عندما كرس اتفاق الطائف وجود سورية السياسي والعسكري في لبنان وأكد دورها في ادارة دفة الأمور واعترف بمصالحها المشروعة فيه اعتقدت القيادة السياسية العليا في دمشق ان الكثير من مشاكلها ذات المنشأ اللبناني قد زالت أو وضعت على طريق الزوال. واعتقدت ايضاً ان لبنان الذي شكل في أوقات كثيرة خاصرتها الضعيفة وتمكن بصفته هذه من الحاق أضرار بليغة بها سواء لحسابه أو لحساب جهات اقليمية ودولية متنوعة انتهى، وان لبنان آخر سينشأ على انقاضه وسيكون مصدر قوة لها بعدما كان نقطة ضعف وذلك من خلال اقرار "أهله" بضرورة العلاقات المميزة مع سورية ومن خلال معاهدة الاخاء والتعاون والتنسيق التي جرى توقيعها بين البلدين قبل سنوات، والاتفاقات التطبيقية لها سواء ما وقع منها أو ما هو قيد التجهيز للتوقيع. وكذلك من خلال اقتناع هؤلاء الأهل ولا سيما الذين منهم شكلوا على مدى عقود عقبة كأداء أمام الدور السوري في لبنان بأن مصلحتهم ومصلحة بلدهم تقتضي تغييراً جذرياً في الاستراتيجية التي اعتمدوها سابقاً. بعد مرور ست سنوات على تطبيق الاتفاق المذكور تأكدت سورية، وهي لا تزال تتأكد كل يوم من وجود حالة استعصاء بالنسبة الى دورها في لبنان وتحديداً وجود حال تراوح بين الرفض لها ولدورها ولوجودها في البلد والرفض لممارساتها وتدخلها في القضايا الداخلية وفضلاً عن ممارسات حلفائها اللبنانيين على رغم قبول نظرية التعاون والتنسيق بين بيروتودمشق والعلاقات المميزة. وقد ساهمت امور ومؤثرات ومواقف عدة في وصولها الى درجة التأكد المشار اليها اعلاه أبرزها الآتي: 1 - استمرار اكثرية المسيحيين في موقف المطالبة بانسحاب الجيوش الأجنبية من لبنان، ومن ضمنها الجيش السوري لاقتناعها بأنه كان، اضافة الى حلفاء سورية، الاداة التي استعملتها سورية للامساك بالبلد والسيطرة عليه وادارة شؤونه مباشرة حيناً وبالواسطة حيناً آخر وتحديداً لافقاده القرار الحر ومقومات السيادة والاستقلال. وقد جرى التعبير عن هذا الموقف أكثر من مرة في السنوات الماضية ولا سيما عندما نجح الحكم المتحالف مع دمشق، ودمشق نفسها في "تيئيس" المسيحيين الذين راهنوا على الطائف من أي اصلاح وفي دفعهم الى احضان المتطرفين الذين تعيش قياداتهم في المنفى الطوعي أو القسري منه يقودون حملتهم على سورية وعلى حلفائها الحاكمين وغير الحاكمين في البلد. فالبطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير خاض في هذه المواضيع في معظم عظاته الأسبوعية ومقابلاته مع رجال الاعلام المكتوب والمرئي والمسموع وهو كان عراب المقاطعة المسيحية للانتخابات النيابية التي جرت في عام 1992. ومجلس الأساقفة والمطارنة الموارنة لا يخلو بيان شهري له من اشارة سلبية الى سورية سواء مباشرة أو مداورة. والتيار العوني الأوسع حضوراً ونفوذاً على الساحة المسيحية يعتبر ان مشكلته هي مع سورية لا مع الحكم ورجاله الذين هم بمثابة "دمى" تحركهم كيفما تشاء وساعة تشاء، على حد قوله. وهذا ما تفعله التيارات الأخرى الأقل وزناً وحجماً التي يمثلها العميد ريمون اده حزب الكتلة الوطنية ودوري شمعون حزب الوطنيين الأحرار والرئيس السابق امين الجميل، حتى حزب الكتائب الذي كوع 180 درجة في سياسته حيال سورية منذ اتفاق الطائف قبل زهاء ست سنوات لم يستطع على رغم