هل بعض الكتاب السعوديين مهدّد بحالة الفراغ الثقافي؟ هذا السؤال يتبادر إلى ذهن القارئ وهو يتصفّح كتاب جاسر الجاسر "انتاج الوهم أو عباءة الثقافة" الذي اعتبره عبدالله الغذامي من نوع "النقد المعني بنظريات النقص". بأسلوب جريء يعيد الناقد النظر بادعاءات الثقافة السعوديّة ومفارقاتها، في مشهد منقسم بين توجهين يتنازعان السيطرة عليه: التيار الحداثي الذي فشل في الاحتفاظ بمنابر الاعلام والأدب التي احتلها طوال الثمانينات، والتيار التقليدي الذي عاد من جديد إلى الواجهة الاعلامية مستغلاً نقاط الضعف لدى دعاة الحداثة. هنا تحقيق يتوخّى اثارة نقاش واسع يشمل كلّ الاتجاهات والأجيال. "انتاج الوهم أو عباءة الثقافة" كتاب من تأليف جاسر الجاسر، صدر عن نادي جدة الأدبي، وكتب مقدّّمته عبدالله الغذامي، وفيها اشارة إلى هويته النقدية: "لا شك عندي في ان ثقافتنا العربية بحاجة إلى هذا النوع النقدي، أقصد النقد المعني بنظريات النقص". كتاب الجاسر الذي يضمّ مجموعة مقالات منشورة في الصحافة، يتجاوز الكشف عن النقص إلى رسم الفضاء الذي ينمو فيه وهم الثقافة، باعتباره فضاء يمكن أن يستعار كعباءة الوهم. فبين عملية الانتاج انتاج الثقافة وبين اعتماد المصطلح مصطلح الثقافة نعبر في منطقة الوهم. اذ يدخل النتاج في حال مموهة قابلة للتقمص والتشكل، لأنها تفتقد إلى حقيقتها. هكذا تبدو الثقافة مجرد عنوان أو شكل مفرّغ يمكن أن يغطي وأن يكشف، أن يَتبع وأن يُتبع، أن يعادل الوهم، ويسمح بتبادل المواقع والادوار. يكشف الجاسر عن الوهم منذ ولادته، ويتتبع لمراحله حتى انتحاله مسمى الثقافة. لكن المقالات تعيدنا ونحن نقرأها، إلى وقت كتابتها، فنرى انها في معظمها اكتسبت صدقيتها، لأن السنوات التي مضت على نشرها، نقلتها من اطارها النظري الذي كان يمكن أن ينتفي كلياً أو جزئياً لو خالفه فعل ما، إلى الاطار العلمي الذي أثبتته التجربة وبرهن عليه الواقع الثقافي الذي تلاه. وحين نعود إلى بداية التسعينات نجد المشهد الثقافي في السعودية منقسماً بين توجهين يتنازعان السيطرة عليه: التيار الحديث أو الحداثي الذي فشل في الاحتفاظ بمنابر الاعلام والأدب التي احتلها طوال الثمانينات، والتيار التقليدي الذي عاد من جديد إلى الواجهة الاعلامية مستغلاً نقاط الضعف والهشاشة اللتين تكشّف عنهما التيار الحداثي بعد ان زالت عنه الهالة التي أحاطت به وجعلته عصياً متعالياً على النقد والمساءلة. ولكن لم يكن لدى أي من التيارين المتصارعين أدوات فعالة في حسم الجدل بينهما. فبالنسبة إلى التقليديين كان الرفض المطلق للأدب الحديث يقوم على أسس تاريخية وايديولوجية مسبقة وعامة، وهي مشاعة بين الجميع. لكن ذلك الرفض لم يرْقَ إلى مستوى اللغة الحديثة، بل ظل قاصراً عن مقاربة النتاج الحديث وتبين الفروق الفنية بين نماذجه. كما ان الحداثيين بدورهم اكتفوا بنتاجهم فقط، من دون قراءة ومساءلة ما يطرحه الطرف التقليدي، وعبّروا أحياناً عن جهل باللغة والتراث... لا بدّ أيضاً من افتقار بعضهم إلى البعد الفكري الفلسفي قراءةً وكتابة، مع التباهي بوعي سياسي ساذج كانوا فيه كخصومهم، ولهذا كانوا في جدالهم مع التقليديين غير جادين ولا مقتنعين. وفي هذه الاجواء من السجال الطائش، يقف جاسر الجاسر ناقداً جريئاً على نحو لم يألفه الوسط الثقافي السعودي، وكان في أول أمره يتقنع باسم مستعار سهيم ويكتب بغير انتظام. لكنه سرعان ما أفصح عن نفسه وكتب زاوية أسبوعية بعنوان "أوراق مفتوحة"، استمرت فترة كافية لغربلة وزحزحة مواقف وقناعات لم تكن من قبل موضعاً للشك أو الرفض. لا