لم يكن أحد يتوقع حجم ردة الفعل على إصدار الحكومة الاردنية قانوناً موقتاً لقانون المطبوعات والنشر. حتى الحكومة نفسها لم تكن تتوقع ذلك وان بدت جاهزة للردّ على أي تطور. وفي الواقع فإن تصعيد الهجوم على الحكومة من قِبَل الصحافة والاحزاب السياسية والنقابات المهنية لم يكن سوى دفاع عن النفس، ليس ازاء القانون الجديد فحسب، بل وازاء ما يحمله من دلالات ومؤشرات على تراجع الديموقراطية الأردنية. وساهم عامل الوقت في زيادة الشكوك لدى بعض الاحزاب السياسية خصوصاً المعارضة منها وكذلك المعارضة البرلمانية، اذ صدر القانون في وقت بدأت فيه جميع القوى السياسية الاردنية في مراجعة حساباتها لمواجهة مرحلة جديدة غنية بالاسئلة ومن دون إجابات: فالانتخابات النيابية ستجرى في اواخر الصيف، وثمة شكوك لدى المعارضة في حياد الحكومة. - مسيرة السلام معطلة وتنعكس آثارها احباطاً لدى المواطنين. - المشكلات الاقتصادية تضغط اجتماعياً ولا بوادر أمل حقيقي بالانفراج القريب. - سؤال الوحدة الوطنية عاد الى الواجهة كما هو حاله بين الفينة والاخرى، عندما يطرح السؤال عن مصير اللاجئين والنازحين. - أزمة الخبز التي أدت الى بعض العنف في مدن الجنوب وانتجت ارتفاعاً في اسعار سلع غذائية كثيرة ما تزال في الاذهان. - قرارات الحكومة الاخيرة بتعويم أسعار الخضار والفواكه أدت الى ارتفاع جديد في الاسعار. كلها تشكل عناوين للصيف الاردني الحالي، لكن احداً لم يكن يتوقع ان تبادر الحكومة الحالية الى التعامل مع بعض هذه العناوين بالسرعة التي تمت بها، خصوصاً ان رئيس الوزراء الدكتور عبدالسلام المجالي طمأن غير مرة الى انه سيستشير مجلس النواب قبل اتخاذه اي خطوة. وكان واضحاً منذ تشكيله الحكومة الجديدة قبل اكثر من شهرين ان المجالي ينوي تغيير الصورة التي كان عليها العام 1993 عندما حلّ البرلمان وعدّل قانون الانتخاب. لكنه وعلى رغم محاولاته المعلنة عبر وسائل الاعلام وطمأنته مجلس النواب، لم يستطع ان يزيل الشكوك لدى المعارضة التي اعتبرت منذ البداية انه قادم لتحجيمها مرة اخرى وللتراجع عن الديموقراطية بمزيد من الخطوات. فقد جاء المجالي الى الحكم وقد أكمل البرلمان دورته الرابعة والاخيرة، ولكن اكمال دورته الاخيرة لا يعني ان عمره انتهى، اذ ما زالت منه سبعة اشهر قبل اجراء الانتخابات الجديدة في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. وتعهد المجالي في لقائه الاول باعضاء مجلس النواب في جلسة غير رسمية ان الحكومة لن تصدر قوانين موقتة. وكان مقدراً ومفهوماً ان القانون الوحيد المستثنى من هذا التعهد هو قانون الانتخابات النيابية الذي طالب نواب كثيرون بتعديله لالغاء مبدأ الصوت الواحد للناخب. ومع ذلك عدلت الحكومة القانون تعديلاً شكلياً فُصلت بموجبه محافظة العقبة الناشئة كدائرة انتخابية عن محافظة معان التي كانت تتبعها في السابق. وحسب الدستور الاردني فإن اي قانون لا يكون دائماً الا اذا وافق عليه البرلمان وصدّقه الملك، اما اذا أصدرته الحكومة في غياب البرلمان فيعتبر موقتاً. من