محاولته تمييز مواقفه انسجاماً مع سياسته الجديدة الا تفهم مواقف بكركي والمعارضة المسيحية والموافقة على معظمها وهذا ما فعلته شخصيات سياسية مسيحية "مزمنة" في علاقتها السورية. اقتراح الهراوي والتعبير الأوضح عن ذلك الموقف المسيحي الايجابي العام لحلفاء سورية ولاخصامها من السينودوس الذي دعا البابا يوحنا بولس الثاني الى عقده من اجل لبنان وتحديداً من البيان الذي صدر عنه قبل أشهر والذي طالب بأمور عدة من أبرزها جلاء القوات السورية عن لبنان. وقد جاء فتح معركة قانون الانتخاب يفسح في المجال أمام المسيحيين المذكورين كلهم للتعبير عن رفضهم الافكار الانتخابية التي طرحها رئيس الجمهورية الياس الهراوي لبنان دائرة انتخابية واحدة مع انتخابات تمهيدية على مستوى القضاء. والسبب الأساسي لهذا الرفض اقتناعهم بأن قانون الانتخاب المرتكز الى الأفكار الرئاسية المذكورة هدفه تحقيق أمرىن مهمين. الأول الحؤول دون وصول المعارضة ومعظمها مسيحي، الى مجلس النواب وهذا امر يسهله الخلل في التوازن العددي بين المسلمين والمسيحيين في لبنان وكذلك اضطرار معظم المسلمين الى الانسجام مع الموقف السوري لأسباب "قومية" ولأسباب لبنانية. اذ انهم يرفضون عودة المسيحيين الى وضع قد يهدد مكانتهم في التركيبة اللبنانية مستقبلاً وثانياً تكريس قيام لبنان جديد يدور في الفلك السوري. 2 - الضجة التي قامت في لبنان بعد الاجتماعات الأخيرة للمجلس الأعلى اللبناني - السوري على اثر مشاهدة اللبنانيين الرئيسين الياس الهراوي وحافظ الأسد يوقعان ما قيل لاحقاً انه محضر الاجتماع وموازنة المجلس وما الى ذلك وكذلك اثر الشائعات التي راجت عن توقيع البلدين اتفاقات ثنائية تكاملية هادفة الى توحيد السوق الاقتصادية أو على الأقل اقامة سوق اقتصادية مشتركة بينهما. وقد أربكت الضجة سورية والحكم اللبناني الى درجة ان اركانه نفوا أكثر من مرة وبوضوح كامل التوقيع على أي شيء غير موازنة المجلس ودفعت عدداً من الديبلوماسيين الاجانب المعتمدين في لبنان الى القول: "لماذا هذا الشعور بالذنب من أركان السلطة اذا لم يوقعوا شيئاً كالمنسوب اليهم توقيعه مع سورية او اذا لم يكونوا في صدد تحضير ما سيوقعونه مستقبلاً". 3 - عدم ارتياح التيارات الاسلامية الأصولية اللبنانية وتحديداً السنية منها الى سورية لأسباب عدة مختلفة تمام الاختلاف عن موقف المسيحيين من دمشق واعتقادها انها مستهدفة وافادتها من هذا الواقع ومن كون لبنان لا يتمتع بما يفترض ان يتمتع به كدولة سيدة ومستقلة لمد جسور مع جهات لبنانية عدة وكذلك للانتشار في أوساط الجمهور الاسلامي السني ونجاحها في النمو على رغم كل الاجراءات الرسمية اللبنانية وغير اللبنانية. وهذا الأمر لا يريح سورية مطلقاً أولاً لأنها غير أصولية بالمعنى الديني وثانياً لأن سورية صاحبة تجربة صعبة مع هذه التيارات سواء لديها أو في لبنان وثالثها لأنها تعرف ان عليها مواجهتها بعد حل ازمة الشرق الأوسط لمنعها من عرقلة تنفيذ هذا الحل. 4 - الضجة القائمة بسبب تردي الوضع المعيشي والوضع الاجتماعي والوضع الاقتصادي واستغلال الجهات السياسية من كل المشارب والتيارات هذا التردي لتصفية الحسابات. وفي هذا المجال يعتقد بعض هذه الجهات ان سورية مسؤولة عن التردي المذكور سواء لأنها تدعم