سلّطت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني الى لبنان الضوء على ملف وضع المسيحيين فيه وهو كان مطروحاً قبلها وسيبقى مفتوحاً بعدها. وترى قيادات لبنانية متعددة الاتجاهات ان معالجة هذا الملف شرط ضروري لتدعيم الاستقرار في لبنان وانعاش الحياة السياسية فيه وتدعيم عملية الإعمار الجارية. وتنتقد بعض القيادات افتقار أطراف مسيحية فاعلة الى الواقعية وتشدد على ان الوقت حان لإطلاق حوار عميق بين سورية والمرجعيات المسيحية خصوصاً ان سورية تملك اليوم تأثيراً حاسماً على القرار اللبناني. والواقع ان مؤشرات عدة توحي بأن هذا الحوار بدأ على نار هادئة بعدما أدت تراكمات الحرب والتحالفات المتبدلة الى شكوك عميقة. في 1976، اي بعد مرور زهاء عامين على بدء حرب السنتين، بدا ان علاقات المسيحيين اللبنانيين وسورية توطدت وصارت على احسن ما يرام. فالرئيس السوري حافظ الاسد اعلن في خطاب شهير في العشرين من تموز يوليو من ذلك العام ان لبنان لا يقوم في حال تعرضت فئة من ابنائه للقهر. ومارس موقفه رفضا لمطلب "الحركة الوطنية" المتحالفة مع الفلسطينيين وتحديدا لمطلب زعيمها الراحل كمال جنبلاط السماح لها بحسم الحرب الدائرة عسكريا بعدما وصلت طلائع قواتها الى بلدة بكفيا، مسقط رأس مؤسس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميل ومؤسس القوات اللبنانية نجله بشير، الواقعة في المتن الشمالي. وتبع ذلك مؤتمر قمة عربي مصغر في الرياض ثم آخر موسع في القاهرة تقرر فيه وقف الحرب الدائرة في لبنان ومساعدة العهد الجديد فيه وسيده الرئيس الراحل الياس سركيس على ازالة المظاهر المسلحة وازالة اسباب الحرب ومنها التمدد الفلسطيني المسلح خارج المخيمات الفلسطينية والسلاح الفلسطيني داخلها والتدخل الفلسطيني في الشؤون اللبنانية. وتقرر فيه ايضا ارسال قوة عربية تتولى تقديم المساعدة المذكورة وصادف ان الاكثرية الساحقة من هذه القوة كانت سورية بسبب احجام الدول العربية الكبرى وابرزها مصر عن الاشتراك فيها لاسباب واعتبارات متنوعة. وخلال الفترة الواقعة بين عامي 1976 و1978 قام نوع من التحالف بين مسيحيي لبنان، ولا سيما الذين منهم قادوا العمل المسلح ضد الفلسطينيين وحلفائهم من المسلمين اللبنانيين، وبين سورية لدرجة دفعت البعض الى نوع من المزاح بتسمية حزب الكتائب الاكثر انتشارا بين المسيحيين والاكبر عسكريا حزب الكتائب العربي الاشتراكي تيمنا بحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سورية. لكن هذه العلاقة التحالفية الحميمة لم تدم لاعتبارات عدة، ابرزها ثلاثة. الاول اقتناع المسيحيين ان تحالفهم مع سورية سيمكنهم من تحقيق الاهداف التي من اجلها خاضوا الحرب واهمها تجريد الوجود الفلسطيني في لبنان من سلاحه واعادته الى المخيمات بعد انفلاشه في معظم المناطق اللبنانية، وعدم تقديم تنازلات جوهرية في النظام السياسي للمسلمين الذين كان الغبن اللاحق بهم في هذا النظام احد ابرز اسباب تحالفهم مع الفلسطينيين وتقديمهم التغطية اللبنانية لهم اضافة الى شعورهم القومي العربي. اضافة الى جهل تلك القوى المسيحية بأصول التعامل مع القوى الكبرى الذي يفترض ان المجانية والعواطف ليس لهما مكان وان لكل عمل مقابل. والثاني وجود خطة استراتيجية لدى سورية تقضي بالافادة من الحرب لتثبيت حقائق عدة. منها دفع المسيحيين اللبنانيين الى التخلي عن اعتبار انفسهم