الملف الذي بين ايدينا هو حكاية رمز من رموز الحرب اللبنانية و"الحياة" لم تتدخل سوى في اعادة توليف الرواية بعد ان قدمها صاحبها بتفاصيلها ووقائعها. حاولنا هنا خلق سياق لهذه الوقائع، وحاولنا ايضاً تقريب الرواية ودفعها الى ان تتجانس مع البيئة الاجتماعية والنفسية لراويها. دفعنا باتجاه تقديم الحرب على انها رواية صغيرة، صغيرة ليس بوقعها وبنتائجها ولكنها صغيرة لأنها حدث شخصي ايضاً. كان هذا امراً صعباً لسببين، الأول ان اسعد شفتري خاض الحرب ملتصقاً بجماعته ومندمجاً في اوهامها وهواجسها، والثاني ان اسعد شفتري نشأ وكبر في جهاز امن، ومن كانت هذه حالهم لا يجيدون الكلام، فهم دائماً خلف الصورة. على قدر ما هم حقيقتها وجوهرها. أعدنا كتابة اجزاء من سيرة شفتري ولا ندعي هنا اننا انجزنا ملفاً من ملفات الحرب اللبنانية، فهذه الأخيرة لم تنجز بعد كرواية واحدة تتضمن الكم الكبير من الأحداث والوقائع والمآسي، ولم يتقدم احد بعد بما لديه. أسعد شفتري حاول هنا، لعلنا نوفق بمحاولات اخرى. تحدث شفتري عن نشأته في ظل اجواء الشحن، وعن انخراطه في أسلاك الكتائب والقوات اللبنانية، روى آلية التحكم بمصائر المخطوفين وذلك السماح الذي حصل عليه من رجل دين غفر له إعدام مئات المخطوفين. مشاريع تخفيض نسب الخصوبة لدى الطوائف الأخرى، والعلاقات العنيفة التي ربطت بين قادة القوات اللبنانية. وهنا في الحلقة الثالثة يتحدث شفتري عن الخطط التي اعدت لفترة حكم الرئيس بشير الجميل، وعن ذلك الخروج الجحيمي الى زحلة. قبل ستة اشهر من اغتيال بشير وصلنا خبر من مخبر لنا يعمل لدى الفلسطينيين ان شخصاً من آل الشرتوني سيضع عبوة ناسفة على سطح منزل بشير، يومها جردنا كل آل الشرتوني الذين نعرفهم ومن بينهم رفاقنا. وفي حينها تأكد لنا ان منزل بشير في الأشرفية خال من اي عبوة وان امكان تفخيخه امر مستحيل. وقبل مدة من ان يصبح رئيساً انتزعت منا مهمة امنه المباشر، واسندت الى جهاز امن خاص. اصابني احباط لا يوصف عندما تيقنت من موت بشير. احساس كبير بالمسؤولية، واسئلة لم اكن قد هيأت نفسي للاجابة عنها. لقد كان الرأس والجسم، والقوات لم تكن جاهزة لقيادة جماعية، زعزع موته كل الركائز. اضطررنا لمبايعة شقيقه امين الذي نشأنا على كراهيته، وكانت الكأس المرة الذي شربناها بقبوله اشد مرارة من الكأس التي شربناها بموت شقيقه بشير. امر آخر ربما خفف من وقع اغتيال بشير علينا، فقد كنا نعيش نشوة انتصارنا على الفلسطينيين. هذا الأمر شعر به الكثيرون من الدوائر الأبعد حول بشير، اما نحن الدائرة الأضيق ومطبخ خططه الرئاسية فقد راح احباطنا يبرد، ولكنه تحول الى صفة ملازمة ننظر من ورائها الى سقوط مشاريعنا واحداً بعد الآخر. اجل الخطط التي اعددناها لفترة حكم بشير لا يمكن لغيره ان يتبناها. لقد خطط بشير لاستحداث منصب نائب رئيس الجمهورية على ان يكون مارونياً ايضاً، كما شغلتنا نحن مطبخ الخطط الرئاسية قضايا من نوع تأمين التوازن الديموغرافي بين المسلمين والمسيحيين، ومن الأفكار التي طرحت لتأمين هذا