أنعشت حلقات "ايلي حبيقة يتذكر" ذاكرة عدد من اللاعبين الذين ورد ذكرهم في الحلقات. وتنشر "الوسط" اليوم رداً تلقته من كريم بقرادوني نائب رئيس حزب الكتائب جاء فيه: "عندما "يتذكر" ايلي حبيقة يتهافت الناس على كلامه، فقد ذاع صيته بأنه رجل مخابرات من الطراز الأول، والناس مقتنعون انه على غرار رجال المخابرات يمتلك الكثير من المعلومات المثيرة والأسرار الخفية. وقد "تذكرني" في الحلقات التي نشرتها "الوسط"، لا سيما في حقبتين رئيسيتين: حقبة "الاتفاق الثلاثي" الذي وقعه مع نبيه بري ووليد جنبلاط في 28 كانون الأول ديسمبر 1985، وحقبة الحوار بين بشير الجميل وسورية عبر اللواء محمد الخولي في العام 1981. ولفتني ان الأحداث اختلطت في ذاكرة ايلي فارتكب عدداً من الهفوات في سرد الوقائع اضافة الى مغالطات في التحليل. وتجنباً للوقوع في الخطأ عينه، عمدت الى مراجعة أوراقي المكتوبة حيث أدوّن يومياتي، ولم أعتمد على الذاكرة التي كثير ما تخون أي انسان، ولو اسمه كان ايلي حبيقة، وقررت، رداً عليه، ان أفرج عن بعض المستندات والمحاضر، علماً اني رويت قصة الاتفاق الثلاثي في كتابي "لعنة وطن" الذي صدر في العام 1991، وقصة لقاء بشير والخولي في كتابي "السلام المفقود" الصادر في العام 1984."في قراءة "حقبة الاتفاق الثلاثي" لن أتوقف عند التفاصيل الكثيرة التي أوردها ايلي ومعظمها يحتاج الى تدقيق، ولا عند نياته المبيتة تجاهي، كتفكيره مثلاً بالقاء القبض علي وايذائي لأخذ معلومات مني، كما قال، وعدم تنفيذه فعلته لخوفه من سمير جعجع الذي كان سيتخذ من مسألة اعتقالي "مبرراً لبدء الاشتباك". ولا أريد ان أذكر ايلي حبيقة انه أمر في صبيحة 15 كانون الثاني 1986 بمحاصرتي في منزلي في الأشرفية ووضعي في الاقامة الجبرية. قصة "الاتفاق الثلاثي" طويلة ومعقدة، وقد قال فيها ايلي بعض الأمور الصحيحة التي سأؤكدها، وبعض الأمور غير الصحيحة التي سأصححها. لقد أكد ايلي اني ذهبت الى دمشق يوم توقيع الاتفاق الثلاثي لأنقل هواجس المسيحيين ولأضمن لسمير جعجع موقعاً، وهذا أمر صحيح. وادعى اني حرّضت سمير للانقلاب عليه، وهذا غير صحيح، وسأثبت بالوقائع اني بذلت كل الجهود الممكنة للحفاظ على العلاقة بينهما. ونقل عن لساني أخيراً كلاماً محرفاً حين كنت أودعه في اليرزة يوم سقوطه، وأعذره للسهو والخطأ، فقد كان في حالة اعياء جسدي وذهني نتيجة ما أصابه خلال ذلك اليوم القاسي. وأبدأ قصة "الاتفاق الثلاثي" من محطة الانتفاضة التي قادها سمير جعجع وايلي حبيقة في 12 آذار مارس 1985. وكانت هذه الانتفاضة أول حركة سياسية يقودها هذان الرجلان مباشرة. قبلها كان ايلي رجل الظل بطبيعة مهامه، وسمير رجل العسكر بحكم مسؤولياته، وما كان يعرفهما الا العدد القليل من السياسيين. اثر الانتفاضة أخبرني ايلي، بحضور مساعده أسعد الشفتري، انه باشر الاتصالات مع مسؤول سوري كبير عن طريق عدة أطراف. ذكر لي منهم ميشال سماحة، فنصحوه بأن يوجه رسالة الى الرئيس حافظ الأسد لفتح قنوات الحوار مع الحكم السوري. والحقيقة ان ايلي حرص قبل توجيه هذه الرسالة على ان يسألني رأيي وان يطلعني على مضمونها، فشجعته وقلت له: ان "الأوضاع العسكرية صعبة ولن تتوقف الحرب الا اذا اتفقنا مع سورية… ولا يحق لنا ان نستمر في القتال من دون ان نفتش عن حل لانهائه…". أبدى ايلي ارتياحه لكلامي، لكنه تخوّف من ردة فعل سمير السلبية. فأخذت على عاتقي اقناع سمير بصوابية هذه الخطوة وابلاغه مضمون الرسالة، وهذا ما فعلت. ووافق سمير على هذه المبادرة، وطلب من ايلي ان يسرع الاتصالات عله يقدر ان يوقف القتال فنتفادى العديد من المخاطر، ومنها عمليات التهجير في الاقليم وشرق صيدا. بعد فترة اطلعني ايلي على عزمه القيام بزيارة سرية الى سورية فرحّبت وأعلمت سمير بالأمر. وعند عودته صار ايلي شديد التكتم ولم يخبرني الا القليل عن نتائج زيارته، مما أثار التساؤلات لدى سمير الذي انتابته الشكوك اثر أخبار تلقاها بأن ايلي في صدد ابرام اتفاق مع سورية لتسلّم قيادة القوات اللبنانية، وحذرني سمير كي اتنبه للأمر. في أواخر نيسان ابريل 1985 انسحبت اسرائيل من الاقليم وشرق صيدا مما أدى الى موجة من النزوح والتهجير