جزءا من الغرب والى الايمان بهويتهم العربية ومن شأن ذلك تكريس دورهم في البلاد والحؤول دون استهدافهم. ومنها ايضا دفع الفلسطينيين المقيمين على الاراضي اللبنانية الى الانسجام والاستراتيجية القومية السورية المتعلقة بالصراع مع اسرائيل والمتصلة ايضا بعلاقات سورية العربية والدولية. ومنها اخيرا ازالة الخطر الذي رتبه لبنان دائما عليها في الماضي ودفعه الى الاعتماد عليها والى التحول حليفا لها من دون تغييرات كيانية في المرحلة الاولى على الاقل. اما الاعتبار الثالث فكان تحول المسيحيين او القوى الاساسية عندهم في ذلك الوقت الى اسرائيل على رغم اعتبارهم اياها شيطانا واعتمادهم عليها للتخلص من الفلسطينيين ومطالب حلفائهم المسلمين ومن خطر الهيمنة السورية على لبنان. ومنذ تحول العام 1978 لم تصطلح العلاقة بين مسيحيي لبنان وسورية. وبعد اربعة اعوام 1982 اجتاحت اسرائيل عسكريا قسما كبيرا من الاراضي اللبنانية وظهر انها على تنسيق واسع مع الاحزاب والميليشيات المسيحية فضلا عن جهات سياسية عدة. وبين العامين 1982 وعام 1988 لم يتمكن رئيس الجمهورية الكتائبي الشيخ امين الجميل من ارساء علاقة تفاهم ثابتة لبنانية - سورية ومسيحية - سورية على رغم خطوات عدة قام بها لمصلحة لبنان ولمصلحتها مثل الغاء اتفاق 17 ايار مايو. وعاد ذلك الى استفحال مناخ عدم الثقة بين دمشق والمسيحيين والى استمرار اسرائيل في التدخل في الشؤون اللبنانية والى عدم وجود رؤية استراتيجية عند الرئيس الجميل والى قرار سورية بعدم التساهل بعد التطورات التي حصلت في المنطقة. وخلال هذه الاعوام وبعدها اي خلال ولاية العماد ميشال عون الشرعية اولا والتي ازال عنها الشرعية اتفاق الطائف وانتخاب رئيس للجمهورية تفاقم الخلاف المسيحي - السوري خصوصا بعدما تورط المسيحيون ليس مع اسرائيل فقط بل مع اعداء سورية من العرب وفي مقدمهم العراق والتنظيمات السورية الاسلامية الاصولية التي اقامت في المناطق المسيحية ومدت بكل اسباب الدعم والحماية. في "الجمهورية الثانية" وانعكس الوضع المشروح اعلاه على وضع لبنان وعلى وضع المسيحيين فيه بعد انتهاء الحرب اسميا عام 1989 باتفاق الطائف ورسميا عام 1990 بانهاء تمرد العماد ميشال عون عسكريا. فسورية التي حرصت مع غيرها من العرب والقوى الاسلامية على التوازن بين المسلمين والمسيحيين في السلطة لم تساعد في تحويل هذا التوازن فعليا اذ استمر شكليا. ولم يتمكن المسيحيون من جعله فعليا بسبب هزيمتهم العسكرية عام 1990. والسبب في ذلك عدم الثقة والخوف من "انقلاب مسيحي" في حال تغيرت اوضاع المنطقة. وسورية نفسها التي ساعدت في تحقيق استقرار امني مقبول جدا لم تساعد في تحقيق استقرار سياسي وفي ازالة الثغرات من النظام ومن تطبيق اتفاق الطائف وبقي مناخ عدم الثقة باللبنانيين مسيطرا عليها ولانها لم تكن مستعدة للمجازفة بخطوة او بموقف سينعكس عليها وطناً ونظاما. الا انها حاولت ان تدفع حلفاءها بين المسيحيين الى الواجهة. لكن هؤلاء لم ينجحوا في "تطمين" المسيحيين اولا لأنهم لا يمثلون وثانيا بسبب عدم الثقة بين المسيحيين وسورية وثالثا لأنهم كانوا عاجزين عن تحقيق المطالب "العادلة" للمسيحيين المعتدلين. كما انها لم تنجح في تطمين اللبنانيين عموما لأنها ساعدت اشخاصا وفئات في الوصول الى السلطة رغم عدم شعبية بعضهم ولأنها ساهمت في تقليص شعبية اشخاص وفئات بسبب عدم سماحها لهم بأي هامش مناورة او بأي حرية تحرك. لماذا هذا الكلام الآن؟ اولا لأن الحديث عن حوار بين سورية والمسيحيين تجدد رغم فشل الحوارات السابقة سواء لعدم جديتها او لتصلب اطرافها او لرغبة بعضهم في استعمالها من اجل تصفية حسابات معينة داخلية واقليمية. وثانيا لأن المسيحيين مقتنعون بأن وضعهم داخل الوطن اللبناني وداخل النظام ومؤسساته ليس مريحا ولا يبشر بالخير مستقبلا ومقتنعون ايضا بأن مستقبل لبنان في ظل الاستسلام الداخلي وفي ظل الوضع الاقليمي السائد فضلا عن الدولي لا يبشر بالخير ايضا. وثالثا لأن مصلحة المسيحيين تقتضي حوارا ناجحاً مع سورية للحد من خسائرهم ولوقف تدهور وضعهم اللبناني اذ ان استمرار هذا التدهور يجعل التوازن الداخلي والمساواة اكذوبة. ورابعا لأن مصلحة لبنان ومصلحة العلاقات اللبنانية السورية المميزة تقتضيان اقتناعاً لبنانياً شاملا بدور سورية الايجابي في البلاد. الا ان الاسئلة التي يثيرها تجدد الحوار بين المسيحيين وسورية كثيرة ابرزها الآتي: 1 - هل سورية جدّية في الحوار المتجدد مع المسيحيين؟ 2 - هل المسيحيون جدّيون في حوارهم المتجدد مع سورية؟ 3 - هل قطع الحوار المسيحي - السوري اشواطا مهمة ام لا يزال في بدايته؟ القريبون من دمشق يقولون ان القيادة السياسية السورية العليا جدية في الحوار المسيحي وانها تسعى لكي يصل الى نتائج تنعكس ايجابا على وضع المسيحيين في لبنان وعلى لبنان وعلى دورها فيه في المنطقة. ويقولون ايضا انها كانت دائما ضد قهر المسيحيين اللبنانيين او ضد الحاق هزيمة ساحقة بهم تلغي دورهم في لبنان وانها اختلفت بسبب ذلك مع حلفاء كثيرين داخل لبنان وخارجه، وينسبون الى رأسها الرئيس الاسد اصراره على انقاذ مسيحيي لبنان غصبا عنهم. ويقولون ثالثا ان مصلحة سورية النظام فيها تقتضي لبنان متماسكا ومستقرا او متوازنا لانه الخاصرة التي بواسطتها يستطيع اعداؤها من عرب واسرائيليين النيل منها. ويقولون رابعا انها كانت دائما مع الحوار. لكن ظروفه لم تنضج الاّ في الآونة الاخيرة عندما ازداد الوضع المسيحي في لبنان خطورة وازداد خوف المسيحيين على دورهم فيه وتاليا على وجودهم الفاعل والحر. ولذلك فانها اعطت الضوء الاخضر لحليفها اللبناني نائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي ليجس النبض المسيحي حيال الحوار معها من خلال اللواء غازي كنعان رئيس جهاز الامن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان. وتكليف كنعان هذه المهمة يعكس جدية سورية نظرا الى موقعه وعلاقاته المباشرة بقيادتها السياسية العليا. والقريبون من بكركي التي جرى الحوار معها وان على نحو غير مباشر بعد تحولها المرجعية الاولى لمسيحيي لبنان يقولون انها جدية في حوارها مع سورية. ويستنتجون ذلك من تكليفها السيد سمير حميد فرنجية والسفير السابق سيمون كرم القريبين جدا منها، وان من موقعين مختلفين، التحاور مع سورية. وهذا التكليف حصل خلافا لما يزعم قريبون آخرون من بكركي. الا ان كرم لم يشأ المتابعة لظروف عدة. ويقولون ايضا ان سيد بكركي البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير مرتاح الى الطريقة التي بدأ بها الحوار والى الطريقة التي يتطور بها. تساؤلات وشكوك والمحايدون في الصراع القائم بين دمشق وبين المسيحيين اللبنانيين لا يشككون في معظمهم في رغبة سورية في التحاور مع المسيحيين لكنهم لا يعتبرون