الأمر والتي اشكر الله على عدم تمكننا من تحقيقها، تتمثل بضرورة ان تتناقص اعداد المسلمين 500 الف نسمة. لم نفكر بالوسيلة لتحقيق ذلك اذ باغتنا مقتل بشير، ولكننا طرحنا افكاراً مختلفة منها على ما اذكر خفض معدلات الخصوبة عبر مواد توضع في المياه التي تضخ عبر شبكات المياه الى مناطق معينة. كان كثيرون من قادة الأحزاب المسيحية يعارضون ما نفكر به، واستمروا معارضين حتى اللحظة الأخيرة، الشيخ امين كان من بينهم، واستطيع القول اننا نحن انفسنا كنا حائرين بخططنا هذه، إذ شعرنا ما ان بدأ بشير يقترب من الرئاسة بضرورة مخاطبة الآخر، فالفرق كبير بين ان تكون معتبراً نفسك مظلوماً وضعيفاً وبين ان تكون قوياً ومنتصراً. علاقتنا بالجيش اللبناني تفاوتت خصوصاً في عهد امين الجميل، ولكننا حين كنا نشاغب عليهم كنا كمن يشاغب على والده. كنا نزود بعدد من بطاقات المهمة التي يصدرها الجيش لعناصره واجهزته وعندما كنا نحتاج لأعداد اضافية من هذه البطاقات كنا نزور اعداداً منها. واذكر حادثة حصلت لنا، فقد ارسل احد المسؤولين في القوات عدداً من البطاقات الحقيقية الى وزارة الدفاع لتجديدها ولكنه ضمنها خطأً بطاقات مزورة. هذا الخطأ لم ينجم عنه شيء، اذ عادت جميع البطاقات المرسلة الى وزارة الدفاع مجددة. وفي هذه الفترة من بداية حكم أمين الجميل قمنا بأعمال أمنية عدة في بيروت الغربية. اعتقلنا ناشطين في الأحزاب الفلسطينية واللبنانية اليسارية. كان هناك بعض الرموز الذين قررنا ازالتهم. وفي العام 1984 شعرت بضرورة تحسين وضعي المادي. فقد كنت اتقاضى راتبي من القوات، ولكنه لم يكن يكفي، في حين كانت القوات بدأت تصبح مؤسسة كاملة، اي دولة تفرض الضرائب على مختلف الانشطة الاقتصادية، وبما اننا كنا سلطة كانت لنا الافضلية. تشاركت انا وعدد من رفاقنا واشترينا صالة للعب البينغو في الحازمية. غيري ايضاً استفاد من هذه الافضلية، فتاجر بالسلاح، وآخرون كالمحامين مثلاً دخلوا الى العمل المصرفي، والبعض الآخر عمل في مجال النفط. وفي هذه الفترة ايضاً كنا عائدين من الحلم الاسرائىلي حاملين خيبتنا الكبيرة. لقد اعتقدنا ان الاسرائىليين احبوا المسيحيين وسيسهمون في تأسيس وطن قومي لهم يحاكي وطنهم. الخيبة كانت كبيرة، والأسلوب الذي تصرف فيه الاسرائىليون في الجبل ولاحقاً في شرق صيدا، اثبت لنا ان مصالحهم فوق كل شيء. بدأ أمين الجميل في هذه المرحلة يمد نفوذه الى داخل مؤسسة القوات اللبنانية. فأصبح قائد القوات ابن شقيقته فؤاد ابي ناضر، وشرع يسعى الى تطبيق بروتوكول كان بشير وقعه ويقضي بأن تعترف القوات اللبنانية بأنها تابعة لحزب الكتائب، وان اعضاءها انتموا اليها بإذن من الحزب. شعرنا بأن هناك جهوداً لتذويب القوات اللبنانية ضمن حزب الكتائب وانه لن يعود لنا خطنا السياسي المستقل. حملنا في تلك الفترة مشاعر متناقضة، منها الخوف على السلطة وعلى استقلالية القرار. قيادة القوات في هذه الفترة كانت تتوزعهم مراكز قوى. فؤاد ابي ناضر قائد ضعيف، وايلي حبيقة شريك عبر جهاز الأمن وسمير جعجع