شبيهة بما حدث عند سقوط الجبل في العام 1983. فبهت وهج الانتفاضة واعترى المسيحيون حالة من اليأس والتعاسة، ورغبة مني في تحريك الحوار مع دمشق عرضت على سمير وايلي ان نطلب من رئيس الجمهورية أمين الجميل ان يقوم بمسعى في هذا الاتجاه، فاغتنم أمين الحشرة التي كنا فيها ليشترط ان يوقع له سمير وايلي كتاباً يفوضانه فيه التحاور مع دمشق باسم القوات اللبنانية. وافق سمير واعترض ايلي. فحررت كتاباً وقعه سمير في 7 أيار مايو 1985 وعرضته على ايلي للتوقيع فرفض بحجة انه لا يثق بأمين الجميل، وقد اكتشفت لاحقاً ان الاتصالات بين ايلي ودمشق كانت قطعت شوطاً مهماً من دون علمنا، وان ايلي كان على أهبة فتح حوار مع سورية، وكان راغباً في ان يحصر الأمر بشخصه فرفض توقيع الكتاب كي لا يشاركه طرف آخر في هذا الحوار. ولو أخبرنا ايلي بتقدم اتصالاته مع دمشق لما كنا طلبنا من أمين أي شيء. بعد يومين على ارسال الكتاب الى أمين الجميل أقدم ايلي على حركة استعراضية أثناء اجتماع قيادة القوات اللبنانية في 9 أيار 1985، فأبرز صورة عن الرسالة الموجهة الى أمين موحياً انه "اكتشفها" في حين اني كنت أطلعته عليها قبل ارسالها. وحرّض الحاضرين على سمير وعليّ شخصياً مدعياً ان ما قمنا به يخرج على أصول "القيادة الجماعية"، فتجاوب الحاضرون معه لأنهم كانوا متفقين جميعاً على مخاصمة أمين الجميل. واغتنمها ايلي فرصة ليطرح نفسه رئيساً للهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية، وانتخب بالاجماع، بعدها أخرج من جيبه بياناً مكتوباً يشيد فيه بسورية ويطالب باقامة "علاقات مميزة" معها، مما رسخ في ذهن سمير ان ايلي يحاول الاستقواء عليه بواسطة سورية. وفتح ايلي معركة اعلامية واسعة وأظهر ما حدث وكأنه انقلاب، وراح يسمي ما قام به "بحركة 9 أيار"، فغدت المواجهة حتمية بين سمير وايلي. سمير يقود رجالاً أشداء يدينون له بالولاء الشخصي، وايلي يدير جهازاً عاتياً يمسك به امساكاً تاماً. المدفع او الحوار في تموز يوليو 1985 تدهور الوضع الأمني فجأة واستهدف القصف منطقة كسروان، فطلب ايلي عقد اجتماع طارئ ضمّني وسمير وعرض خلاله الحالة وخلص الى القول: "اما المدفع السوري وأما الحوار مع سورية، فماذا تختارون؟". وافق سمير على تكليف ايلي التفاوض مع سورية وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي حول مشروع حل، وعهد الي ّ بمتابعة هذه الاتصالات. ورحت أحثُ ايلي على المضي في التفاوض، وأحذره في الوقت عينه من مغبة توظيف هذه الخطوة في خلافه مع سمير، وكثيراً ما كنت أردد على مسمعه: "ان كل اتفاق، مهما كان جيداً، يصبح سيئاً اذا اختلفنا عليه، وكل اتفاق، مهما كان سيئاً، يصبح جيداً اذا اجتمعنا حوله… يجب ان نتوصل الى مشروع سلام بين اللبنانيين دون ان نؤسس لمشروع حرب بين المسيحيين". ولم يطلعني ايلي على انه وجه الى نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام رسالة في 27 آب اغسطس 1985 مؤلفة من 13 صفحة ألحقها برسالتين مؤرختين في 29 آب و3 ايلول سبتمبر 1985، وقد شكّلت هذه الرسائل في حينه جوهر "الاتفاق الثلاثي". ولم أكن أدرك انه لم يكن في وسع ايلي اجراء أي تعديل في نص مشروع الاتفاق بسبب هذه الرسائل التي عطلت حركته التفاوضية. كان ايلي يغطي التزاماته السرية التي استحصلنا على نصوصها لاحقاً بالرد على العديد من الملاحظات: "انا لا أفهم بالدستور، أنا أفهم بالحرب". كان موقفي في غاية الدقة: ايلي يحسبني على سمير، وسمير يتخوّف من ان أتساهل مع ايلي. كان سمير يبوح لي بأن "ايلي يحاول ان يستأثر بقيادة القوات خطوة خطوة وبمساعدة سورية". وكان ايلي يسر لي بأن "سمير باطني ويحضر انتفاضة ضدي". نصحت ايلي حبيقة بأن يوسع دائرة مشاوراته حول مشروع "الاتفاق الثلاثي" لتشمل الأحزاب والشخصيات المسيحية، وقلت له حرفياً: "هذا الاتفاق أكبر من ان تتحمله وحدك، واذا تفردت به فإنك ستنوء تحت حمله". والتقط ايلي الفكرة لكن على طريقته، فراح يسوّق مشروع "الاتفاق الثلاثي" على انه مشروع سلطة لا مشروع حل. فكان لا يتوقف عند محتواه ويشدد على آليته التي تتضمن تشكيل حكومة اتحاد وطني موسعة من 28 أو 30 وزيراً وتعيين ما