ينذر النزاع بين السودان واريتريا بالتحول نزاعاً ذا أبعاد شخصية، كما هي حال الخصومة بين قادة الجبهة الإسلامية القومية التي تحكم السودان تحت اسم "ثورة الإنقاذ الوطني" وبين زعماء القوى السياسية المعارضة. وبعد تحالف وثيق بين الجبهة التي يتزعمها الدكتور حسن الترابي والثوار الاريتريين بزعامة الرئيس أسياس أفورقي قطعت اريتريا علاقاتها الديبلوماسية مع الخرطوم، وحشد كل من الجانبين في أرضه القوى المعارضة للجانب الآخر. وفي ذروة التوتر في العلاقات الثنائية اتهمت أسمرا مواطناً سودانياً بأنه عميل لجهاز الأمن السوداني كلِّف تنفيذ مخطط لاغتيال الرئيس الاريتري. وتحدّت الخرطوم اريتريا أن تحاكم المتهم علناً وبحضور مراقبين دوليين. ونفت أن يكون النقيب نصرالدين بابكر أبا الخيرات 32 عاماً مسجلاً في لوائح ضباط القوات المسلحة. وكانت اريتريا ذكرت أن ابا الخيرات يعمل ضابطاً في جهاز الأمن برتبة نقيب. وتفيد معلومات حصلت عليها "الوسط" بأن أبا الخيرات التحق بعد تسلله من السودان بتنظيم "قوات التحالف السودانية" الذي يتزعمه العميد عبدالعزيز خالد عثمان أبو خالد وكان يتخذ أسمرا مقراً له قبل أن ينقل مقره إلى مدن وبلدات سودانية يسيطر عليها في شرق السودان، أبرزها مدينة قرورة. وفي المعلومات أن اريتريا تحتجز ستة مواطنين سودانيين بتهمة العمالة لجهاز الأمن السوداني الذي تديره الجبهة الإسلامية القومية. وهي معلومات أكدها مصدر رفيع المستوى في الجبهة الشعبية للديموقراطية والعدالة التي تحكم اريتريا. لكن لم يتضح ان كانوا سيقدمون إلى محاكمة. لا دخان بلا نار ظلت حكومة الجبهة الإسلامية القومية طوال الأسابيع الثلاثة الماضية تتحدث عن حشود اريترية قبالة الحدود بين البلدين. وتعمد التلفزيون الحكومي في أم درمان غرب الخرطوم بث مشاهد مطولة لبدء تدريب طلبة المدارس الثانوية عسكرياً في ولاية القضارف المجاورة لأريتريا، وذلك في مستهل حملة لتجنيد 163 ألف طالب بينهم 80 ألف طالبة لمدة ستة أشهر قبل السماح لهم بدخول الجامعات السودانية. كل ذلك في إطار التحذيرات السودانية لأريتريا. ويعتقد الاريتريون ان التلويح بهجوم اريتري محتمل ينم عن إدراك السلطات السودانية أن لا دخان بلا نار. فقد أقر النقيب أبا الخيرات بأن مسؤولي جهاز الأمن السوداني اتفقوا معه على أن ينفذ عملية الاغتيال في موعد أقصاه نهاية نيسان ابريل 1997 وإذا لم يعد إلى السودان بحلول 10 أيار مايو فستعتبره السلطات السودانية في عداد المفقودين. وكان ملاحظاً ان الخرطوم بدأت اعتباراً من 10 أيار حملة إعلامية في شأن حشود اريترية وهجوم مرتقب ضد السودان. ويبدو أن ذلك تم تحت وطأة الارتباك الناجم عن عدم معرفة ما حاق بالضابط السوداني المذكور: هل وقع في الأسر؟ هل تمت تصفيته جدياً؟ وقال السيد عبدالله جابر مسؤول شؤون التنظيم في الجبهة الشعبية للديموقراطية والعدالة الحاكمة في اريتريا ويعد عملياً الرجل الثالث في قيادة الجبهة ل "الوسط" ان الحملة الاعلامية السودانية بدأت بحديث لوزير الاعلام الناطق الرسمي باسم الحكومة السودانية العميد الطيب إبراهيم محمد خير أعلن فيه "إحباط مؤامرة تخريبية" اتهم اريتريا بالوقوف وراءها. وسألته "الوسط": ألا يمثل الدعم الاريتري المعلن للمعارضة السودانية سبباً كافياً للاتهامات السودانية؟ فأجاب جابر: "نحن لنا موقف واضح ومعلن من المعارضة السودانية، فهي موجودة على الحدود وداخل الأراضي السودانية في المناطق التي حررتها قواتها. وقد وصلت المعارضة السودانية إلى مرحلة متقدمة في كفاحها المسلح ولم تعد مجرد جماعات تقوم بعمليات حرب عصابات. ولديها هناك قواعد ثابتة وليست متحركة وباتت تهدد الشريان الرئيسي للحياة الاقتصادية في البلاد وهو طريق بورتسودان - الخرطوم". وأضاف: "ان ارسال أبا الخيرات مرتبط بالتقدم الذي حققته قوات المعارضة، وهو أمر تعرفه الخرطوم جيداً وتدرك أنها لن تستطيع تغييره ما لم يحصل تغيير في اريتريا. ولذلك عقدوا العزم على اغتيال رئيس دولة اريتريا لأنهم يعتبرونه العقل المدبر لنجاحات المعارضة السودانية". ومع ذلك يتمسك الاريتريون بأنهم لن يغلقوا حدودهم مع السودان على رغم إقدام السلطات السودانية على اغلاقها خلال الفترة التي تقول أسمرا إن الخرطوم حددتها لعميلها للقيام باغتيال أفورقي. وذكر مسؤولون أمنيون اريتريون ل "الوسط" ان المعتقلين الستة من الجالية السودانية في اريتريا يمثلون أكبر دليل على المحاولات السودانية المستمرة لاختراق اريتريا والمعارضة السودانية. وعادة ما يتم تسريب العميل السوداني تحت اطار مزاولة نشاط تجاري بين البلدين. ويبدو - حسب تقويم أسمرا - ان الخرطوم رأت تكليف أبا الخيرات وحده اغتيال افورقي لأنها تجد صعوبة في تمرير عمليات التسلل بسبب عدم سماح اريتريا لأي منظمة إغاثة إسلامية بمزاولة نشاطها في أراضيها. وكان خبراء أمنيون أكدوا سابقاً ان الجبهة الإسلامية السودانية تعتمد عادة على منظماتها الخيرية والاغاثية للقيام بمهمات الاستخبارات. وذكروا أن تلك المنظمات استخدمت غطاء لتنفيذ محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا صيف 1995. ويأتي هذا التوتر الشديد في العلاقات بين اريتريا والسودان إثر علاقات وثيقة للغاية بين الجبهة الإسلامية القومية وحكومتها من جهة، وبين الثوار الاريتريين والاثيوبيين من الجهة الأخرى. وعندما نجح الاريتريون والاثيوبيون في اسقاط نظام الرئيس الاثيوبي منغستو هايلي مريام العام 1991، بدأت دوائر عدة في الغرب والمنطقة تحذر من ان الترابي ربما أرسى بذلك دعائم امبراطورية يحلم ان تعم افريقيا كلها. والواقع ان افورقي كان حليفاً لجبهة الترابي. وقد دعمت الجبهة الثوار الاريتريين دعماً ملموساً وغير مشروط ابان كفاحهم من اجل الاستقلال. وكان موقفها حيالهم اوضح كثيراً من موقف الحزبين الكبيرين في السودان الأمة والاتحادي الديموقراطي. وسمحت حكومة الجبهة في العام 1990 للجبهة الشعبية لتحرير اريتريا بزعامة أفورقي بنقل لواءين من مقاتليها الى السودان حيث منحوا اذناً بالعبور الى مدينة الكرمك في جنوب شرقي السودان، ومنها عبروا الى أصوص كبرى مدن الغرب الاثيوبي حيث تمكنوا من قصف اثيوبيا في عمق أراضيها. ولم تكن الجبهة الاسلامية القومية مجرد فاعل خير في ما قدمته من تسهيلات للأريتريين والاثيوبيين. فقد كانت حانقة على نظام الرئيس منغستو لسماحه لقوات "الجيش الشعبي لتحرير السودان" التي يتزعمها العقيد جون قرنق باستخدام اثيوبيا قاعدة لمهاجمة الأراضي السودانية. وعندما عبرت القوات الاريترية المشار اليها مدينة الكرمك قاصدة أصوص اعترضتها قوات العقيد قرنق ودارت معركة حامية بين الجانبين اسفرت عن سحق المتمردين السودانيين الذين اضطروا الى الانسحاب من اثيوبيا نهائياً بعد سقوط النظام السابق. وكان ابعاد قرنق ورجاله اول ثمن قبضه السودانيون من حلفائهم الاثيوبيين سابقا بعد سيطرتهم على أديس ابابا. غير ان الخرطوم عكفت في الوقت نفسه على فتح المنازل الحكومية في كسلا وخشم