عبر العسكر. هذه الخلفيات هي التي كانت وراء الانتفاضة الاولى في القوات اللبنانية، والتي ازيح بعدها ابي ناضر عن قيادتها، لتتسلمها من بعده قيادة جديدة لم يسم رئيس لها وانما تكرست فيها القسمة التقليدية، اي حبيقة الأمن وجعجع العسكر، وجرى توزيع النفوذ لاشراك القطاعات المختلفة، فالاعلام لهم جعجع ولنا مشرف عليه، والمالية لنا حبيقة ولهم مشرف عليها. وكنت أنا مأخوذاً في هذه التوزيعات ومراقباً لمدى انصافنا فيها. وترافق تولي القيادة الجديدة للقوات مع ارسال السوريين اشارات يقولون فيها انهم ينظرون الى ما يجري في المناطق المسيحية بعين القلق، وان الخط الاسرائىلي في القوات اللبنانية عاد وانتعش بعد ان كان هزم في الجبل وشرق صيدا. وصلتنا معلومات عن حشود سورية في المناطق المحاذية للمناطق الشرقية لدعم الرئىس الجميل في حال قرر خوض معركة القوات اللبنانية. جرى اجتماع للقيادة الجديدة، قوّم خلاله الوقوف في وجه السوريين. لقد فقدنا الدعم الاسرائىلي، وصار من الممكن ان تنهار جبهتنا في أقل من يوم واحد. اصبحنا مضطرين للاتصال بالسوريين. لم تكن قيادة القوات قيادة منسجمة، اذ شهدت مؤسسات القوات في مرحلة قيادتها الجماعية تجاذبات من انواع مختلفة وصلت الى السياسة، ولكن متن هذه الخلافات كان سلطوياً شخصياً، ومناطقياً بالدرجة نفسها. انها مقدمات الانتفاضة الثانية التي جاءت بايلي حبيقة قائداً للقوات. والانتفاضة الثانية ايضاً لم تكن انتفاضة عسكرية وانما امنية، وقمنا بتنسيقها في شكل محترف ودقيق. فقد كان مكتب كريم بقرادوني في مبنى جهاز الأمن ووصلت الينا معلومات تفيد ان اتصالات يجريها هذا الاخير مع امين الجميل بالتنسيق مع سمير جعجع، وان اتفاقاً سرياً يحضر من وراء ظهرنا يؤدي الى مبايعة سمير جعجع. دخلنا خلسة الى مكتب بقرادوني وعثرنا فيه على كتاب موجه منه ومن سمير جعجع الى أمين الجميل يعرضان فيه استعدادهما للتعاون معه. سلمنا الكتاب لحبيقة، الذي انتظر موعد اجتماع مجلس قيادة القوات. وقبل الاجتماع ارسلنا مجموعات امنية الى مكتب القيادة العسكرية التي لم تكن اصلاً بعيدة من مراكزنا ولكنها كانت في منطقة تابعة لسمير جعجع. ارسلنا عسكرنا الى سطوح الابنية والى محيطها، اذ لم نكن نقدر ماذا سيجري. في هذا الاجتماع صدم حبيقة المجتمعين بابرازه الرسالة مؤكداً ان القيادة يجب ان تكون لشخص واحد. وتحت تأثير هذه الصدمة وفي الجلسة نفسها جرت انتخابات نجح فيها ايلي حبيقة وصار رئىساً للقوات اللبنانية، وصرت انا تلقائياً رئيساً لجهاز الأمن فيها، وخرج سمير جعجع بعد الاجتماع والمرارة مرتسمة على وجهه. لم تكن قيادة حبيقة للقوات تعني سيطرته على كامل مؤسساتها، فقد بقي جعجع على رأس الجهاز العسكري وبدأت تجاذبات العسكر والأمن تطفو على سطح الارض، من محاولات اغتيال متبادلة الى عمليات عسكرية رمزية، خصوصاً ان الجيش اللبناني دخل هنا على خط التجاذبات القواتية عبر دعم أمين الجميل لجعجع. عسكرنا كان ميليشيات غير منظمة خلافاً لعسكر سمير الذي كان منظماً في وحدات