هنا برز جدل قانوني حول دستورية قانون الانتخاب. فالحكومة تستند الى الدستور الذي يمنحها صلاحية اصدار القوانين الموقتة في الاحوال الاضطرارية التي تقدرها هي بنفسها. أما المعارضة فتستند الى ان البرلمان موجود وبالامكان دعوته في دورة استثنائية، اضافة الى انها لا ترى ضرورة قصوى لاصدار القوانين الموقتة ومن ضمنها قانون المطبوعات والنشر. وفاجأت الحكومة الجميع، فبعد يومين من خطاب للملك حسين امام كبار ضباط الجيش 14/5 الذي هاجم فيه الصحافة الاردنية وطالب بوقف تشويهها الحقائق، عدّلت قانون المطبوعات والنشر واعتبرته نافذاً اعتباراً من 15/5 وصادق الملك عليه في اليوم نفسه. واستهدف التعديل، كما يتضح من مضمونه، اغلاق غالبية الصحف الاسبوعية 24 صحيفة بعد ثلاثة اشهر على الاكثر والحدّ من الحريات الصحافية بصورة عامة. 40 ضعفاً فقد نصّت التعديلات الجديدة على رفع رأس مال الصحيفة الاسبوعية 40 ضعفاً من 7500 دينار الى 300 الف دينار ورأس مال الصحيفة اليومية 12 ضعفاً من 50 ألف دينار الى 600 الف. كما اشترطت ان يكون رئيس تحرير الصحيفة مارس المهنة متفرغاً لمدة عشر سنوات على الاقل، وزادت التعديلات الغرامات المالية بصورة خيالية فأوصلتها في بعض الاحوال الى 50 ألف دينار 75 الف دولار. وطلب القانون المعدّل الجديد من الصحف ترتيب اوضاعها خلال ثلاثة اشهر يعلّق صدورها بعدها إن لم ترتّب اوضاعها خلال هذه المدة لثلاثة اشهر اخرى ثم تواجه القرار النهائي بسحب ترخيصها. وفور صدور القانون تسارعت ردود الفعل فاستقال مجلس نقابة الصحافيين المكوّن من تسعة اعضاء لكن نقيب الصحافيين، وهو مالك لاحدى الصحف اليومية رفض الاستقالة. وردّ رؤساء النقابات المهنية بتقديم استقالاتهم ما لم تتراجع الحكومة عن القانون، وكذلك فعل اعضاء في مجالس النقابات. وحاول الصحافيون الاعتصام أمام مقر رئاسة الحكومة، إلا أن الشرطة فرّقتهم بالقوة وتعرضت لهم بالضرب والتوقيف بحجة أنهم لم يحصلوا على ترخيص رسمي من وزارة الداخلية. وأصدر نواب المعارضة بياناً دانوا فيه لجوء الحكومة إلى إصدار القوانين الموقتة في وجود البرلمان واعتبروا صدور قانون المطبوعات تراجعاً عن الديموقراطية. وزخرت الصحف اليومية والأسبوعية بالعناوين والمقالات الساخنة، واعتبرت صدور القانون بمثابة اغتيال للديموقراطية ولحرية التعبير. واعتبرت القانون بمثابة تأميم للتفكير ومحاولة لخنق الصحافة وايداعها غرفة الانعاش. واعتبر سياسيون أردنيون وسطيون، بينهم إبراهيم عزالدين وزير الاعلام السابق وأحد مشرعي قانون المطبوعات قبل التعديل، ان تعديل القانون لا مبرر له وكان على الحكومة أن تنتظر البرلمان الجديد. وفي المقابل، أصرت الحكومة، على لسان رئيسها ووزير الدولة لشؤون الاعلام الدكتور سمير مطاوع، على أن لا رجعة عن القانون تحت أي ظرف. أما وزير الداخلية السيد نذير رشيد الذي لعب دوراً في تعديل القانون، فاعتبر في حديث ل "الوسط" أن تعديل القانون لا يعني التضييق على الحريات، فالصحافة "المحترمة" لا تخاف على نفسها، وأما الصحف المسيئة