استمرار حكومة الرئيس رفيق الحريري التي لا تهتم الا بالحجر على حساب البشر الأمر الذي يفاقم التردي. أو لأنها لا تسمح للبنان بحل مشكلته مع اسرائيل وباجراء مصالحة وطنية حقيقية، ومن شأن الأمرين وضعه على طريق العافية. وأياً تكن الاعتقادات فان قرار الاتحاد العمالي العام اعلان الاضراب وتسيير مظاهرات في كل المناطق اللبنانية يوم 29 شباط فبراير الجاري أظهر من خلال الفرقاء السياسيين الذين دعموا التحرك مباشرة، ومنهم مسلمون ومسيحيون ينتمون الى معظم التيارات السياسية في البلد، وجود رغبة لدى البعض في استغلال التحرك العمالي لتحميل سورية مسؤولية التردي الاقتصادي والمعيشي والسياسي وأظهر وجود رغبة لدى البعض الآخر في الاعتراض على السياسة السورية في البلد والتي أدى "استغلالها" من أركان السلطة وسيؤدي الى مزيد من افقار الناس والى ضرب الحرية في لبنان من خلال مس حرية الاعلام المرئي والمسموع. هل تنجح دمشق في معالجة حالة الاستعصاء المشروحة أعلاه؟ يعتقد قريبون من دمشق بوجود عوامل عدة لنجاحها في ذلك أبرزها اثنان. الأول امساك سورية بالمسلمين على نحو شبه كامل واقامتها تحالفاً معهم مبنياً على أمور عدة من اهمها ان تخليهم عنها قد يعرضهم الى خسارة المكاسب التي حققوها في السنوات الأخيرة. ذلك ان للمسيحيين علاقات خارجية مهمة قد تساعدهم في حال حيدت سورية نفسها عن الموضوع الداخلي أو ابعدت عنه. المعالجة الناجحة لحال الاستعصاء وتستفيد سورية من رفض المتشددين المسيحيين لترسيخ هذه القناعة عند المسلمين. اما الثاني فهو استعداد المجتمع الدولي والمجتمع الاقليمي للتسليم بدور اساسي أو مهيمن أو مسيطر لسورية في لبنان في مقابل تقديمها المساعدة اللازمة لاقفال ملف الصراع العربي - الاسرائيلي الا ان ذلك على اهميته وعلى نتائجه الفورية اذا جاز التعبير لا يكفي في نظر مصادر سياسية موضوعية. ذلك انه سيزيل الانزعاج السوري او عدم الارتياح السوري في لبنان لكنه سيبقي اسبابه قائمة وسيبقي حال الاستعصاء ضد سورية كامنة وجاهزة للبروز فور توافر ظروف خارجية ملائمة. وهذا أمر يمكن ان يحصل لأن لا شيء ثابتاً في العالم ولأن المتغيرات أمر طبيعي. وقد يصب الخطر اكبر في حال انكفاء المسيحيين وتقلص عددهم في البلد ذلك ان العقدة التي حالت أحياناً كثيرة دون تحرك المسلمين اللبنانيين في مواجهة أي وضع عربي في لبنان هي الفائدة التي يمكن ان يجنيها الفريق المسيحي وقد تتغير الصورة في حال تغير المعادلات. والمعالجة الناجحة لحال الاستعصاء المذكورة تكمن اولاً في اقرار اللبنانيين بأن لسورية دوراً في لبنان لا يستطيعون مقاومته لاعتبارات خارجية ضخمة، وثانياً في اقدام المسيحيين بمرجعياتهم الأساسية على التحاور مع سورية التي لا تزال مستعدة لذلك. وثالثاً في اقتناع سورية بأن لبنان سيداً ومستقلاً هو في مصلحتها أكثر من لبنان المسلوب القرار والارادة وبأن دورها النافذ في لبنان تؤمنه السلطة اللبنانية ولا يؤمنه التدخل المباشر في البلدية والمخترة والأحياء والأحزاب والطوائف والمذاهب. فهل يعتمدها المعنيون سياسة جديدة، أم يستمرون في سياسة الفعل ورد الفعل الأمر الذي يؤذي لبنان من دون ان يفيد سورية، علماً انه قد يؤذيها مستقبلاً اذا تحول لبنان ناراً تحت الرماد جاهزة للاشتعال...