مركزية. كانت لدينا ثكنة مركزية واحدة. لم نكن عسكراً، كنا رجال أمن. محاولة اغتيال في 31 كانون الثاني يناير عام 1985 تركنا حبيقة وأنا منزلينا في منطقة ادما. نزلت انا في اتجاه بيروت وهو ذهب الى جونيه. وفي حينها كانوا ضاعفوا الحماية الأمنية التي ترافقني كوني كنت ضمن الوفد الذي راح يفاوض تحضيراً للاتفاق الثلاثي. سيارتي كانت مصفحة وكانت تواكبني سيارتان اخريان. وصلنا الى نهر الموت او قبله بقليل، وهناك تعرضنا لكمين. فقد كانت تنتظرنا سيارتان مفخختان، انفجرت الاولى وانهال علينا عناصر الكمين بقذائف ال"آر بي جي"، اما السيارة الثانية فلم تنفجر. اذكر انني لم اسمع صوت الانفجار، ولكن مرافقي الذي كان يجلس الى جانبي كنت انا اقود السيارة، نبهني. وبعد مسافة قليلة قدت خلالها السيارة من دون ان ارى امامي، توقفنا وخرجنا من السيارة. السيارتان المرافقتان لم اعد ارى اي اثر لهما. وصلنا الى منعطف الياس الاسمر، وأوقفنا السيارة وزحفنا ولم يكن في حوزتي الا مسدس صغير، وكان الرصاص من حولنا كثيفاً. صودف في هذا الوقت عبور رجل مدني بسيارته. اوقفناه، فاعترض وقال انه لن يتخلى عن سيارته ولو كلفه ذلك حياته، فطمأناه الى اننا لن نسرقها ولكننا نريده ان يوصلنا الى المركز. وما ان وصلنا حتى ابلغنا حبيقة بما جرى خصوصاً انه من المرجح ان يكون هو المستهدف. وكانت النتيجة ان قتل احد المرافقين وأصيب آخر اصابة ادت الى شلله. توصلنا لاحقاً الى خيوط هذه العملية. كان ما جرى نتيجة طبيعية للأجواء التي كانت سائدة. فقد كان جعجع يعتقد ان عملية كهذه يقتل فيها ايلي حبيقة، قد تغني عن عملية عسكرية شاملة تجعله قائداً للقوات. وما جعلني اتيقن من ان الهدف كان حبيقة، ذلك الاتصال الهاتفي الذي هنأني فيه كريم بقرادوني على سلامتي وسأل "ماذا كنت تفعل على هذه الطريق؟"، شعرت انه يقول "لست انت المقصود". في الثاني عشر من الشهر الذي تلا هذه الحادثة قمنا نحن بهجوم محدود على منطقة ساحل المتن الشمالي هدفها الايحاء بأن أمين الجميل لا يحكم هذه المنطقة ولا "يمون" عليها. لم يكن المقصود بالهجوم احتلال المتن بقدر ما كان المقصود اظهار أمين ضعيفاً. وهذا ما حصل فعلاً. فقد استطعنا هز صورة أمين الجميل اثناء مفاوضة السوريين. وبعد ثلاثة ايام من هذه العملية قام سمير جعجع بعمليته الشهيرة. يقع جهاز الأمن في خمسة مبانٍ متباعدة قليلاً تفصلها حدائق صغيرة. كنا حريصين على جمال المكان. الأبنية لم تكن مرتبطة بممرات آمنة وبسراديب ودشم. كان ذلك خطأ فعلياً. بدأ جعجع هجومه من الشمال واخترق جونيه وكسروان ووصل الى المتن حيث كان في انتظار أمين الجميل حليفه المفاجئ. كنت في مركز القيادة الأمنية في الكرنتينا، ومعركة اسقاطنا حصلت هناك. افقنا في السادسة صباحاً، وكانت قذائف ال"آر بي جي" تسقط علينا، وخلفنا كانت قيادة جعجع، ولم نحرك ساكناً ضدهم، فشعار المعركة ضدنا كان اسقاط الاتفاق الثلاثي الذي كنا وقعناه في دمشق، ولم نكن على استعداد لدفع دم في مقابل اتفاق سلام. وأثناء المعركة ساعدتنا