التي تعتدي على كرامات الناس وتقاليد المجتمع فيجب ردعها. وقال إن القانون الجديد سيساهم في رفع سقف حرية الصحافة لأنه سيتكفل بإزالة الشوائب التي طالما شكا منها الناس. وأضاف: "لا مجال للتسيب والفوضى بعد اليوم وعلينا أن نتعامل مع بعضنا باحترام". وتساءل رشيد: "هل يجوز ان يكون رأسمال الصحيفة 7500 دينار فقط؟". ورداً على سؤال عن شكوك المعارضة بنيات الحكومة في تحجيم المعارضة، قال وزير الداخلية الأردني: "عندما نطبق القانون فنحن لا نريد أن نحجم أحداً، إلا إذا أراد البعض أن يعيش خارج القانون". وسألت "الوسط" عن مغزى الاعلان الذي نشره في الصحف اليومية وطالب بعض الأحزاب السياسية بمراجعة الوزارة، فقال إن "بعض الأحزاب ليس لها عنوان، وهذا مخالف للقانون". وأكد ان ليس في الأمر سوء نية، بل أنه مجرد تطبيق للقانون وعلى الجميع. الشيخ عبدالمجيد ذنيبات المراقب العام ل "الاخوان المسلمين" في الأردن اعتبر تعديل قانون المطبوعات والنشر خطوة أخرى للحكومة تعزز المخاوف لدينا ازاء نيات الحكومة تجاه المعارضة والانتخابات المقبلة. وقال ل "الوسط" إن "جميع الخيارات مفتوحة ومن ضمنها استقالة نواب المعارضة من البرلمان ومقاطعة الانتخابات المقبلة مع تقديرنا لخطورة هذه الخطوة". وأضاف ان نواب المعارضة "بدأوا الاتصال بزملائهم في محاولة لتأمين غالبية مطلقة تؤيد عقد دورة استثنائية لمجلس الأمة". غير أن رئيس الوزراء الدكتور عبدالسلام المجالي الذي استمع إلى احتجاجات وفد أحزاب المعارضة والنقابات المهنية لم يرفض مبدأ عقد دورة استثنائية للبرلمان، لكنه اكتفى بالقول إن عقد مثل هذه الدورة هو من اختصاص الملك. لكن وزير الدولة لشؤون الاعلام، وهو الناطق الرسمي باسم الحكومة، استبعد انعقاد البرلمان، واعتبر أن مداولاته لن تكون منطقية، لأنها ستكون على خلفية الحملات الانتخابية للمرشحين للانتخابات المقبلة. من جانبه، قال رئيس مجلس النقباء المهنيين الدكتور سعيد أبو ميرز ل "الوسط" ان "النقابات المهنية اتخذت قرارها بالاستقالة ليس تضامناً مع نقابة الصحافيين التي عاد اعضاؤها عن استقالاتهم، بل احتجاجاً على تضييق حرية الرأي التي لا تطال الصحافة فحسب، بل وتمس كل انسان". أما مجلس نقابة الصحافيين الذي "علق" استقالته، فوجد نفسه في مأزق قانوني، إذ أن عليه أن يكون منعقداً كي يستطيع دعوة الهيئة العامة للانعقاد. وقد تمت دعوة الهيئة العامة بالفعل لاجتماع طارئ يعقد يوم 6/6/1997 لدرس الموقف وترك المجال لامكانية الحوار مع الحكومة. مصادر حكومية قالت ل "الوسط" إنها ترحب بالحوار، لكنها لن تتراجع عن القانون. وهكذا، فقد أفلت القرار من أيدي الصحافيين الأردنيين وبات في أيدي السياسيين، ولم يعد من أمل في احتمال تراجع الحكومة، وبات على الصحافة ان تواجه مصيرها المحتوم. وتتخوف المعارضة السياسية والنقابات المهنية من أن يكون تعديل قانون المطبوعات والنشر الخطوة ما قبل الأخيرة للحكومة الحالية للتضييق على الأحزاب السياسية المعارضة ثم على النقابات المهنية التي تلعب دوراً سياسياً بارزاً