يقف الكاتب مع تيار ضد الآخر بشكل ثابت ونهائي، بل ان كتاباته - وهذا مكمن اثارتها واضافتها النوعيّة - لا تتأخر ولا تتردد عن تقديم الرموز الأدبية من كلّ المراتب والمواقع. وعندما كتب الجاسر معلناً نهاية الشاعر عبدالله الصيخان، كان لكلماته وقع الصاعقة، وعمّت المفاجأة الأوساط الأدبيّة. فالشاعر المدلل الذي يتبارى الجميع في الثناء على نصوصه الشعرية حتى اصبح رمزاً من رموز الحداثة السعودية، كان يتمتع بهالة أدبية تكفي لإبطال أي نقد، كما تكفي لتجريد المنتقد من صفات الفهم والذوق والمعرفة والموضوعية بصورة تلقائية. ولم تكد حالة الصمت والذهول التي أثارتها مقالته تتبدّد، حتّى طالعنا الجاسر بمقالة أخرى طاولت جيل الحداثة برمته. في تلك المقالة نقرأ: "ان الانبهار يغلب عليهم ويقود خطواتهم"، "لا شك في ان جهودهم، على رغم ما فيها من سذاجة، تستحق الاعجاب"، "سرعان ما تبخّر حماسهم، وقل نشاطهم، وتزعزع ايمانهم، ثم انطفأوا تماماً". ويتعرّض لدور النقاد في تقاعسهم "على رغم ما حظوا به من متابعة نقدية في احيان كثيرة تجاملهم، ولعل هذه الطروحات النقدية كانت من ابرز اسباب توقفهم". ثم تتبع جاسر الجاسر رموز ذلك الجيل بشكل فرديّ. فكانت مقالة "اللامنتمي" عن عبدالله باخشوين قاص، و"العراب" عن عبدالله نور ناقد، و"الصوت والخطوة" عن محمد علوان قاص، و"الخطى الضائعة" عن سعد الدوسري قاص وروائي، و"مسافر بلا ملامح" عن أحمد الصالح شاعر، و"الأزمنة الاربعة" عن حسين علي حسين قاص، و"انتحار النابغة" عن محمد الثبيتي شاعر و"جملة ناقصة" عن عبدالعزيز مشري قاص وروائي، و"عشبة برية" عن جارالله الحميد قاص، و"الجاحظ يولد صحفياً" عن محمد رضا نصرالله كاتب، و"الفعل المسرحي للكتابة" عن كتاب عبدالله الغذامي "الكتابة ضد الكتابة"، و"اللعنة الثقافية" عن صالح الصالح كاتب - وهذه الاخيرة كانت من أقسى المقالات وأشدها نقداً وتهكماً - و"النماذج النقدية" عن أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري كاتب... وهؤلاء كلهم من المحسوبين على التيار الحديث فكراً وابداعاً. كما كتب عن آخرين لا علاقة لهم بالأدب، كعبدالله الجعيثن أفلام المراهقين. "تكاذيب المثقفين" ! وتعتبر مقالة "زمن الوضع وآلام الطلق التي لا تظهر" من أطرف المقالات وأذكاها. فيها يتتبع الجاسر النتاج الثقافي، راصداً ادعاءات ووعوداً اطلقها مثقفون بتأليف روايات وكتب في جلساتهم الخاصة ولقاءاتهم الصحفية، ويحسب عدد السنين التي مرت من دون ان يفوا بكتاب واحد مما التزموا به. ويسمي الجاسر هذه الوعود بتكاذيب المثقفين، أما اصحابها فيقسمهم إلى ثلاث فئات، أخطرها فئة اساتذة الجامعة ومن هذه الفئة، علي حسن العبادي، ومحمد سليمان الشبل، ومحمد الشويعر، وحسن الهويمل، عبدالله حسن العبادي، ومعجب الزهراني، وأسامة عبدالرحمن. ويذكر الجاسر على رأس الفئات الثلاث عبدالله نور، وصالح الصالح، وعبدالعزيز حلواني، وصالح الشهوان، وعبدالرحمن العبيد، وابراهيم فودة، ومحمد المشعان، ومحمد سعيد الحبشي، وعبدالله بن ادريس، وحمد العقيل، وعلوي الصافي، وسعد البواردي، وعبدالله عمر خياط... وكل هؤلاء أحصى وعودهم والسنين التي مضت عليها، وناقش أسباب التأخير، ومن ثم النسيان الكامل. واذا كانت معظم مقالات الجاسر التي جمعها في كتابه من نصيب رموز الحداثة، مع ما اتسمت به من ليونة نسبية في حدتها النقدية، فإن رموز الثقافة التقليدية الذين كتب عنهم، وان كانوا من الناحية العدديّة أقل من الاولين، تعرضوا لقسوة نقدية فريدة. نشير مثلاً إلى "الشلل المقنع" عن عبدالله الحامد