وحدة مدرعة من الجيش اللبناني، وحالت دون سقوطنا. في هذا الوقت اعطيت التعليمات بحرق الارشيف وأشرفت شخصياً على ذلك، وقمت بتعطيل الكومبيوتر المركزي والأجهزة الثانوية، وأجهزة الاتصال، وأحرقت المياكرو فيلم الذي كنا نملك نسخة ثانية منه اودعناه في احد المصارف الأوروبية. قرار انتحار شعرنا بأن ثمة حال انتحار جماعية يقوم بها المسيحيون، لأن الانتفاضة ترافقت مع انقلاب عام في الاجواء المسيحية. فمن نهار الى نهار انقلب الرئىس شمعون علينا. اذ سبق ان حضر الى مركز الجهاز وجلس في مكتبي وقال: "انا معكم" ولكن بعد 48 ساعة انقلب الجو العام المسيحي من مؤيد للاتفاق الى معارض له. كأن امراً خارجياً ما قلب المعادلة. ارجح ان قراءة اقليمية مختلفة للوضع ادت الى هذا الانقلاب المسيحي على الوضع. كان لدينا خط مباشر مع وزارة الدفاع. وباشر الوزير ميشال المر اتصالاته، وحصل اتفاق لوقف اطلاق النار واقتنع جعجع بذلك شرط ان يخرج حبيقة و"جماعته" من المنطقة. في هذا الوقت اؤكد ان امكانات المقاومة كانت كبيرة، فمنطقة الاشرفية كلها لم يكن جعجع مسيطراً عليها، وقيادة المدفعية كانت هناك ومرابض المدفعية جميعها كانت ما زالت في تصرفنا، ووحدات عسكرية وثكنات لم تكن قد سلمت ومستعدة للقتال. ولكن اخذ قرار بأن اتفاق السلام لا يوقع بدم. على هذا الاساس تقرر ان ننسحب، وجاءت ملالات الجيش ونقلتنا الى وزارة الدفاع. وفي اليوم الثاني جاءت طائرة مروحية ونقلت حبيقة وميشال المر وابنه الياس وعائلة حبيقة وعائلتي الى قبرص ومنها الى باريس. انا بقيت في الوزارة للاهتمام بالشباب وتأمين اوضاعهم، وانتظار مصائرهم. وكنا على اتصال بالأمن العام وقيادة الجيش ومديرية المخابرات. انتظرت اسبوعاً في وزارة الدفاع وسافرت بعده الى باريس. في اليوم الثاني لي في وزارة الدفاع اتصلت بكريم بقرادوني لأشكره على اهتمامه بنقل زوجتي وابني الى الوزارة. بادرني بقرادوني بأن سمير يريد ان يلتقيني. فسألته عن الهدف، فأكد لي ان قائد "القوات" يكن لي مشاعر ومودة، ولديه عرض لي. سألت في وزارة الدفاع عن نصيحة، فأشاروا علي بضرورة ان يصطحبني كريم بقرادوني بنفسه في حال رغبت في لقاء جعجع. قلت لكريم انني موافق وعرضت عليه شرطي فوافق وجاء في اليوم الثاني ليصطحبني. اذكر انني كنت ارتدي سترة جلد سوداء، وانني حملت قنبلة يدوية رمانة وسحبت حلقتها وأمسكتها بيدي في وضع يتيح انفجارها ما ان ارخي يدي عن "أمانها" ووضعتها بيدي الشمال ووضعت يدي في جيب السترة وصعدت في سيارة بقرادوني وكان قراري ان اي محاولة لقتلي ستنتهي بانتحاري وبقتل جميع من في جانبي. التقيت جعجع ويدي في سترتي، وقدم لي عرضاً بأن استلم جهاز الأمن ولكنني رفضت، ويدي ما زالت في سترتي وعدت الى الوزارة ويدي الشمال ما زالت في سترتي. وصلنا الى زحلة على دفعات. كنا مجموعة من الشباب والعائلات غير المتجانسة بالمعنى الاجتماعي والحياتي. زحلة مثلت لي الصدمة الكبيرة، ففيها اكتشفت بأي ادوات كنا نحارب... لقد كانوا جميعهم ضحايا. ما ان وصلنا حتى استأجرنا