يناهز 35 نائباً. ولم يكن يخفي أمام محدثيه ان الاتفاق يوليه حق اختيار عشرة وزراء مسيحيين وما لا يقل عن عشرين نائباً. لاقى مشروع "الاتفاق الثلاثي" معارضة واسعة في الأوساط المسيحية، لا سيما من قبل حزبي "الكتائب اللبنانية" و"الوطنيين الأحرار". فاختار ايلي اعتماد القوة عوضاً عن الحوار. وطلب مني بصفتي رئيس الدائرة الاعلامية في القوات ان أصدر بياناً أعلن فيه "اشراف" القوات على جريدة "العمل" الكتائبية فرفضت وقلت له: "أنا غير موافق على المس بحرية الكلمة. بالأمس اختلفنا مع أمين الجميل لأنه أوقف عرض مسرحية تنتقده، فلا يجوز ان نوقف صحيفة تنتقدنا". لم يبال ايلي بكلامي وأصدر البيان باسم جهاز الأمن، واتبعه بوضع رئيس تحرير "العمل" جوزف أبو خليل في الاقامة الجبرية، وحاصر مركز قيادة حزب الكتائب. كما مارس الضغط على حزب الوطنيين الأحرار فحرك مجموعة فيه للقيام بحركة تصحيحية من داخله. لكن الرئيس شمعون تصرف كعادته بكثير من الحكمة والأبوة وأبقى اتصالات مفتوحة. ودعاني وسمير الى اجتماع في بيته في 6 تشرين الثاني نوفمبر 1985 وقال لنا: "أصبح ايلي سجين مشروعه. لقد أمسكت به سورية ولم يعد قادراً ان يتراجع تجاهها… المهم ان نحافظ على التضامن فيما بيننا، خصوصاً مع الجيش اللبناني… لا أحد يوافق على هذا الاتفاق… حتى ايلي غير موافق عليه في قرارة نفسه". ولا أصدق رواية ايلي التي قال فيها ان كميل شمعون وافق على مشروع "الاتفاق الثلاثي" ثم عاد وتملّص منه بطلب من الأميركان لأني لمست على الدوام عند كميل شمعون معارضة علنية لهذا المشروع. في مطلق الأحوال ساعدني كلام كميل شمعون على الحفاظ على الحد الأدنى من التواصل بين ايلي وسمير على أساس ان ايلي نفسه "غير موافق في قرارة نفسه". وبالفعل جنبت القوات عدة صدامات كان أخطرها يوم 4 تشرين الأول اكتوبر 1985 حين اندلعت معركة عنيفة في محيط مقر القيادة في الكرنتينا بين قوات سمير وقوات ايلي. فتوجهت لتوي عند سمير وأصررت عليه ان نلتقي وايلي في مكتب هذا الأخير فلا يطلع الفجر الا وتكون المعركة قد توقفت. قصدنا ليلاً مكتب ايلي الذي بادر سمير بالقول: "أنت عم تحضر انتفاضة ضدي، لن أسمح بها، أنا مش كالوش". وردّ سمير باللهجة عينها: "أنت عم تحتكر السلطة، لن أسمح بذلك، وأنا مش كالوش كمان". في المحصلة توقف القتال قبل بزوغ الفجر غير ان الصراع بين الرجلين لم يتوقف. في تشرين الثاني 1985 انفجرت "حرب المخيمات" وتصورت ان موضوع الاتفاق الثلاثي قد طوي موقتاً. وفوجئت في منتصف كانون الأول ديسمبر بالمشروع يتحرك من جديد ويوضع على نار حامية. وارتفعت وتيرة الاتصالات على طريق دمشق، وكان يتولاها بصورة رئيسية ميشال المر وميشال سماحة وأسعد الشفتري. وقبيل عيد الميلاد، دعا ايلي حبيقة الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية الى اجتماع طارئ وزّع خلاله مشروع "الاتفاق الثلاثي" وطلب من الحضور مناقشته واقراره، فانقسمت الآراء حوله، مما حمل ايلي على طرحه على التصويت فنال ستة أصوات في مقابل ستة أصوات ضد وامتناع جورج فريحة عن التصويت. وأمام تعادل الأصوات أعلن حبيقة بأن صوت الرئيس يرجح، واعتبر ان القوات اللبنانية صادقت على مشروعه. الصوت المرجح ولا بد في هذا المجال من تصحيح عدد من المغالطات. ليس صحيحاً، كما يزعم ايلي، ان سمير وأنا وافقنا على مشروع "الاتفاق الثلاثي"، والدليل القاطع اننا صوتنا ضده، وخرجت بعدها لأصرح في العلن أمام التلفزيون بأننا لا نعارض مشروع الوفاق الوطني، بل نعارض مضمون "الاتفاق الثلاثي" بصيغته الراهنة. وليس صحيحاً ان المشروع نال أكثرية داخل قيادة القوات على حد قول ايلي، بل الصحيح ان الأصوات كانت متعادلة واعتبر صوته مرجحاً. وليس صحيحاً ان الخلاف كان محصوراً فقط بموضوع "المثالثة ضمن المناصفة" كما يدعي، بل كان الخلاف يتناول ثلاثة مواضيع رئيسية وهي: الغاء الطائفية السياسية، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، ومفهوم التكامل الاستراتيجي والعلاقات المميزة بين لبنان وسورية. اما موضوع "المثالثة ضمن المناصفة" فكان الموضوع الرابع في سلم الخلافات. اثر اجتماع قيادة القوات اللبنانية وظهور نية