعثر المفاوضات وتالياً توقفها على المسار السوري - الاسرائيلي قبل اكثر من سنة لن يبقى على جموده الراهن، لأن المعلومات تشير في وضوح الى ان مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الاميركية منذ بدء الولاية الثانية للرئيس بيل كلينتون تنظر بنوع من العطف الى مشروع "لبنان أولاً" الذي طرحه بصورة غير مباشرة رئيس حكومة التحالف المتدين والمتطرف في اسرائيل بنيامين نتانياهو. وتعتقد بأن من شأنه في حال سلوكه طريق النجاح تأمين اهداف عدة في وقت واحد: أولها انسحاب اسرائيل من الاراضي التي تحتل في لبنان. وثانيها اضطرار السلطة اللبنانية الى وقف المقاومة العسكرية غير النظامية للاحتلال الاسرائيلي التي يشكل "حزب الله" الاسلامي الاصولي عمودها الفقري لها واضطرارها في الوقت نفسه الى نزع سلاحه. وثالثها افقاد ايران ورقة ضغط مهمة على سير الاحداث في الشرق الاوسط هي "حزب الله" والتيارات الاسلامية الاصولية التي تدعمه، ما يزيد من احتمالات نجاح السياسة الاميركية العاملة على عزل ايران. ورابعها انتزاع ورقة مهمة من سورية تستعملها للتأثير في المنطقة لإبقاء الوضع اللبناني مطواعاً لها وتوظيفه في استراتيجيتها الاقليمية. وهذا من شأنه ان يشدد العزلة عليها وأن يقلل من خطرها الاقليمي وقد يدفعها مستقبلاً الى التخفيف من شروطها مما يسهل نجاح عملية السلام. حساسيات طائفية ولن يكون في مقدور سورية، حسب رأي اولبرايت، خربطة الوضع اللبناني او التهديد بذلك اذا تجاوبت الحكومة اللبنانية مع الطرح الاميركي - الاسرائيلي، وذلك لسببين اثنين: الاول قدرة الجيش اللبناني على "ضبط الامور لا سيما اذا نفذ الجيش السوري العامل في لبنان عملية اعادة انتشار تجعل وجوده مقصوراً على البقاع كما ورد في اتفاق الطائف العام 1989. والثاني استعداد الولاياتالمتحدة لاستعمال الحزم مع سورية لإقناعها بعدم خربطة الاوضاع في لبنان. هذه المعلومات، كما يشير بعض المصادر السياسية المطلعة يعرفها الكثيرون في لبنان. وقد تكون دفعت في اتجاه الفعل وفي اتجاه رد الفعل في الوقت نفسه، ذلك ان العودة الى عدم التمييز بين "العملاء" والمدنيين والعودة الى الضرب في مناطق حساسة ذات اكثرية طائفية معينة من شأنهما ان تثيرا حساسيات طائفية، وهذا ما حصل في صورة غير مباشرة، وان تحدثا بلبلة الامر الذي يحول دون اقدام الحكومة على اي تجاوب مع "لبنان اولاً" حرصاً على الوحدة الوطنية في الداخل. كما ان رد الفعل السياسي والشعبي الكبير، لا سيما عند المسيحيين، على ما جرى في جزين وفي جوارها قد يكون مؤشراً الى معرفة بعض اصحابه بما يخطط له وعلى اعتزامه المساعدة في انجاحه بردود فعل واسعة تفرض البحث في الموضوع اللبناني مع اسرائيل بمعزل عن سورية. الا ان المصادر الديبلوماسية الغربية المطلعة لا تبدو مقتنعة كثيراً بمعلومات المصادر السياسية المطلعة المذكورة وباستنتاجاتها. فمعلوماتها تشير الى ان الكثيرين في واشنطن كما في اسرائيل وفي غيرهما من العواصم الدولية يرفضون الاعتراف بوجود مشروع رسمي اسرائيلي او اسرائيلي - اميركي يدعو الى حل للمشكلة الاسرائيلية - اللبنانية قبل التوصل الى حل للمشكلة السورية - الاسرائيلية. لكنهم يقولون ان بحثاً في الموضوع اللبناني جرى على اكثر من مستوى بين تل ابيب وواشنطن وعواصم اخرى وانطلق من رغبة اسرائيل بعدما تسلم الحكم فيها تكتل "الليكود"، في وقف اعمال المقاومة التي يشنها ضد قواتها "حزب الله" الاسلامي الاصولي وجهات لبنانية اخرى، خصوصاً