تلقّى المسلمون الأحكام الشرعية من النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حياته، حين كان يُوحى إليه القرآن الكريم. وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبيّن الأحكام "بقولِهِ وفِعلِهِ بخطابٍ شِفاهيٍّ لا يحتاج إلى نقلٍ، ولا إلى نظرٍ وقياسٍ. ومِنْ بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم تعذّر الخِطاب الشِّفاهي. وانحفظَ القرآن الكريم بالتواتُر. وأما السُّنة فأجمع الصحابة - رضوانُ اللهِ تعالى عليهم - على وُجُوبِ العملِ بما يصِلُ إلينا منها قولاً أو فعلاً بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظَّنِّ صدقُهُ. وتعيّنت دلالةُ الشرع في الكتاب والسنة بهذا الاعتبار. ثم يُنَزَّلُ الإجماعُ مَنْزِلَتَهما" لإجماعِ الصحابة على النكير على مُخالفيهم. ولا يكون ذلك - الإجماع - إلاّ عن مُسْتَنَدٍ ... فصار الإجماع دليلاً ثابتاً في الشرعيات ... ورابع الأدلة القياس". مقدمة ابن خلدون ص 452-453. كان استنباطُ الأحكام الشرعية سهلاً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، اذ كان الوحي متواصلاً واجتهاد الرسول مستمراً، والشورى مع الصحابة قائمة. ولما رحل صلى الله عليه وسلم اعتمد الصحابة على نصوص القرآن والسنة وكانوا على مستوى عالٍ من الفهم لتلك النصوص. وكانوا يحفظونها. ولذلك لم يحتاجوا إلى كتابتها في كتب مستقلة. بعدما انقضى عصر الصحابة، وتوسعت رقعة الدولة الإسلامية، واختلط العرب بالعجم واعتنق الاسلام مَنْ لا يعرف العربية، وتحولت العلوم من المشافهة إلى الصناعة الكتابية - بعد ذلك -" احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل القوانين اللسانية، أي علوم النحو والتصريف والبيان كما احتاجوا إلى تحصيل القواعد الفقهية التي أصَّلَها أهلُ الاجتهاد من الصحابة والتابعين. واحتاجوا ايضاً إلى معرفة الصحيحِ من السُّنة وذلك بالنظرِ في "طُرُقِ النقلِ، وعدالةِ الناقلين" لتمييز الحالة المُحَصِّلَةِ للظنِّ بصدقِهِ الذي هو مَناطُ وجُوبِ العمل. وهذه أيضاً من قواعد الفن - الأصولي - ويُلْحقُ بذلك - عند التعارُض بين الخبرين، وطلب المتقدِّم منهما - معرفة الناسخ والمنسوخ ... ثم يتعين بعد ذلك النظر في دلالة الألفاظ..." ابن خلدون - المقدمة ص 453-454. بعدما حصل ما حصل تصدى العلماء إلى تدوين علم أصول الفقه شأنهم في ذلك شأن العلماء الذين دونوا علم العروض، وعلوم النحو والبلاغة التي لم تكن مدونة من قبل. وأضاف العلماء اللاحقون إلى ما كتبه السابقون أموراً أخرى احتاجوا إليها - بينما لم تكن ضرورية عند السابقين. وأسفرت جهود علماء أصول الفقه الاسلامي عن تدوين كل ما يحتاج إليه الأصولي من العلوم التي تساعدُهُ على استنباط الأحكام الشرعية. تنوعت الكتابات الأصولية خلال السبعمئة سنة الأولى من الهجرة، واختلفت طُرُقُ الكتابة. ثم بدأت جُهود الجمعِ بين الطُّرُق فأسفرت عن الجمع بين طُرُق المتقدمين في طريقة واحدة دوّنها ابن الساعاتي في كتابه بديع النظام الذي "جاء من أحسن الأوضاعِ وأبدَعِها" ابن خلدون - المقدمة ص 456. وبعد القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي سار معظم علماء أصول الفقه على منهاج ابن الساعاتي. واستقرت مواد علم أصول الفقه على إيضاح ما يلزم للأصولي من علوم ووسائل كي يتمكن من استنباط الاحكام الشرعية التي تناسب القضايا الطارئة التي يَتطلبها تطور الحياة الانسانية بطريقة تنسجم مع الشريعة الاسلامية. إن مَن ينظر في كتب أصول الفقه يجد أن الأصوليين عَرَّفوا علم أصول الفقه، وبيّنوا موضوعه وغايته وبحثوا في مسائله، والمصادر التي استُمِدَّ منها علم أصول الفقه: كعلم الكلام، وعلوم اللغة العربية، والأحكام الشرعية. كما بيّنوا مبادئ علم أصول الفقه من تصورات وتصديقات مُعْتَبرة بالنسبة الى أصول الفقه تدخُل في علم الكلام وعلوم اللغة العربية والأحكام الشرعية. درس الأصوليون الأدلة الشرعية وقسّموها إلى أقسام عدة هي: 1- الأدلة المتفق على صحتها: الكتاب، والسُّنة، والإجماع، والقياس. 