ايلي حبيقة بالتوقيع على "الاتفاق الثلاثي" مهما كانت العواقب، دعا سمير الى اجتماع سري في 24 كانون الأول 1985، وجرى التداول في كيفية التعامل مع الوضع المستجد. وانقسم المجتمعون الى رأيين: رأي يقول بضرورة منع ايلي حبيقة من الذهاب الى دمشق للتوقيع ولو اقتضى الأمر اللجوء الى القوة، ورأي يقترح ترك ايلي يوقع الاتفاق ويرتكب الخطأ فيسهل الانقضاض عليه. وكان سمير يميل الى الرأي الثاني. وأحسست ان الأحداث تتجه في كلتا الحالتين باتجاه حمام من الدم، فقلت للمجتمعين: "لا تنظروا الى الاتفاق بمنظار ضيق محصور بالصراع داخل القوات اللبنانية. انه مشروع كبير ترعاه دولة اقليمية كبيرة هي سورية. بمقدورنا اللعب مع ايلي ولكن لا نتحمل اللعب مع سورية، ولا يحق لنا ان نعرقل حلاً قد يخرج الوطن من محنة طالت بحجة صراعاتنا الداخلية… فقد أذكركم اننا وافقنا على تكليف ايلي بالتفاوض باسم القوات مع سورية. ووافقنا على مبدأ الاتفاق مع حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي برعاية سورية. كما وافقنا على مبدأ العلاقات المميزة مع سورية. الخلاف يتناول بعض المفاهيم وبعض التفاصيل. وبمقدورنا الحصول من سورية على بعض التطمينات والتوضيحات". فاجأ كلامي المجتمعين بمن فيه سمير الذي اختليت به على انفراد، وقلت له: "يجب تحاشي اراقة الدماء، وينبغي انهاء القطيعة مع سورية، واذا قرر ايلي الذهاب الى دمشق فأنا عازم على الذهاب معه بغية طرح كل الهواجس الوطنية والشخصية، واذا سنحت لي فرصة مقابلة الرئيس الأسد فأنا واثق انه سيفهمنا". أدرك سمير قصدي وأجابني بعدما دار عدة دورات في الغرفة: "أنا أفهم موقفك لكن الناس لن يفهموا. ايلي مصمم على التوقيع فاذا رافقته سينعكس الأمر عليك سلباً، كما قد ينعكس عليّ نظراً الى العلاقة الوثيقة التي تجمعنا. لا أنصحك بالذهاب، واذا قررت العكس لا أستطيع أن أمنعك، ولكنك تذهب على مسؤوليتك الشخصية". لم أقدر أن أغمض العين تلك الليلة وانتظرت الفجر أفكر وقد ساورني القلق الشديد. وقصدت صباحاً ايلي حبيقة في منزله في أدما، وكان بيت ايلي مليئاً بالهدايا والمناخ عابق بجو عيد الميلاد، غير اني أصررت على التحادث معه، فقلت له: "يا ايلي، لا يمكن السير بالاتفاق الثلاثي لوحدك. وليد جنبلاط غير متحمس له. القيادات السنية غائبة عنه. معظم النواب غير مطلع عليه. سليمان فرنجية يبدي تحفظات حول الاصلاحات السياسية فيه. أمين الجميل لا يقر به. كميل شمعون يعارضه. حزب الكتائب يرفضه، ونصف القوات اللبنانية على الأقل صوتت ضده. لا تخطئ التقدير ان هذا الاتفاق لا ينهي الحرب ولا يقوم مقام الوفاق الوطني، انه يشكل في احسن الأحوال خطوة أولى على طريق الوفاق. الاتفاق الثلاثي ليس حلاً، وما زالت أمامه أهوال كثيرة. يقتضي ان يتخذ الصفة الشرعية ولا يبقى اتفاق ميليشيات، ويحتاج الى موافقة رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب. كما ينبغي ان يكتسب صفة وطنية واسعة فينضم اليه المبعدون والمتحفظون وعلى الأقل بعض المعارضين. وأول خطوة تقع على عاتقك هي ان تجمع عليه القوات فلا توقّع من دون موافقة سمير". أجابني ايلي: "سمير مش موافق ولن يوافق لأنه يرى ان الاتفاق لصالحي وضد صالحه". فأجبته: "لهذه الأسباب عليك ان تعمل واحداً من أمرين: اما ان تعدل الاتفاق فتوسع قاعدته المسيحية، وأما ان تؤمن مكاناً لسمير فيه فتحميه قواتياً. عليك اما ان تحسّنه بالتعديل وأما ان تحصّنه بسمير". تفحصني ايلي من تحت الى فوق وسألني اذا كنت أعبّر عن رأي سمير، فأجبته بالنفي، فقال لي متململاً: تعال معي الى دمشق واشرح لهم الموقف". قلت: "أنا مستعد". فوجئ ايلي بجوابي ولم يصدق. وعندما أكدت له عزمي ان أحمل الى دمشق الهواجس التي ولدها الاتفاق علناً "نحسّنه أو نحصّنه"، ارتاح بعض الشيء، ولا أعرف اذا ما ارتاب بكلامي لأن عقله المخابراتي كثيراً ما كان يغلب عقله السياسي. الى دمشق اعتقد ان ايلي اراد اختبار نياتي وموقف سمير وتحسين مواقعه فأشاع خبر موافقتي على الذهاب معه الى دمشق. وانهالت عليّ الاتصالات المستغربة من قبل الرفاق والأصدقاء، وتذكرت كلام سمير الذي حذرني من الضرر الذي سيلحق بي بمجرد