القربة والقضارف لتدريب مقاتلي تنظيم الجهاد الاريتري. وعندما كانت العلاقات السودانية - الاريترية في ذروة تحسنها بدأت اسمرا تنذر وتحذر من مغبة احتضان جماعة الجهاد. ويقول عبدالله جابر: "ناقشنا ذلك مع قادة الجبهة الاسلامية لكن كان واضحاً ان لديهم استراتيجية اخرى وبنوداً خفية وكانوا يريدون التعامل معنا بشكل تكتيكي الى حين تحقيق مراميهم الكبرى". وبقي تنظيم الجهاد نشطاً داخل الأراضي الاريترية حتى منتصف العام الماضي 1996. وتقول اسمرا ان عناصر الجهاد كانت تستعين بمتشددين سودانيين ومصريين وفلسطينيين وجزائريين وتونسيين وإيرانيين في تنفيذ عملياتها التخريبية. وادى ذلك كله الى اقدام اريتريا على قطع علاقاتها الديبلوماسية مع الخرطوم بعدما اعتبرت سماح النظام لتلك العناصر بمهاجمة الاراضي الاريترية بمثابة "اعلان حرب" على اريتريا". غير ان قرار القيادة الاريترية نشر وحدات الجيش في جميع مناطق الحدود بين السودان واريتريا ادى الى توقف عمليات تسلل عناصر الجهاد والحيلولة دون قيامها بزرع الغام او تفجير منشآت اريترية منذ اكثر من 11 شهراً. هل يعني ذلك عملياً ان احتمالات تحسّن العلاقات او المصالحة بين اسمرا والخرطوم باتت معدومة؟ يعتقد المراقبون في القرن الافريقي انها لم تعد موجودة مطلقاً الا اذا كانت الخرطوم ستغيّر سياساتها تغييراً جذرياً، وهو احتمال غير وارد البتة، بالنظر الى التشدد الذي عُرف به الدكتور الترابي. السؤال نفسه طُرح على مسؤول اريتري مع اشارة الى ان العلاقات بين السودان وكل من ليبيا وتشاد لم تشهد قطيعة مماثلة للتي بين السودان واريتريا، فقال: "تحاول الجبهة الاسلامية القومية بيع أكاذيبها للعقيد معمر القذافي، فهي تدّعي امامه ان ثمة انقساماً بين جناح عسكري يتزعمه الفريق عمر البشير وآخر سياسي يتزعمه الترابي. ويتردد كثيراً ان البشير سيتحرك لحسم الوضع ويفرض على الترابي التقاعد بدعوى تقدم سنّه. "لكن اريتريا تعتقد ان كل ذلك بلا اساس وان الترابي هو الرأس المدبّر لكل ما يحصل في الخرطوم ومنها. وكل ما يتردد على لسان الليبيين من وجود تيار قومي وآخر اسلامي متطرف في القيادة السودانية ليس سوى مناورة تؤديها الجبهة الاسلامية القومية". وزاد ان اسمرا تملك معلومات تفيد بأن نظام الرئيس التشادي ادريس ديبي ليس حليفاً للخرطوم كما كان يعتقد سابقاً، وبأن جماعات تشادية موالية للنظام السوداني تحركت اخيراً نحو الحكومة في نجامينا. وهي معلومات اكدتها ل "الوسط" عناصر سودانية معارضة من غرب السودان المتاخم لتشاد. وخلص المسؤول الاريتري الى ان الرئيس ديبي ليس اسلاميّ التوجّه، "هم جماعة الترابي هدفهم عناصر وانظمة موالية لهم وهو أمر يدركه الرئيس التشادي جيداً". وكانت نجامينا فرضت بعد انتخابات الرئاسة الاخيرة قيوداً على نشاط الجمعيات الخيرية الاسلامية التي يُعتقد ان النظام السوداني يرعاها. لكن هل سيكون احباط محاولة اغتيال افورقي آخر محاولات النظام السوداني لاختراق جارته الشرقية؟ السلطات الاريترية مقتنعة بأن محاولة النقيب أبا الخيرات "ليست سوى البداية" على حدّ تعبير مسؤول التنظيم في الجبهة الشعبية الحاكمة عبدالله جابر. الذي أضاف ان ابا الخيرات اوضح في اعترافاته ان تسلله جاء في نطاق مجموعة من عناصر جهاز الامن السوداني تضم 34 شخصاً آخر. ويعتقد ان عدداً منهم التحق بعضوية "قوات التحالف السودانية"، فيما انضم آخرون الى قوات فصائل اخرى معارضة. وقال جابر: "لا شك في ان مجموعات اخرى ستأتي" .