بعد اتساع نطاقها وتكاثر ضحاياها الاسرائيليين. القرار المنسي وقد اقترح بعضهم في العاصمتين مبادرة اسرائيل الى تنفيذ القرار الدولي الرقم 425 الذي يتمسك به لبنان، لأن من شأنه وقف المقاومة ووقف الخسائر في الجيش الاسرائيلي وزوال التهديد عن سكان المناطق الشمالية في اسرائيل. لكن رد اسرائيل لم يكن مشجعاً، اذ قالت ان القرار الرقم 425 لا ينص على انسحاب كامل وغير مشروط من الاراضي المحتلة في لبنان. وهذا الامر يبقي التهديدات قائمة ومعها المخاوف، كما يبقي الآفاق مفتوحة امام استمرار المقاومة. وقد قيل لها ان هناك ميلاً عند كثيرين من ابناء المنطقة، وربما في العالم، الى نسيان قرار دولي آخر يحمل الرقم 426 وهو ينص على التفاهم على ترتيبات واجراءات تؤمن حصول انسحاب اسرائيل وتحول دون خلق ظروف تسمح بعودة العمليات ضدها مستقبلاً. وعندما تساءلت عن الآلية الواجب توافرها لاطلاق "لبنان اولاً"، وعن الجهة التي يفترض ان تضعها وان تقنع اللبنانيين وحلفاءهم السوريين بها، قيل لها ان الولاياتالمتحدة هي التي يفترض ان تتولى الامر كله وسرعان ما طويت صفحة المشروع. وتفيد المصادر الديبلوماسية الغربية ان اسرائيل لم تكن اصلاً متحمسة لمشروع من نوع "لبنان اولاً"، وأن هدفها منه كان الضغط على سورية عبر بلبلة الوضع الداخلي في لبنان، ويعود ذلك الى اعتبارات كثيرة، منها ثقتها بعجز لبنان عن السير فيه منفرداً من دون تغطية سورية. ومنها ايضاً اقتناعها بأن حل المشكلة مع سورية هو الذي يؤدي الى حل المشكلة مع لبنان وليس العكس، وان تفجير الأوضاع في لبنان يحرج دمشق وقد يدفعها الى مواقف وربما الى اعمال تضطر المجتمع الدولي الى التحرك ووضع يده مجدداً على عملية السلام. وهذا لا يلائم مصلحة اسرائيل من وجهة نظر حكومتها الحالية، وقد يقودها الى مواقف غير مسحوبة. وتشير معلومات المصادر ذاتها اخيراً الى ان الولاياتالمتحدة لن تخطو اي خطوة في الموضوع اللبناني - الاسرائيلي في حال استمر جمود المسار السوري - الاسرائيلي، وهو سيستمر سنوات لان نتانياهو يعتقد بأن الزمن كفيل بحل مشكلته مع سورية لمصلحة اسرائيل. ويعتقد ايضاً بأن الاولوية هي للموضوع الفلسطيني الذي يضغط العالم وقسم كبير من الاسرائيليين لإيجاد حل له. وهو في هذا المجال يتنازعه موقفان. الاول ايديولوجي، وجوهره ترك الموضوع الفلسطيني للزمن بحيث يتمكن مع الوقت وبفعل الامر الواقع من انهاء فكرة الكيان الفلسطيني. والثاني براغماتي عملي جوهره اعطاء الفلسطيني الحد الادنى من الحقوق ضمن كيان يتمتع بالحكم الذاتي وذلك بالحاح من المجتمع الدولي بزعامة الولاياتالمتحدة. وحتى الآن لم يحسم نتانياهو خياره بين هذين الموقفين، علماً ان الاستمرار في عدم الحسم يدفعه عملياً في اتجاه اعتماد الخيار الاول. اما واشنطن فتحاول في هذا المجال مساعدته لتبني الخيار الثاني. وفي هذا الاطار تضع المصادر الديبلوماسية الغربية المطلعة الافكار التي رفعتها مجموعة من الاكاديميين والمفكرين الاميركيين، وبعضهم يهود، الى الادارة الاميركية لتحريك المسار الفلسطيني - الاسرائيلي من اجل انقاذ عملية السلام من الانهيار. قمة في واشنطن وتقضي هذه الافكار بعقد قمة في واشنطن بين نتانياهو وياسر عرفات في حضور الرئيس كلينتون، وربما في حضور زعماء عرب آخرين، يكون هدفها الاتفاق على اعلان مبادىء جديد يحدد الخطوط الاساسية للحل النهائي مع الفلسطينيين. ويفترض في هذه القمة التأسيس لجولة تفاوض هدفها التوصل الى تفاهم على المواضيع الباقية من دون حل وعلى الخطوات التي يقود تطبيقها الى التسوية النهائية وابرز المبادئ التي يفترض ان يتضمنها الاعلان، إذا سار كل شيء على ما يرام، هو الآتي: 1 - ضمان ان تؤدي المفاوضات حول الوضع النهائي للاراضي المحتلة الى قيام دولة في غزة ومعظم الضفة الغربية. 