الاجتهاد هو المصدر الرابع من مصادر التشريع الإسلامي بعد الكتاب والسنة والإجماع. وهو المنوط به استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها اليقينية. وله أسماء عدة. الأعم، الاجتهاد أو القياس، والأخص دليل العقل أو الاستصحاب أو الاستحسان أو المصالح المرسلة. وتعريفه الاصطلاحي "تَعْدِيَةُ الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة". فالأصل هو النص القرآني أو السنة النبوية، والفرع هي الواقعة الجديدة التي تتطلب حكماً. والعلة هو العنصر المشترك بين الأصل والفرع، والحكم هو التحليل أو التحريم، الكراهة أو الندب أو الإباحة. وبهذا المعنى تكون الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، فالنصوص متناهية والوقائع غير متناهية، والاجتهاد هو القادر على استنباط الاحكام من النصوص المتناهية إلى الوقائع اللامتناهية. وبهذه الطريقة جمع المنهج الإسلامي بين العقل والتجربة، بين الاستنباط والاستقراء. فالعقل يستنبط العلة والحكم من الاصل أي النص، والتجربة تستقرئ العلة من الفرع أي الواقعة بالتجربة. وقد ظهرت هذه الروح أيضا في القرآن الكريم في الدعوة إلى إعمال العقل وطلب البرهان. وفي الوقت نفسه النظر في الواقع والقيام بالتجارب العملية كما كسر إبراهيم الأصنام متحديا قومه بأن تجيب، وبطلبه بالبرهان التجريبي على قدرة الله. واستمرت هذه الروح في شتى العلوم الإسلامية، فالفلسفة التي اعتبرت المنطق آلة العلوم، وعند الحكماء الأطباء باعتمادهم على التجريب لمعرفة قوانين الطبيعة. وظهرت في علم الكلام في تحليل الأدلة العقلية بحيث شمل العقل الحس والتجربة الباطنية والخارجية. كما ظهرت في التصوف الذي جمع في منهج الذوق بين العقل والتجربة الروحية. وفي حديث المجددين، تأكيد على حق الاجتهاد والفهم بناء على متغيرات كل عصر وظروفه. لذلك قال بعض الاصوليين إن إجماع العصر السابق ليس بالضرورة ملزما لإجماع العصر اللاحق نظرا لتغير الظروف والأحوال. وكل عصر أدرى باحتياجاته وبمصالحه. وهذا هو السبب في نقد القرآن للتقليد وللمقلدين، "إنا وجدنا آباءنا على أُمّة وإنا على آثارهم مقتدون". فالتقليد ليس مصدرا للعلم. وبفضل حق الاجتهاد وضرورته يمكن درأ الشبهات التي تقال حول الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين، لأنه لا يتفق في بعض جوانب الشريعة مع رفع العصر وحقوق الإنسان والنظم الديموقراطية. كما يمكن الوقوف في مواجهة التغريب وإنجذاب الشباب نحو الايديولوجيات الغربية للتحديث، الرأسمالية والاشتراكية والقومية والماركسية، يجدون فيها ما لا يجدون في تراثهم. وقد وضع القدماء شرطين أساسيين للاجتهاد: العلم بقواعد اللغة العربية، والعلم بأسباب النزول. وذلك لأن الاصل مكتوب باللغة العربية. والحكم فيه نزل في واقعة محددة تستلزم معرفتها. كما قال الاصوليون: خصوص السبب وعموم الحكم. ويمكن اضافة الناسخ والمنسوخ وباقي المبادئ اللغوية مثل الظاهر والمؤول، والحقيقة والمجازة والمؤول، والحقيقة والمجازة والحكم والمتشابه، والمجمل والمبين لمعرفة تطور الحكم في زمان الشريعة، والأبعاد الجمالية والفروق الفردية للبشر. كما يمكن ان يضاف إليها بعض الشروط لمعرفة الفرع أي الواقعة الجديدة. مثل العلم بمصالح المسلمين وأحوال الأمة، أرضا وثروات، زراعة وصناعة، موارد وتنمية حتى يحقق الاجتهاد غايته في استنباط احكام جديدة تتفق مع روح العصر ومصالح الناس المتغيرة. ومن ثم كان تراث المسلمين السابق والمستمر عبر الاجيال الماضية والجيل الحالي والاجيال المقبلة من إبداع المسلمين واجتهاداتهم. يخطئ ويصيب: فلا عصمة إلا للكتاب والسنة الصحيحة. وما دون ذلك فهو من اجتهاد البشر. هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم. الكل راد والكل مردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثوابت قائمة، وهي ما علم من الدين بالضرورة، وفهمها متغير بتغير الأزمان والأحوال والثقافات والعصور ومستويات الفهم بين العامة والخاصة. حق الاجتهاد هو السبيل الى استئناف الحضارة الاسلامية وعلومها بعد ان توقف معظمها منذ القرن السابع الهجري، وتم تكرارها وشرحها وتلخيصها إبان العصر المملوكي العثماني وحتى قبيل فجر حركة الاصلاح الديني الحديث عند الافغاني ومحمد عبده وإقبال والكواكبي وعلال الفاسي وسيد قطب. حق الاجتهاد قادر على استئناف الحركة الاصلاحية بعد أن كتب لظروف تاريخية، فشل الثورة العرابية التي جعلت محمد عبده متراجعا عنها، والثورة الكمالية في تركيا التي جعلت رشيد رضا سلفيا، والصراع بين الإخوان والثورة التي جعلت سيد قطب يتحول من "العدالة الاجتماعية في الإسلام" إلى "معالم في الطريق" . * كاتب ومفكر مصري