كاتب، و"سجين بلا أفق" عن حسن الهويمل كاتب، و"للنقد عالمه الصدئ" عن محمد بن سعد بن حسين كاتب... وتكشف مساجلة الجاسر لهؤلاء عن جدية الجهد النقدي. فهو أحاط بما كتبوه احاطة مكنته، كما مكنت القارئ، من كشف ادعاءاتهم ومفارقاتهم، بل تخبطهم في هلام المعنى، وجهلهم بما يتحدثون عنه من مصطلحات أدبية. لكنّه يفعل من دون ان يظهر في احكامه متعسفاً ومنحازاً، أو منطلقاً من عدائيّة مسبقة تجاههم. وهو بذلك يتميّز كليّاً عن ممارسات التيار الحداثي الذي اختار معظم المنتمين إليه المواجهة السهلة مع الطرف الآخر. حماة التراث ما أكثر مواقف الرفض المطلق، في صفوف التقليديين، لما يكتبه ابن حسين أو الهويمل، فغالباً ما تتمّ مساجلة هذا النتاج من فكرة مسبقة هي أنّه عديم الأهمية والقيمة. مع أن أبسط شروط النقاش احترام الآخر، وكانت يفترض بالنقاد الحداثيين قراءة الأثر بتمعن، والاحاطة به على رغم ما تبعثه تلك المادة الطويلة أحياناً من الملل والسأم والعزوف. وهذا ما يتميّز به النقد اللاذع الذي وجهه الجاسر إلى هؤلاء وأمثالهم، ممن يحتمون بذرائع واهية، ويتحصّنون من كلّ نقد باعتبار أنفسهم "حماة التراث واللغة"، في حين انهم ليسوا دائماً مؤهلين لمثل هذا الدور. يقوم منهج الجاسر على منطق التعرية، ويهدف إلى كشف آليّات الزيف التي تختبئ خلف ادعاءات الثقافة. واللافت أن الكتّاب التقليديين الذين تعرّض لهم، والحداثيون لا يختلفون عنهم، لم يدافعوا عن أعمالهم بكلمة واحدة، على رغم الطاقة التحريضيّة التي تنطوي عليها انتقاداته. وحين يتعرّض صاحب كتاب "انتاج الوهم أو عباءة الثقافة" لظاهرة الشاعر المصري أمجد ريان "حامل أجراس الفضيحة"، محاولاً من خلالها تشخيص أمراضنا الثقافية، يفعل ذلك بجرأة متجاوزاً التأويلات التي قد تصرف النقد عن غايته الفعليّة. بدأ أمجد ريان بالكتابة النقدية، فاختار تناول نتاج كتاب "قاصرين ثقافياً"، حسب الجاسر الذي يتّهم ريان بالنفعية. فهو أصدر كتابه "الابداع حالة" منظّراً لنتاج كتّاب نشروا في "دار الشعر" التي أنشأها لاصدار كتبه. هكذا خلق جوقة من الكتّاب الذين يتبادلون المديح، ويروّج بعضهم لأعمال بعضهم الآخر. وما هي الا فترة حتّى حمل أمجد ريان حقائبه وغادر السعودية. واذا كان الجاسر في معظم مقالاته ذا نفس ساخر لاذع بحكم ما يوفره له الاستقصاء والرصد من معطيات وفرص، فانه لم يسلب كثيرين ممن تناولهم حقهم من التميز أو الريادة. بل انه ينصفهم بكل وضوح وصدق، وربما كان هذا الانصاف هو ما زاد الطين بلة، وفاقم الأزمة لدى الوسط الثقافي الذي ينظر إلى من يذكر الحسنات قبل العيوب نظرة ازدراء، باعتباره أقل من أن يمدح أو يذم، خصوصاً لدى رموز الحداثة. عندما يكتب عن الشيخ حمد الجاسر تحت عنوان "رجل هو التاريخ"، يلجأ الجاسر، بعيداً عن القسوة والحدة اللتين تغلبان على كتاباته، إلى لغة تنضح وفاء وعاطفة وموضوعية وتقديراً لعطائه الفكري: "ادامك الله، أبا محمد، فنحن من بعدك يتامى". هكذا ختم الجاسر مقالته، وختم بالمقالة كتابه. كأنه يضع المثقفين السعوديين بمختلف رموزهم في كفة، والشيخ حمد الجاسر في كفة أخرى. نحن اذاً بعد الشيخ الجاسر يتامى، فجيل الحداثة - أو جيل الوهم - لا يبدو على مستوى الارث الذي تركه رجل كحمد الجاسر. هل هذا ما يفسّر حالة اليتم التي تحاصرنا بسبب القطيعة بين ثقافة الأب المؤسّس وجيل الورثة الذي لم يمدّ جذوره عميقاً في تربة واقعه لينتسب إليه؟ هذا ما يحاول جاسر الجاسر التنبيه إليه، فجيل بلا ذاكرة هو جيل بلا هويّة، ومجتمع بلا هويّة لا مكان له في حركة التاريخ .