جاء البيان الماروني الأخير ليشكل علامة فارقة في موقف بكركي من الوضع اللبناني، إذ أصدر "مجلس الاساقفة والمطارنة الموارنة" في اجتماعه الشهري بياناً تناول فيه الوضع العام في البلاد وتضمن انتقادات حادة للسلطة والمؤسسات، ابرزها الآتي: 1 - التأخير في اصدار قانون الانتخاب الذي يعرقل العملية الانتخابية "وغياب الدائرة الصغرى التي تبقى افضل وسيلة لصحة التمثيل الشعبي". 2 - تغييب مصلحة الوطن العليا وارتهان ارادة النواب واتخاذ الاكثرية الغالبة في مجلسهم مواقف متخاذلة مثل تعديل الدستور للتمديد لرئيس الجمهورية وتقييد الوطن بمعاهدات واتفاقات ابرمت بين غالب ومغلوب. 3 - التساؤل عن فائدة القوانين التي سنها مجلس النواب 350 خصوصاً انها لم تحل دون تذويب الكيان اللبناني وطمس الخصائص اللبنانية وتبديل وجه الوطن. 4 - حال الفقر والهزال التي اصابت المواطنين وتصاعد الضرائب وغلاء كلفة الحياة. 5 - القضاء ومحاكمة الدكتور سمير جعجع في قضية تفجير كنيسة سيدة النجاة من دون ان يسميه. وأثار البيان ردي فعل متناقضين. الاول مؤيد وعبّرت عنه قيادات المعارضة المقيمة في الخارج، وهي العماد ميشال عون والرئيس امين الجميل والعميد ريمون اده. وقد رافق تأييدهم اشارة الى نقص في الشق المتعلق بالانتخابات النيابية فيه اذ تمنوا لو تضمن البيان دعوة صريحة الى مقاطعة الانتخابات المتوقعة في الصيف الحالي. كما عبر عنه معارضو الداخل الذين ينتمون الى اتجاه المعارضة من خارج ومنهم دوري شمعون رئيس حزب الوطنيين الاحرار وعدد من الشخصيات السياسية. اما الثاني فرفض البيان ودان مضمونه، ومن اصحابه رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة الياس الهراوي ونبيه بري ورفيق الحريري وفاعليات دينية اسلامية وشخصيات سياسية اسلامية وأخرى مسيحية متحالفة مع السلطة ومع راعيها الاقليمي سورية. الاّ أن رد الفعل الرافض لم يتم التعبير عنه بوضوح، لا سيما من قبل اركان الدولة والنظام، تلافياً لتصعيد لا يبدو انه يناسب لبنان في هذه المرحلة الدقيقة لا سيما بعد تغيير الحكم في اسرائيل بطريقة تهدد الاستقرار في المنطقة وفي لبنان على نحو خطير. انقسام تقليدي هل يمكن اعتبار ردي الفعل المذكورين معبرين أصدق تعبير عن موقف اللبنانيين في القضايا التي اثارها "بيان الاساقفة والمطارنة الموارنة" وكذلك عن انقسامهم فريقين لكل منهما موقف مناقض تماماً لموقف الآخر؟ ان تقسيم الشعب اللبناني الى فريقين، واحد مع "البيان الماروني" وآخر ضده، ليس دقيقاً ولا يعبر عن مواقفه حيال كل القضايا التي اثارها البيان. فتأييد معارضي الخارج ومؤيديهم في لبنان السريع للبيان انما هدف الى توظيف موقف البطريركية المارونية في معركتهم السياسية ضد السلطة وضد راعيها الاقليمي سورية. والانتخابات النيابية المرتقبة هي احدى المحطات البارزة في هذه المعركة. كما ان رفض عدد من الموالين "البيان الماروني" هدف الى تأييد السلطة وراعيها الاقليمي لحضهما على تحقيق الأمرين الآتيين: الاول التحوط والتشدد لمنع تغيير الوضع الداخلي الراهن بمعادلاته القائمة وكذلك الوضع الاقليمي المسيطر عليه. والثاني الحصول على مزيد من دعم السلطة وراعيها الاقليمي يؤمن لهؤلاء الموالين الاستمرار في الواجهة السياسية وفي السلطة. ويعتقد كثيرون ان اللبنانيين عموماً، بمسيحييهم ومسلميهم، ليسوا