2- الأدلة المختلف فيها: الاستدلال وغيره. وبيّن الأصوليون شروط الاجتهاد والافتاء والتقليد. كما أوضحوا الطرق التي يُتوصّلُ بها إلى ترجيح الدليل الصحيح في الأحوال العادية وفي حالات التعادل أو التعارض. وخلال السبعمئة سنة الأولى من التنوير الإسلامي أصَّل علماءُ الاسلامِ الأصولَ وقعَّدوا القواعد، وقيّدوا مبادئ علم أصول الفقه الاسلامي وتضمّنت دراساتهم بل اجتهادهم مبادئ أصول الفقه التي قامت على أساس متين من العلوم الإسلامية التي شملت مبادئ علم الكلام، ومبادئ اللغة العربية، ومبادئ الفقه والأحكام الشرعية وذلك على الشكل الآتي: 1- درس الأصوليون من مبادئ علم الكلام التعريفات والإيضاحات التي تخصُّ "الدليل، والنظر، والعلم، والظن من جهة التحديد والتصوير" إحكام الأحكام للآمدي1/9. 2- ودرس الأصوليون من المبادئ اللغوية: اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية وما نتج من ذلك من العبارات والدلائل اللغوية. كما درسوا أوضاع الكلمات الموضوعة لمعنى ما وأنواعها، وابتداء وضعها، وطُرُق معرفتها. كما درسوا الأسماء والأفعال والحروف والكلمات المفردة والكلمات المركبة، وبيّنوا الحقيقة والمجاز وما في اللغة من أسماء الأعلام، والأسماء الموضوعة لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم، ودرسوا موضوع الأسماء المجازية والأسماء المشتقّة، والأسماء اللغوية وأسماء الصفات. ودرس الأصوليون: حروف الجر، والحروف الناصبة والحروف الجازمة، وحروف النداء، وحروف التصديق والايجاب، وحروف الاستثناء، وحروف التحضيض، وحروف الاستفهام، وحروف الاستقبال، وحروف الشرط وحروف التعليل. كما درس الأصوليون: مبدأ اللغات، وكيفية وصفها بالتوقيف الإلهي والاختيار والاصطلاح، وبيّنوا أن طُرُق معرفة اللغة وإدراكها تكون بنقلِها بالتواتُر، وتحصيل الظنّ هو طَريق نقل الآحاد. ولا لُغَةَ إنْ لم تكن مسموعة. 3- أما في المبادئ الفقهية والأحكام الشرعية فدرس الأصوليون ما يتطلبه الحكم الشرعي من: حاكمٍ، ومحكومٍ فيه مُكَلَّفٍ به، ومحكومٍ عليه مُكَلَّف، وحُكْمٍ. وبيّنوا حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه، وما يتعلّق به من المسائل. فأوضحوا معنى الواجب، والفرض، والمندوب، والمحظور، والحلال والحرام، والمباح، والصحيح والباطل، والعزيمة والرخصة. كما بيّنوا الأدلة الشرعية. بيان الدليل الشرعي وأقسامه بيّن الأصوليون معنى الدليل الشرعي، وأوضحوا أنه قِسمان. أما القسم الأول: فهو إما أن يكون وارداً من جهة اللهِ تعالى قرآن أو من جهة الرسول سنة أو من جهة المجتهدين اجماع أو يَكون الدليل القياس الحاصل بحمل قضية معلومة على قضية معلومة أخرى بناء على وصفٍ تجمع بينهما "علة" وإذا لم يتوافر دليل من هذه الأربعة، تَبقى جهة الاستدلال. وأصل جميع هذه الأدلة هو القرآن المشرِّع للأحكام، والسنة المخبِّرة عن قوله تعالى وأحكامه. ومُستند الإجماع يعود إلى الكتاب والسنة، والقياس والاستدلال فرعٌ عائد إلى الأصول الثلاثة أي: القرآن والسنة والإجماع. وأما القسم الثاني من الأدلة: فهو موضع خلافٍ بين الأصوليين ويضمُّ: شرعَ مَنْ قبلنا، ومذهبَ الصحابي، والاستحسانَ والمصلحةَ المرسلةَ، وَسَدَّ الذرائعِ وغيرَ ذلك. وفَصَّلَ الأصوليون ما يجب العمل به مما يُسمى دليلاً شرعياً. 