الصعود الى سورية. كما اتصل بي مستفسراً معظم السياسيين المسيحيين الذين قرروا الذهاب مع ايلي الى دمشق أو كانوا على اهبة اتخاذ مثل هذا القرار، أمثال الرئيس الياس الهراوي الذي كان نائباً آنذاك، والوزير ميشال اده وطبعاً الصديق فؤاد بطرس الذي كان على علم بمضامين مشروع الاتفاق، وقد أبدى عدم ارتياحه لمساره. رأيت ان أتشاور وفؤاد بطرس قبل يوم من التوجه الى دمشق فشرحت له خلفيات خطوتي فقلت: "أريد حقن الدماء عن طريق تعديل الاتفاق أو عن طريق اشراك سمير في الحكومة، علماً ان سمير غير موافق على هذه الخطوة ولم يطلب مني شيئاً". هز فؤاد بطرس رأسه وابتسم ابتسامة حزينة وقال لي بكثير من الودّ: "وضعك دقيق كتير… اذا كنت أقدر ان أساعدك، فأنا جاهز". ظلت الريبة تساور ايلي حول احتمال ذهابي معه حتى يوم 28 كانون الأول 1985 عندما أصر ان ارافقه على طريق الشام في سيارته التي كان يقودها بنفسه. وما أن وصلنا الى دمشق حتى شعرت ان الجو ضاغط وكل شيء معد سلفاً ولا مجال للبحث أو المناقشة: الاتفاق، التوقيع، الاعلام، الديبلوماسيون العرب والأجانب. فطلبت الاجتماع بعبدالحليم خدام الذي التقاني في ساعة متأخرة من الليل. عاتبني على موقفي المعارض للاتفاق الثلاثي. شرحت له كل الخلفيات والهواجس اقتناعاً مني انه سينقلها الى الرئيس الأسد قبل اجتماعنا به صباح اليوم الثاني. وكانت لهجة خدام في غاية القساوة ولا تخلو من التهديدات. قال لي بشأن أمين الجميل: "خلي أمين علينا اما بيمشي بالاتفاق وأما بيمشي من البلد". وبشأن سمير قال: "خلي على ايلي هو أقوى من سمير بنسبة واحد الى ستة". فهمت الرسالة، وفهمت بأن لا جدوى من اكمال الحديث، واكتفيت بنقل وجهة نظري بكل صراحة ووضوح فيما يتعلق بمواضيع الغاء الطائفية السياسية وصلاحيات رئيس الجمهورية ومفهوم التكامل اللبناني - السوري والعلاقات المميزة، وعدت الى الفندق متضايقاً ومتشائماً. اتصل بي ميشال المر يدعوني الى اجتماع في صالونه بغية البحث في تشكيلة الحكومة المقبلة ملمحاً بأنهم يبحثون أمر تعييني وزيراً للثقافة بعدما يتم فصل هذه الوزارة عن وزارة التربية الوطنية، اعتذرت عن الاجتماع بحجة اني تعب والوقت متأخر و"بكير البحث بالحكومات". قبل ظهر اليوم التالي استقبلنا حافظ الأسد والوفد المسيحي الموسع الذي رافق ايلي حبيقة وبدا الرئيس السوري مرتاحاً ومنشرحاً يمازح بعضنا ويحادث بعضنا الآخر. وخصني بالكلام عدة مرات مستشهداً بي حيناً ومبدياً ملاحظاته حول كتابي "السلام المفقود" أحياناً. وتخيلت من بعض الاشارات ان عبدالحليم خدام وضعه في جو لقائي به، فقال لجهة التكامل الاستراتيجي بين لبنان وسورية: "نحن في سورية بعثيون وجيشنا جيش عقائدي ونعد الوحدة العربية من أهدافنا المركزية. الشعب السوري وحدوي بالسليقة، ومستعد للانخراط في أي وحدة عربية ترغب في الوحدة مع سورية… ان الوحدة العربية رسالة عندي، وسورية مستعدة لاعلان الوحدة ولو مع موريتانيا فكم بالأحرى مع لبنان". وتوقف برهة ونظر الى الحاضرين وأضاف: "غير ان الجيش السوري لم يدخل لبنان لاقامة الوحدة معه. الجيش السوري دخل لبنان لاعادة وحدته. ومن منطقي الوحدوي بالذات رأيت ان اعادة توحيد لبنان لها أسبقية على اقامة الوحدة معه. فما نفع الوحدة اذا كان لبنان مقسماً؟". وأنهى حديثه قائلاً: "نحن نتفهم الأوضاع اللبنانية، ونؤيد اتفاق اللبنانيين ولا نتوقف عند كلمة بالزائد وكلمة بالناقص. كل الأمور قابلة للتصويت والتصحيح لاحقاً، ويجب التعامل معها بواقعية وصبر". فور انتهاء الرئيس السوري من حديث استغرق ما يقارب الساعة، قلت: "لا أريد ان أخفيكم الحقيقة: في دمشق جو من الفرح، وفي بيروت جو من القلق. المهم ليس الاتفاق بحد ذاته، بل المهم مشاركة كل الأطراف فيه، فلا يشعر أحد انه مهزوم أو مقهور". هزّ الأسد رأسه وقال: "نحن نعرف معنى القهر ونتائجه. القهر يولد دولة المقهورين. وكنت أول من أعلن هذا الموقف عام 1976، وتصرفت على هذا الأساس وتحملت معارضة العالم كله. نرفض القهر في لبنان من أي فئة كانت. نحن واعون حجم التعقيدات غير انه يجب علينا ان نبدأ من نقطة معينة، وقد بدأنا، والمشاكل تحل تباعاً…". عدت من دمشق حائراً: تطمينات الرئيس السوري مريحة ولكن تشدّد نائبه غير مريح. وتعمدت ان اجتمع بسمير فور وصولي الى بيروت لأطلعه على كل المجريات ولأطلب منه في المحصلة ان ينتظر بعض الشيء ولا يتورط في أي عمل عسكري على أمل ان تأتي "اشارة ما" من دمشق. استمع سمير بتأن وعلق بقوله: "أنت عملت يللي عليك، خلينا نشوف اذا لح يعملوا يللي عليهم". وانكفأت انتظر، لكن الأحداث لم تنتظر وتلاحقت. في 31 كانون الأول 1985، وعلى طريق "نهر الموت" استهدف انفجار كبير الموكب الذي كان من المفترض ان يقل ايلي حبيقة ونجا منه أسعد الشفتري بأعجوبة. في الأول من كانون الثاني 1986 صادر ايلي حبيقة أعداد مجلة "المسيرة"، وهي مجلة القوات اللبنانية التي اتخذت خطاً معارضاً للاتفاق الثلاثي. وسادت المنطقة المسيحية أخبار واشاعات حول اعتقالات وتحضيرات واستعدادات لمواجهة عسكرية. في 2 كانون الثاني يناير 1986، زار أمين الجميل دمشق حيث استمع الى كلام مفاده ان السلطات الدستورية فقدت كل قدرة على الحكم وكل صفة تمثيلية، وان السلطات الواقعية المتمثلة بالميليشيات هي التي تمتلك هذه القدرة وتلك الصفة وبالتالي فإن "الشرعية الثورية" تفوقت على "الشرعية الدستورية". استمهل أمين للجواب وعاد الى بيروت وبدأ يسرع عملية التفاهم مع سمير. وبين زيارة أمين الجميل في 2 كانون الثاني 1986 وزيارته الثانية في 13 التقيت ايلي حبيقة مرات عدة ودعوته الى العمل لدى دمشق لكي ترسل اشارة ايجابية ما الى سمير فننفس جو الاحتقان. لكن ايلي كان يتظاهر حيناً بأنه غير مهتم، وأحياناً بأنه غير قادر على اقناع دمشق بسبب المشكلة العالقة بين سمير وسليمان فرنجية، وقلت له مراراً: "سورية قادرة ان تنفذ الاتفاق بنسبة تسعين في المئة لكن سمير قادر ان يعرقله بنسبة عشرة في المئة، فمن الأفضل ان يتم كسب تأييد سمير له فيصبح مضموناً بنسبة مئة في المئة". ولمست ان ايلي يفضل ان ينفذ "الاتفاق الثلاثي" من دون سمير فيستأثر بمغانمه منفرداً. خطأ ايلي انه كبر من قدرته وقلل من قدرة سمير، وغفل حكمة سياسية كنت أرددها على مسمعه في تلك الفترة وهي ان "لا أحد يستطيع ان يحقق انتصاراً كاملاً لوحده في لبنان". حصار الكرنتينا في 15 كانون الثاني 1986، حاصر سمير ايلي في الكرنتينا وطلب مني التوجه الى وزارة الدفاع للبحث في شروط اخراج ايلي والياس ميشال المر المحاصرين. وفي المساء قام الجيش اللبناني باخراج ايلي ومقاتليه وتم نقلهم الى وزارة الدفاع، وكانوا منهكي القوى والأعصاب. طلب مني ايلي احضار زوجته وابنه ففعلت. وجلست معه الى ساعة الفجر بانتظار الطوافة التي ستقله الى الخارج. تكلمنا قليلاً. سألني بحزن: "ليش صار هيك؟". اجبته: "انت اخترت الطريق الصحيح لكنك لم تستعمل الوسيلة الصحيحة. كان عليك ان تسير على طريق الوفاق الوطني ولكن بعد التفاهم مع أوسع مجموعة من المسيحيين، أو على الأقل مع سمير. ولأنك تفردت تجمّعوا عليك وأضعت فرصة الحل عليك وعلينا ويمكن لفترة طويلة". بعدها قال لي ايلي: "انا انهزمت وقرفان وذاهب الى غير رجعة… ولكن ماذا ستفعلون انتم؟". قلت له: "أنا قرفان كمان. يكفي رؤية شبابك نائمين على الأرض من شدة التعب والخيبة حتى أحزن عليهم وعلى حالنا. الحرب ضد الآخرين حولتهم الى ابطال ورموز، والحرب على السلطة داخل القوات جعلت منهم مهزومين وضحايا. انا قرفان لأن الدم الذي سال هو في غير محله ولقد راودتني فكرة مغادرة لبنان أكثر من مرة، لكني لن أفعل لأننا كلنا مسؤولون ويجب ان نتحمل المسؤولية حتى النهاية. لا أعرف ماذا سأفعل غداً، بل أعرف ان غداً صعب، وأكثر ما أخشاه هو قيام حالة من الصراع الطويل بين المسيحيين وسورية بسبب سقوط الاتفاق الثلاثي…". هذا أهم ما دار من حديث بيني وبين ايلي في ليلة الوداع وما ردده من كلام مغاير لپ"الوسط" غير صحيح. وهذه بعض فصول "الاتفاق الثلاثي" التي تثبت اني عارضت الاتفاق لكني حاولت جاهداً ان أمنع اقتتال الأخوة، خلافاً لمزاعم ايلي. وأظن اليوم انه لو لم يتفرد ايلي بالسلطة داخل القوات في 9 ايار 1985، لما كان حدث الانقلاب عليه في 15 كانون الثاني 1986. ان سبب سقوط ايلي حبيقة ليس مرده تفاهمه مع سورية ونبيه بري ووليد جنبلاط، بل عدم