بعيدين عن الكثير من الانتقادات التي وجهها الاساقفة والمطارنة الموارنة فهم لم ينظروا بارتياح ابداً الى تأخير اصدار قانون الانتخاب بل واعتبروه مقصوداً لابقاء الاجواء السياسية مبلبلة. كما اعتبروا ان اعتماد اكثر من معيار في رسم الدوائر الانتخابية هدف الى تأمين فوز اكثرية في مجلس النواب الجديد موالية للسلطة ولراعيها الاقليمي. مثلما اعتبروا ان الطريقة المعتمدة في تركيب اللوائح ترمي الى تحقيق فوز الاكثرية نفسها. كذلك لم ينظر اللبنانيون بارتياح الى اقدام مجلس النواب على تعديل الدستور للتمديد لرئيس الجمهورية. كما لم ينظروا بارتياح الى "استسلام" عدد كبير من النواب الى الايحاءات غير اللبنانية في مواضيع لبنانية. وظهر ذلك بوضوح امام الرأي العام في اكثر من موضوع كان ابرزها التمديد للرئيس الاول. وهم لم ينظروا بارتياح الى غياب السياسة الاجتماعية للدولة والى اعتمادها سياسة اقتصادية مكلفة في ظروف صعبة وغير ملائمة الامر الذي انعكس افقاراً للناس ومضاعفة لصعوباتهم المعيشية. وهم لم ينظروا بارتياح الى ممارسات عدد من الاجهزة، ولا الى الكلام الكثير عن الفساد في سلطات معينة في القضاء من دون صدور نفي يصدقه الناس او تغيير الوضع المشكو منه. لكن الخبراء في الوضع اللبناني يقولون ان اللبنانيين بمسيحييهم ومسلميهم لا يتجاهلون كما فعل الاساقفة والمطارنة الموارنة الكثير الذي تحقق على صعيد اعادة بناء الدولة وانهاء آثار الحروب التي دمرتها، ولا يتجاهلون ايضاً المسؤولين عن الوضع الذي شكا منه هؤلاء في بيانهم. وهؤلاء يتوزعون على ثلاث فئات: أحلاف ثنائية 1 - السلطة اللبنانية التي لم تحقق التوازن الوطني الفعلي بين المسيحيين والمسلمين الذي نص عليه اتفاق الطائف. لا بل ان هذه الممارسة حققت العكس اذ أحلت مكان الهيمنة المسيحية على السلطة التي كانت موضع شكوى المسلمين، هيمنة اسلامية. والتوازن لا يتحقق من دون مصالحة وطنية، والسلطة لم تكلف نفسها عناء تحقيقها اقتناعاً منها بأن المصالحة تتجسد فيها وفي اركانها. اما المحاولات التي قام بها اركان السلطة نحو المسيحيين، خصوصاً نحو بكركي كونها تحولت مرجعية سياسية الى جانب كونها مرجعية دينية للموارنة من اجل اقناعهم بالانخراط في الدولة فإنها لم تكن جدية يوماً. ذلك ان الوعود التي اعطاها هؤلاء الاركان للبطريرك الماروني بقيت من دون تنفيذ، لا بل ان الصراعات التي كانت قائمة بين هؤلاء وبين من يمثلون حكمت مسار محاولاتهم مع بكركي. فالرئيس الهراوي اراد منها موقفاً مؤيداً له يمكنه من الحكم وتجاوز اتفاق الطائف الذي حدّ من صلاحيات رئيس الجمهورية وعندما حصل عليه وقف ضدها. كما انه وظف هذه المواقف لقضايا لا علاقة لها بالمصلحة العامة. ورئيس مجلس النواب نبيه بري حاول الانفتاح على المسيحيين وفي ذهنه - وان رفض الاقرار بذلك أو نفاه - قيام ثنائية مسيحية - شيعية يكون فيها الشيعة الطرف الاقوى، الامر الذي يحول دون استرجاع المسلمين السنّة مواقعهم الاساسية في التركيبة اللبنانية. ورئيس الحكومة رفيق الحريري فعل الشيء نفسه، اي محاولة تشكيل ثنائية مسيحية - سنية. لكن الرئيسين فشلا لانهما لم يستطيعا الوفاء بوعود قطعاها، ولأن الثنائيات انتهت في لبنان ولان المسيحيين يرفضون ان يكونوا اداة لا شركاء. اما الشخصيات السياسية اللبنانية الاخرى فإن انفتاحها على بكركي