1- ففي مجال الدليل الأول القرآن الكريم بَيَّنَ الأصوليون: معنى الكتاب لغوياً واصطلاحياً، كما بيَّنوا حُجيَّةَ القرآن، وما فيه من آيات محكمة ومتشابهة. كما بيّنوا التفسير والتأويل، وما يشتمل عليه القرآن من كلمات حقيقية ومجازية وأكّدوا عُروبةَ ألفاظِ القرآن وخُلُوِّهَ من الأعجمي. 2- وفي مجال السنة أوضح الأصوليون معناها لغوياً واصطلاحياً وما تشمله من أقوال الرسول وأفعاله وتقاريره. كما أكَّدوا عِصْمَةَ الأنبياء عليهم السلام. وبيّنوا معاني: التأسي، والمتابعة، والموافقة، والمخالفة في مجالات الأقوال والأفعال والتقارير وما يخصُّ القرآن والسنة والإجماع من النسخ. 3- وفي مجال الإجماع: فقد عرّفه الأصوليون لغةً واصطلاحاً. وأكدوا أنَّ أهل الإجماع هم أهلُ الْحَلِّ والعقد الذين تتوافر لديهم الشروط المَرْعية ولذلك ميّزوا بين العامي والفقيه والأصولي. ورجَّحوا أن الإجماع يقتصر على المسلمين الذين بلغوا درجةَ الاجتهاد. واستبعدوا أهلَ البِدَعِ وبيّنوا حُجيَّةَ الإجماع ابتداءً بإجماعِ الصحابة ومروراً بإجماعِ العلماء عبر العصورِ حتى العصر الراهن. وبيّنوا بالأدلةِ الواضحةِ حُجيَّةَ الإجماع. كما بيّنوا أنواعَ الإجماع. كإجماعِ أهلِ المدينة، وإجماعِ أهل العصر، وإجماع أهل المصر، وإجماع أهل البيت، وإجماعِ الأئمةِ الأربعة، وإجماعِ الشيخين أبي بكرٍ وعمرَ. وإجماعِ الأُمّةِ. كما بيّنوا طُرُق نقلِ الإجماع بالآحاد والتّواتُر. 4- واعتبرَ الأصوليون القرآنَ والسنةَ والإجماعَ نصوصاً منقولةً مَنطوقةً، ينقلُها الْخَلَفُ عن السَّلَفِ. ويجبُ أنْ تَنْتَقِلَ نقلاً صحيحاً لا شُبهةَ فيه، ولذلك توسعوا في دراسةِ المُتُوْنِ والأسانيد ووضعُوا ضوابطَ تَعْصِمُ الباحثَ من الزلل. القياس درس الأصوليون القياسَ دراسة وافية فبيّنوا شروط حكم الأصل، وشروط علة الأصل، وشروط الفرع. كما بيّنوا مسالك العلة، من إجماع ونصّ صريح، وما يدل على العلة بالتّنبيه والإيماء، واثباتها بالسبر والتقسيم، وبالمناسبة والإخالة وإثبات العلة بالشبه، وبالطَّرد والعكس. كما أوضحوا أقسام القياس وأنواعه والاعتراضات الواردة على القياس. الاستدلال وبيّن الأصوليون كيفيّةَ الاستدلال على الحكمِ الشرعي باستصحاب الحال، واستصحاب حكم الإجماع، وشرع مَنْ قبلنا، ومذهب الصحابي، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، وغير ذلك. كما بيّنوا كيفيةَ الاستدلال بالاستحسان. الاجتهاد درس الأصوليون الاجتهاد فبيّنوا صُوَرَ الاجتهاد ابتداءً باجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما بحثوا في الاجتهاد في عهد الرسول وبعده، وبيّنوا مسألة الاجتهاد في العقليات والشرعيات، وبيّنوا المسائل الفقهية الظَّنِيَّةَ وما يجب عَمَلُهُ إذا تعادلت الأدلةُ العقليةُ، وما يصحُّ نسبته إلى المجتهد وما لا يصحُّ. وبيّنوا القولَ في تقليدِ المجتهد لغيره. ودرسوا التقليدَ وما فيه من المسائل وكونه خاصاً بالعاميّ. كما بيّنوا صفات وشروط الْمُفتي والمُستفتي، وماهية الاستفتاء، والفتوى. التعارض والترجيح بيّن الأصوليون ترجيحات الطُّرُقِ الْمُوْصِلَةِ إلى التصديقات والترجيحات بين الحدود الموصلة إلى المعاني الْمُفردة التَّصَوريَّة، وأوضحوا أنواع التعارُض والتعادُل الواقع بين منقولين أو معقولين أو منقول ومعقول. وتواصلت دراسات أصول الفقه الاسلامي من دون انقطاع منذ صدر الاسلام حتى العصر الراهن مما مكّن التشريع الإسلامي من مواكبة تطورات الحياة الانسانية عموماً وثبت أن الاسلام دين ودولة. * زميل باحث في مركز الدراسات الاسلامية، كلية الدراسات الشرقية والافريقية، جامعة لندن، ساواس.