تفاهمه مع سمير ومحاولته الاستئثار منفرداً بالحل وبالعلاقة مع سورية وعلى حساب الآخرين. اذا كان ما قاله ايلي في شأن "الاتفاق الثلاثي" صحيحاً في بعض جوانبه وغير صحيح في البعض الآخر، فإن ما قاله عن دوري في شأن الاتصالات التي تمت بين بشير الجميل ومحمد الخولي عام 1981 غير صحيح كلياً. ولفتني في كلام ايلي انه لم يكن على اطلاع على تطور العلاقة بيني وبين بشير، ولا على حقيقة الاتصالات بين بشير وسورية. يقول ايلي ان بشير التقى محمد الخولي "في العام 1981 ابان حرب زحلة"، وانه جرى في حينه جدل داخل القوات حول الاستعانة بي "لاعداد ورقة" يقدمها بشير الى سورية. ويضيف: "أعتقد ان كريم نصب يومذاك كميناً وقع فيه بشير. وخلاصة القصة هي تصوره ان السوريين يريدون جزءاً من لبنان في البقاع والشمال، وانهم اذا وعدوا بالحصول عليه سيوافقون في المقابل على ان تأخذ القوات حصتها أي حصة المسيحيين من أرض لبنان". هنا أخطأ ايلي في الوقائع وفي الاستنتاجات وبصورة فادحة. فالجدل الذي اثير حول استعانة بشير بي في علاقاته معپسورية لم يطرح عام 1981، بل قبل عام على الأقل، أي في مطلع عام 1980، حين كلفني بشير، اثر وساطة قام بها رئيس الجمهورية الياس سركيس مع سورية ان أنقل رسالة منه ومن حزب الكتائب الى دمشق. وقد أطلعني بشير على الجدل الذي جرى في شأني داخل القوات. في هذا الاطار قمت بزيارة أولى في 23 شباط 1980 وبزيارة ثانية في 2 نيسان 1980 وبزيارة ثالثة في 7 نيسان برفقة جورج سعادة رئيس الكتائب حالياً، قدمنا خلالها باسم الكتائب والقوات اللبنانية ورقة عمل لحل الأزمة. اسفرت هذه الاتصالات عن تقارب بين بشير ودمشق جرت ترجمته العلنية في منتصف نيسان 1980 عن طريق اطلاق بشير سراح 55 معتقلاً سورياً لديه، واطلاق سورية سراح 16 معتقلاً كتائبياً لديها. وتضمنت ورقة العمل التي تقدمنا بها خمسة بنود: 1 - رفض التوطين الفلسطيني وضرورة اخضاع كل الفلسطينيين المقيمين في لبنان لسيادة الدولة اللبنانية وقوانينها. 2 - سحب الجيش السوري تدريجاً، واحلال الجيش اللبناني محله بموجب برنامج زمني يجري التفاوض في شأنه مع السلطات اللبنانية. 3 - اقامة علاقات خاصة بين لبنان وسورية، من دون عقد معاهدة أمنية. 4 - الموافقة على اعلان عروبة لبنان بشرط الا يكون مقدمة لأسلمة البلاد. 5 - تطبيع العلاقات الكتائبية - السورية وضمان أمن سورية في المناطق الخاضعة للاشراف الكتائبي. وتواصلت الاتصالات الى حين اندلعت المعارك في زحلة في كانون الأول 1980 بين القوات اللبنانية والجيش السوري. الحّ بعدها الرئيس اللبناني على الرئيس السوري معاودة الاتصال مع بشير فجرى تكليف محمد الخولي بهذه المهمة، والتقى بشير في القصر الجمهوري مرتين خلال أربعة أيام في 27 و30 نيسان 1981. وطلب الموفد السوري من بشير في اجتماعه الثاني ان يتقدم بورقة عمل حول تصوره لتسوية الأزمة اللبنانية. في أوائل ايار سلمني بشير ورقة عمل مكتوبة بخط أمين سره انطوان نجم، وأخبرني انها حصيلة آراء فريق القوات. قرأتها فلم تعجبني، اقترحت على بشير ان يتخلى عنها ويتبنى الورقة التي تقدمنا بها في العام الماضي باسم الكتائب والقوات. أصر بشير على ان أبدي رأيي في الورقة المعدة فاستمهلت. في اليوم التالي تقدمت الى بشير بملاحظتي حول ثلاثة بنود. كان البند الأول ينص على ما يأتي: "المباشرة فوراً باحلال الجيش مكان أي قوة مسلحة أخرى، وبخاصة في الأماكن والمواقع التالية: - تلال زحلة والمداخل والطرق المؤدية الى المدينة فك الحصار. - تلال صنين وجرود كسروان وجبيل. - أعالي المتن الشمالي بما فيه عينطورة والمتين وترشيش والطريق المؤدية الى زحلة. - أقضية البترون والكورة وبشري وزغرتا. - الطرق المؤدية الى المطار الدولي". ورأيت ان تعاد صياغة هذا البند بحيث يتضمن مبدأ انسحاب الجيش السوري التدريجي واحلال الجيش اللبناني محله، وترك موضوع خريطة الانسحاب والبرناج الزمني للتفاوض بين الجيش، مع التشديد على ضرورة فك الحصار فوراً عن زحلة. وأشرت الى تعديل ثانٍ ضروري يتعلق بالبند الذي ينص على ما يأتي: "الى ان يصبح الجيش اللبناني الأداة الأمنية التي توحي بالاطمئنان الكامل لجميع اللبنانيين، يعهد