2 - حصول اسرائيل على ضمانات بأن الدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح. وعلى حقها في نقض فيتو أي تحالفات عسكرية بين الفلسطينيين ودول اخرى وعلى ضمان اتخاذ اجراءات محددة ضد الارهاب. 3 - تفاهم جغرافي قاعدته حصول الفلسطيني على حد أدنى من السيادة على معظم اراضي الضفة مع احتفاظ اسرائيل بمهمة امن المستوطنات اليهودية. 4 - ترك موضوع القدس بسبب صعوبته السياسية الى ما بعد حل المشاكل الاخرى كلها. وهذا لا يعني ان حصيلة التفاوض في شأنها ستؤدي الى تقسيمها مجدداً بل يفترض ان تؤدي الى تفاهم على حقوق الجميع فيها. وهذا يعني وقف اي خطوات منفردة فيها. مع الاشارة الى ان بعض معدّي هذه الافكار اقترح عدم تأجيل التفاوض على القدس مشترطاً قبول الفلسطينيين بسيادة اسرائيل عليها في مقابل قبول اسرائيل بدولة فلسطينية. 5 - انشاء صندوق دولي لحل مسألة اللاجئين الفلسطينيين واليهود من الدول العربية. وتقديم ضمانات للمستثمرين لإنعاش الاقتصاد الفلسطيني. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: اذا لم يكن "لبنان اولاً" قد اثار موضوع جزين مباشرة او مداورة فما هو الذي اثاره؟ تعتقد مصادر سياسية لبنانية ان للخلاف الناشب بين الشيخ صبحي الطفيلي مؤسس "حزب الله" والامين العام السابق له والقيادة الحالية للحزب برئاسة السيد حسن نصرالله اثراً كبيراً في ما جرى في جزين اخيراً. فالطفيلي دعا الى "ثورة الجياع" في عاشوراء اي قبل اسابيع وقرر 4 تموز يوليو المقبل موعداً لها ودعا اصحابها الى الزحف على الدور والقصور احتجاجاً على اهمال السلطة لهم وعلى عدم تأمينها لهم الحد الادنى من الحياة اللائقة. و"حزب الله" توجس من هذا التحرك لأن من أسبابه كما قيل فضلاً عن احتضان الطفيلي هموم الناس وهو قريب منهم، رغبته في تصفية الحسابات مع قيادة الحزب التي اهملته بعدما رفض الاشتراك في الانتخابات النيابية العام 1992، واستمر اهمالها له في انتخابات العام 1996 وحتى اليوم. وقيل ان من اسباب رفض قيادة الحزب التجاوب مع دعوة الطفيلي الاخيرة خوفها من ان تؤدي مضاعفاتها الى اضعاف قدرة المقاومة ضد اسرائيل، ويعتقد بعض المصادر السياسية ان الشيخ الطفيلي اربك الحزب بتحركه لأن له احتراماً واسعاً في اوساط نخبة مقاتليه ولأنه بتحركه ايقظ نعرة اقليمية بين جنوبييه وبقاعييه قد تضر الحزب، وربما تؤثر في عمله المقاوم. وهذا ما اضطره الى التحرك في مناطق خلفية للايحاء بأنه مستمر في المقاومة وبأن احداً لا يؤثر على حركته فحصل تفجير السيارات على طريق جزين. طبعاً لا يمكن الجزم بأن الخلاف بين الطفيلي و"حزب الله" هو وراء ما حصل في جزين، لكن تداول الموضوع يتم همساً، ولا بد من متابعته لمعرفة الحقيقة من خلال رصد التطورات. وفي اي حال سيبقى لبنان غير مرتاح، كما تقول المصادر الديبلوماسية الغربية، فجمود مساره التفاوضي لا يعني على الاطلاق توقف المقاومة وتوقف الاعتداءات الاسرائيلية. ومن شأن ذلك اخضاعه لحروب من نوع جديد هي اقل من حرب تقليدية شاملة واكثر من ضربة قوية او من حملة تطهير. وطبيعي ان ينعكس ذلك سلباً سواء على استقراره السياسي او الامني الى ان يقضي الله امراً كان مفعولا .