فندقاً هو الوحيد في المدينة على ما اعتقد، اما الشباب والعسكر فقد اسكناهم في خيم نصبت على تلال مشرفة على المدينة. كنا نعتقد ان اقامتنا في زحلة موقتة، وان عملية عسكرية قريبة ستعيدنا الى بيروت، او هذا ما كنا وعدنا به. ومع مرور الوقت شعرنا بضرورة تأمين العسكر في منازل داخل المدينة، خصوصاً ان عائلاتهم بدأت تتسرب من بيروت لتلتحق بهم. زحلة والوجدان المسيحي غالباً ما ارتبطت زحلة بالوجدان المسيحي بحبل سرة متين على رغم بعدها الجغرافي النسبي عن المناطق المسيحية، وعلى رغم وقوعها في منطقة خاضعة للنفوذ السوري. وبما اننا كنا خونة في نظر الوجدان المسيحي، فقد عاملتنا المدينة وفقاً لما يمليه عليها وجدانها المسيحي. تعرض الفندق الذي كنا نقيم فيه الى اكثر من محاولة تفجير، عبر سيارات مفخخة وعند هذا الحد قررنا ان وضعنا اصبح خطيراً وعلينا ان ننتشر داخل المدينة وان نتسلل الى نسيجها. لم يقبل احد من اهالي زحلة ان يؤجرنا منزلاً، فإضافة الى موقفهم السياسي منا، انتاب ابناء المدينة شعور بأننا غرباء عنهم واننا بانتشارنا بينهم ننتهك خصوصية ذلك المجتمع الضيق الذي يمثلونه. وبعد فشل محاولاتنا استئجار منازل في زحلة بدأنا بمصادرة المنازل غير المأهولة. صادرنا بين اربعين وخمسين منزلاً، وبدأنا نتغلغل في المدينة. وبدأت بعض الأوساط في المدينة تقبلنا بعد ان جاءت عائلاتنا واقامت معنا. فعوامل السكن والجيرة والنساء والأطفال تمكنك من مد جسور اجتماعية تحت السياسة وفي غفلة منها. كما ان وجودنا كعائلات قرب صورتنا كضحايا من الزحلاويين. ولكن تغلغلنا في المدينة كانت له صوره الأبشع من جهة اخرى. فقد كان معظم شبابنا عزاباً، وتربوا في ثكن عسكرية لم يتعلموا فيها اصول الاقامة في احياء سكنية، وهم نشأوا ايضاً وفي اعتقادهم انه يمكنهم فعل اي شيء يريدونه. نزلوا الى زحلة محملين بهذه الاعتقادات. مشكلات كثيرة ومعقدة حصلت وكان علي انا ان احلها. مشكلات من نوع خروج بعضهم الى شرفات المنازل وهو شبه عار مما يثير استياء الجيران، وآخرون يفلتون في المدينة بعد جلسات، فيتحرشون بالفتيات ويحطمون محلات تجارية. كان الوضع خطيراً وأصعب من ان يضبط، وقد تعرضت لأكثر من محاولة قتل من قبل رفاقنا اثناء محاولاتي منعهم ومحاسبتهم على افعالهم، فأنا كنت في نظرهم من خارج سلكهم، واقدامي على محاولة منعهم من ان يفعلوا ما يريدون فعله كان امراً في غاية الخطورة. اذكر ان مجموعة منهم هاجمت الفندق الذي نقيم فيه، كانوا يريدون قتلي، وحصلت اشتباكات بينهم وبيننا نحن سكان الفندق ومرافقينا ووقع عدد من الجرحى. هؤلاء الشباب كانوا ضحايا، وكانوا يعيشون اوضاعاً مأسوية لا توصف. اجل لقد عاينت ذلك عن قرب. اذكر ذلك الشاب الذي شاهد شقيقه وقد اخترقت عنقه اسياخ معدنية في احدى المعارك الداخلية في بيروت فأنقلب مدمناً على المخدرات. كان هذا الشاب يأتيني كل اسبوع ويطلب مني ان اسجنه ليمنع نفسه من التعاطي، وكنت افعل ذلك، ولكن ما ان افرج عنه حتى يعود الى التعاطي. كان آخرون يشترون من الصيدليات