الى لجنة خاصة القيام بصورة سريعة باعداد هيكليات وصيغ وترتيبات تكفل احلال الأمن والطمأنينة الكاملة للمسيحيين. وفي هذا الاطار يصار الى الاعتماد على القوات اللبنانية كأداة أمنية، وتمتنع سورية عن الطعن بها". حذرت بشير من خطورة هذا البند وقلت له ان السوريين سيرون في عملية الانسحاب الجزئي المحددة في البند الأول معطوفة على مطالبة تشريع القوات اللبنانية الواردة في البند الثاني برنامجاً تقسيمياً يرمي الى اقامة دولة مسيحية في المنطقة التي ينسحب منها الجيش السوري وتحويل القوات اللبنانية الى جيش مسيحي يدافع عن هذه الدولة. وقلت له: "لا تنس ان دمشق تتهمك بأنك تقسيمي، فلا تقدم لها ما يثير شكوكها لهذه الناحية". أجابني بشير على الفور: "أنا توحيدي أكثر مما يتصورون، ولو كنت تقسيمياً لما كنت أتفاوض مع سورية". اما البند الثالث الذي رأيت ضرورة تعديله فقد ورد في آخر ورقة العمل كالآتي: "وفي هذا الاطار يعتبر اعتماد التمثيل الديبلوماسي بين البلدين مصدر طمأنينة لكليهما ووسيلة فعالة لترجمة العلاقات في نصها وروحها بين البلدين التي نرغب في ان تكون على نحو متميز". علقت على هذا البند بقولي: "على رغم ان مطلب التبادل الديبلوماسي أمر طبيعي بين بلدين مستقلين فأنه يثير لأسباب تاريخية وسياسية كثيرة حساسية السوريين ويحرجهم، فاقترح عليك شطبه". وبعد ان استمع بشير الى ملاحظاتي أخذ يقلب ورقة العمل بين يديه وقال لي: "ما تقوله مهم ومفهوم، لكني أفضل منذ البداية أن أصارح السوريين بكل ما أفكر ولو كان سقفه عالياً. اذا أرادوا التفاوض معي سيكتشفون اني افتش عن حل جذري وتوحيدي الى أقصى الحدود، وأني مستعد ان أراهن عليهم الى أقصى الحدود…". أجبته: "لا تستعجل المراحل. كل مفاوضة تتطلب الحد الأدنى من الثقة، وهذا ما ليس متوافراً بينك وبين السوريين، ويجب بناء جسر ثقة معهم فيتعرفون الى حقيقتك، عندها وعندها فقط يمكنك ان تطلب منهم ما تريد". أبقى بشير الحديث معلقاً، ولم يطلعني على مضمون الورقة التي قدمها لمحمد الخولي بصورتها النهائية. وكل ما أعرف انه جرى اجتماع ثالث وأخير معپالموفد السوري حضره ايلي حبيقة على غرار الاجتماعين السابقين، قدم خلاله بشير الكتاب، موضوع البحث. وفي 6 حزيران يونيو جاء الجواب السوري اثناء انعقاد اللجنة العربية الرباعية في بيت الدين، اذ قام عبدالحليم خدام بتوزيع نسخة عن كتاب بشير وفسر مضمونه بأنه محاولة من بشير "للاستيلاء على جزء من لبنان يبني عليه كياناً مسيحياً بالاتفاق مع اسرائيل، تاركاً الأجزاء الأخرى للبنانيين الآخرين". بعدها التقيت بشير فبادرني آسفاً: "كان معك حق استعملوا كتابي ضدي". بناء على ما تقدم، يتبين بأن بشير كلفني بالملف السوري في مطلع العام 1980 وليس كما "يتذكر" ايلي في العام 1981. وقد نجحت في التوصل الى اتفاق قضى باطلاق سراح المخطوفين من الجانبين ووقف الحملات الاعلامية المتبادلة ما يقارب الثمانية أشهر. وأعتقد بأن بشير تكتم في اطلاع رفاقه في القوات اللبنانية، بمن فيهم ايلي حبيقة على سير هذه الاتصالات خوفاً من ان تتسرب بعض المعلومات الى اسرائيل. وما زلت احتفظ بصورة عن ورقة العمل التي أعدها فريق القوات كما احتفظ بالتعديلات التي قدمتها لبشير والتي لم يؤخذ بها. والواقع انني لم أشارك في أي من الاجتماعات الثلاثة التي تمت مع محمد الخولي في حين ان ايلي حبيقة شارك شخصياً فيها جميعاً، وكان بالتالي مطلعاً وموافقاً على ورقة العمل التي حذرت بشير من مخاطر تقديمها. فيتضح بما لا يقبل الجدل بأني لم أنصب لبشير أي كمين، كما يزعم ايلي، بل ان غيري هو الذي نصب كميناً، اذا كان هناك من كمين. استغرب أخيراً الأحكام الغيبية التي يطلقها ايلي حبيقة في مذكراته، كما استغرب ان يكون قد نسي أو تناسى اني بذلت جهوداً استمرت سنوات طويلة ومضنية من اجل تقريب حزب الكتائب من سورية، وسورية من بشير الجميل، وقد تحملت من جراء هذا الدور الكثير من المتاعب والمشقات والانتقادات العنيفة من غالبية شباب الكتائب والقوات، بمن فيهم ايلي حبيقة شخصياً. ان أسوأ المذكرات تلك التي يكتبها الانسان بقصد تصفية الحسابات بدلاً من ان يكتبها بقصد انارة التاريخ" .