رمى الى تقوية مواقعها داخل النظام ولدى سورية. فضلاً عن انها لم تستطع ان "تجلب" شيئاً للبطريرك كما يقال. 2 - سورية التي لم تدرك او ربما التي لم تشأ على رغم معرفتها الدقيقة بالوضع اللبناني، فتح الباب امام الموارنة من خلال مرجعيتهم الدينية التي تحولت الى مرجعية سياسية. وقد يكون من اسباب انعدام ثقتها بالمسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً بعد الادوار التي قاموا بها في الماضي وكان من أهدافها الحاق الاذى بها. كما قد يكون اقتناعها بأنهم لم يعودوا مؤهلين للمراهنة عليهم بعد خسارتهم الحرب وأن استعادتهم القوة قد تدفعهم عندما تتغير الظروف الخارجية الاقليمية والدولية، الى الانقلاب على سورية. 3 - البطريركية المارونية التي لم تحسن تقدير نتائج بعض المواقف، على رغم صدق نياتها في مواجهة رياء اهل السلطة ومحاولتهم استغلال بكركي لمصالحهم، ومن هذه المواقف: - التشجيع على مقاطعة الانتخابات النيابية عام 1992 الذي انعكس تأييداً للمعارضة في الخارج ولطروحاتها الداعية الى عدم الانخراط في الدولة وقد تكون هذه المقاطعة هي التي ادت الى اضعاف مسيحيي الطائف الكتائب والقوات. - مواجهة تشدد سورية حيال بكركي بتشدد مماثل، اذ ساهم في اقفال أبواب الحوار معها علماً انها كانت نصف مفتوحة، واصرار البطريرك صفير على الحصول للمسيحيين على شيء ما قبل زيارة دمشق. - انتهاج بكركي سياسة فيها الكثير من البراءة وعمادها ان السلام سيحصل وان سورية ستنسحب من لبنان فور حصوله وان المسيحيين يستطيعون عندها التفاهم مع المسلمين. - ممارسة السياسة المباشرة مع حرص دائم على تجنب تحمل تبعاتها. الدور والمقومات هل ارتكب الاساقفة والمطارنة الموارنة "الخطيئة المميتة" عندما اصدروا بيانهم الشهير؟ من الامور المهمة، يجيب الخبراء في الوضع اللبناني، ان البيان لم يتعرض لاتفاق الطائف ولا يستطيع أحد ان يقول ان مضمونه ينقض هذا الاتفاق او يرفضه بعد قبول، على رغم الحدة الكبيرة التي طغت على لغته. ومنها ايضاً ان البطريرك صفير قد يكون حاول في بيان الاساقفة والمطارنة الى استقطاب اللبنانيين المعارضين، لا سيما المسيحيين منهم من كل زعاماتهم، خصوصاً تلك التي لها حسابات خاصة والى ابلاغ الجميع أن الامر له، لا سيما في "المجتمع المسيحي". ومنها ثالثاً ان البطريرك صفير لم يدع الى مقاطع الانتخابات رسمياً وانه قد لا يعارض الاشتراك فيها ترشيحاً وتصويتاً على أساس اعتبار مضمون البيان برنامجاً للمرشحين. الاّ أن هناك تساؤلاً عن الخلفية التي دفعت الى اصدار بيان بالمضمون الحاد المعروف. فهل لتوقيت البيان علاقة بمتغيرات اقليمية حصلت أخيراً، وبرهان على تطورات مرتقبة قد تعيد خلط الاوراق في لبنان من خلال خلطها في المنطقة وتسمح تالياً للمسيحيين باستعادة دور مغيب وللبنانيين باستعادة مقومات وطنية. طبعاً لا جواب على التساؤل. والاعتقاد السائد هو ان بكركي اعقل من ان تراهن على متغيرات اقليمية لأنها تعرف ان حصولها لن يغير من الواقع المشكو منه فعلياً، وتحديداً مسيحياً، وان عدم حصولها يفاقم من صعوبات المسيحيين. وفي أي حال لا بد ان تكشف الايام المقبلة جوانب كثيرة من خلفيات البيان، مع الاشارة هنا الى أن الفاتيكان لا يؤيد الحدة في توجه المسيحيين ولا استمرار "استقالتهم" من الدولة، على رغم تعاطفه معهم ومع بعض مطالبهم.