وبكثافة حبوباً مهدئة الى ان عممنا على الصيدليات قراراً يمنعها من بيعهم هذه الحبوب. الادمان كان احدى الوسائل التي اعتمدها كثر من هؤلاء الشباب للخروج من حال الاقتلاع التي راحوا يعيشونها في زحلة، وراحت معها اوضاعهم تزداد سوءاً. اطلاق نار داخل الثكنات، وتهيوءات وهلوسات. حكايات من نوع ان احدهم رأى في ما يرى النائم ان شخصيات سينمائية ظهرت له على الجدار وان ممثلات هوليووديات رحن يغرينه. شاب آخر قال انه فوجىء بقطيع خنازير يهاجمه وهو نائم في سريره فراح يطلق النار في الغرفة. وأحدهم اتهمني يوماً بأنني سرقت حقيبته عبر انزالي حبلاً من ثقب صغير في سقف غرفته، علقت فيه الحقيبة وسرقتها. احب هؤلاء الشباب كثيراً فقد قربتني مآسيهم منهم وجعلتني اتحقق كم هم ضحايا. في هذا الوقت كنا نحاول الدخول الى النسيج الزحلاوي عبر ثلاثة خطوط. الخط الأول يتمثل برفاقنا السابقين من الزحلاويين، قواتيين وكتائبيين وهؤلاء كانوا يقدرون لنا مواقفنا السابقة من المدينة، ويعرفون ادوارنا الحقيقية التي لعبناها اثناء الحصار في العام 1981. بدأ قسم من هؤلاء يجدد علاقاته معنا، وقسم آخر كانت تربطنا به علاقات امنية من خارج التركيبة الحزبية عدنا واتصلنا به. كانت معظم الأقسام الكتائبية في منطقة زحلة تحتفظ بمخازن اسلحة، وكنا نعرف ذلك بحكم عملنا السابق في جهاز الأمن، فراح رفاقنا الزحلاويون يسلموننا هذه الأسلحة، ومن لم يقدم على ذلك منهم كنا نستعمل معه لغة اخرى. الخط الثاني الذي اشتغلنا عليه للدخول الى النسيج الزحلاوي تمثل بيساريي المدينة، وهم نوعان، اولئك الذين ما زالت تربطهم باليسار علاقة ما، حزبية او عاطفية، والآخرون الذين بدأوا حياتهم مع اليسار ثم عادوا وأقاموا علاقات مع الكتائب والقوات مع صعود بشير، ومن بينهم ناشطون في الحركة الاجتماعية. وبعض هؤلاء اليساريين عادوا وانتسبوا الى تنظيمنا عندما عدنا اطلقناه في زحلة. الخط الثالث كان الفاعليات والوجوه الزحلاوية القريبة من سورية، وهؤلاء على قدر اعتبارهم اننا حلفاؤهم كانت لهم مخاوفهم، فنحن الميليشيا الغريبة التي من المحتمل ان تنافسهم على زعامة المدينة. وهذه الخطوط الثلاثة لم تكن توصل الى المواطن الزحلاوي العادي الذي ظل يعتبرنا خونة الوجدان المسيحي. اسعد شفتري يوضح: لم اقصد طرفاً واحداً بعد نشر "الحياة" الحلقتين الاولى والثانية، جاءنا من السيد اسعد شفتري الآتي: "سمعت بعض ردود الفعل من أطراف مختلفة حول محتوى ما نشر، اذ فهم بعضهم ان المقصود هو تسليط الاضواء على طرف واحد من أطراف الحرب اللبنانية وتبرئة آخرين، في حين كان القصد من عرض التجربة اجراء مراجعة ونقد ذاتيين وعملية اعتقد انها جريئة للافادة من أخطاء الماضي، ودعوة للأطراف الأخرى كي تقدم على ما اقدمت عليه خصوصاً ان الارتكابات كانت متبادلة. كما لا أدّعي انني الوحيد الذي اجرى هذا النقد فقد سبق ان قام بمثله النائب وليد جنبلاط عند نهاية الاحداث في لبنان. ولا بد من ان اكرر انني قدمت تجربتي هذه من اجل مواجهة الماضي ولبناء المستقبل".