الحوار قرارا استراتيجيا عندها. فهي ترحب به وبنتائجه الايجابية اذا تم التوصل اليها لكنها تستطيع العيش من دونه ومن دون نتائجه. وهم لا يشككون أيضاً في رغبة المسيحيين وتحديدا بكركي في الحوار لكنهم يشيرون الى حذر دائم عندها من الحوار بسبب الخوف من اهدافه الفعلية عند سورية او بسبب جهل هذه الاهداف وصيغتها وبسبب عدم ترحيب سورية بمواقع دينية قوية في لبنان وبسبب وجود رأي عام مسيحي واسع لا يطمئن الى سورية ويشكك في نياتها. الا ان اخصام دمشق من اللبنانين لهم رأي مختلف في كل الامور التي تثيرها الاسئلة المطروحة اعلاه يمكن تلخيصه بالآتي: 1 - سورية ليست جدية في الحوار مع المسيحيين وهي اعطت الضوء الاخضر لبدئه بسب حرصها على توفير مناخات مسيحية ايجابية حيالها او على الاقل متريثة او محايدة في اثناء زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم البابا يوحنا بولس الثاني للبنان. وهي زيارة لم يعد يمكن الحؤول دون حصولها كما حصل قبل اكثر من عامين ولذلك لا بد من حصر اي اثار ممكنة لها في اضيق نطاق خصوصا اذا كان فيها بعض السلبية لسورية وعند انتهاء الزيارة يتوقف الحوار او يتباطأ عمدا. وفي كل الاحوال لن يؤدي الى نتائج لان سورية ليست في حاجة الى احد في لبنان بعدما اخضعت الجميع او لم تعد في مثل هذه الحاجة. 2 - بعض سورية ليس جديا في الحوار مع المسيحيين وينطلق اصحاب هذا الرأي من اقتناع بوجود تيارات متصارعة داخل النظام في سورية، وهو ما ينفيه العارفون، ولذلك فان لا مصلحة للمسيحيين بتفاهم مع فئة سورية او لا مصلحة لهم في الدخول طرفا في صراع تلافيا لدفع ثمنه. 3 - بكركي بدورها ليست جدية في الحوار مع سورية. لكنها لا تمانع فيه ولا تمانع في تغطيته تلافيا لتعرضها والمسيحيين الى خطوات تحجيمية وذلك ريثما تحصل تطورات في المنطقة تعيد ترتيب الادوار فيها وتعيد تالياً تركيز الوضع اللبناني. فهي تخشى ان تكون سورية تحاول اخذ المسيحيين بالمفرق لا بالجملة وتخشى ايضا ان يكون هدف سياستها في لبنان جعل وضعه مهيأ لكل الحلول التي تناسبها عندما تتم اعادة ترتيب اوضاع الشرق الاوسط وفي الوقت نفسه اقناع المجتمع الدولي والمجتمع الاقليمي بعدم التمسك بوضع آخر له فيه بعض مقومات السيادة والاستقلال. اما سير الحوار فان اصحابه يتكتمون عليه كثيرا. اذ باستثناء اخبار صحافية عن لقاءين عقدهما السيد سمير فرنجية مع اللواء غازي كنعان وعن زيارات قام بها الاخير لمرجعيات مسيحية فان احدا لا يعرف ما يجري. وقد يكون ذلك علامة صحة وناجما عن حرص على الوصول الى نتائج وعلى قطع الطريق على المتضررين من الحوار. الا ان العارفين يشيرون الى ان الامور لا تزال في بداياتها لكنها جيدة عموما. من المحق من اصحاب الأجوبة السابقة؟ لا يمكن الجزم بذلك منذ الآن نظرا الى تجارب الماضي. علما ان المسيحيين يعيشون اليوم صراعين. الاول يتعلق بوجودهم في لبنان وبقائهم فيه وباستمرار دورهم في صيغته وسياسته. والثاني يتعلق باستقلال لبنان وسيادته. فهم متمسكون بالدور والوجود لكنهم يخشون ان يكون ذلك على حساب السيادة والاستقلال رغم ان البعض ينصحهم بتأمين الوجود والاستمرار لان الامور الكيانية لا يقررها اللبنانيون ولان التعرض لها من جهة اقليمية واحدة ليس سهلا او ممكنا، والمطلوب في هذا المجال صيغة توفيقية بين هذين الامرين. وذلك صعب اذا لم تتجاوب سورية ولم يساعد المسلمون