محققا أعلى معدل نمو ربعي خلال عامين..الاقتصاد السعودي ينمو بنسبة 1.3% في 2024    سمو ولي العهد يتلقى رسالة خطية من رئيس إريتريا    صدور الموافقة السامية على تجديد عضوية اثنين من أعضاء هيئة المركز الوطني للوثائق والمحفوظات وتعيين عضو ثالث    مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية يجدد مسجد فيضة أثقب بحائل    هيئة الصحفيين السعوديين بحاضرة الدمام تنظّم اللقاءً الرمضاني السنوي 1446    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة ترسخ مبادئ التمكين الثقافي للمرأة السعودية    أمير منطقة جازان يُقلِّد مدير الدفاع المدني رتبته الجديدة    أمير منطقة جازان يتسلم التقرير السنوي لجمعية الأمير محمد بن ناصر للإسكان التنموي    مركز التأهيل الشامل بالبكيرية يقيم وجبة إفطار جماعي لذوي الإعاقة    جامعة الملك فيصل تتصدر تصنيف الأكاديمية الأمريكية للمخترعين لعام 2024    الصحة تحذر من التلاعب بالإجازات المرضية وتؤكد العقوبات    المنطقة الشرقية تسجل أعلى معدل هطول للأمطار في المملكة ب 2.5 ملم    تجمع القصيم الصحي يطلق حملة "صم بصحة" لتعزيز الوعي الصحي خلال شهر رمضان المبارك    يوم العلم السعودي.. اعتزاز بالهوية وترسيخ للقيم    الجامعات السعودية تتصدر قائمة أفضل 100 جامعة في العالم في ترتيب الأكاديمية الوطنية للمخترعين الأمريكية    براحات الطائف التاريخية.. ساحات للرياضة والسياحة والترفيه    قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل فلسطينيين اثنين في طولكرم    أجواء روحانية ومزيج من العادات الرمضانية يعيشها المقيمون في المملكة    أمين منطقة القصيم يفتتح مقر حملة جود القصيم    الإدارة الجديدة تكبح الفلول وتبسط سيطرتها.. سوريا.. العمليات في الساحل تقترب من نهايتها    %95 يؤيدون أن تتضمن لوحة المفاتيح رمز الريال    1340 حالة ضبط ممنوعات في المنافذ الجمركية خلال أسبوع    «سدايا» تعزز مشاركة السعوديات في مستقبل الذكاء الاصطناعي    الاتفاق يعبر العروبة بثنائية    قطبا مدريد يخوضان ديربيين في سباقهما على اللقب    في الجولة 25 من دوري" يلو".. الحزم يواجه الجبلين.. والبكيرية في اختبار الجندل    نادي الأخدود الرياضي يحتفي بيوم المرأة بشراكة مجتمعية    "حالة إشغال المصليات".. تقنية لخدمة قاصدي المسجد النبوي.. «نسك».. 8 ملايين خدمة للارتقاء بتجربة ضيوف الرحمن    الاحتلال الإسرائيلي قتل 12316 في غزة.. نساء فلسطين يواجهن التهجير والتجويع    زيارات أوكرانية وروسية وأمريكية مرتقبة.. السعودية تحتضن حراكاً دبلوماسياً عالمياً لترسيخ السلام    أسعار الذهب تتراجع بشكل طفيف مع تحقق مكاسب أسبوعية    المملكة ترأس "وضع المرأة بالأمم المتحدة"    مجموعة الدكتور سليمان الحبيب الطبية تحصل على شهادة الريادة الذهبية في تصميم الطاقة والبيئة النظيفة LEED    سباق أشباه الموصلات    «الزعيم» يختلف عن «السداسي»    40 مبدعًا يمثلون المملكة في آيسف 2025    كنو يمدد عقده مع الهلال    تقنيات عالية لأنظمة الصوت بالحرم المكي    سارة بنت خالد ترعى حفل السحور السنوي ل"إنسان"    النجم الأزرق .. المصيف .. القارة والعلمين تصعد لدوري الدرجة الثالثة    الصيام الإلكتروني    الوداد من الحلم إلى الواقع استقرار اليتيم داخل أسرة    الجامعة العربية تدين تصاعد العنف في الساحل السوري    المرأة ومأزق المربع الأول    الدولة بين واجبات السياسة وفنون الإدارة 2/2    "حارة الأحمدي" تقيم أطول مائدة رمضانية في جازان من صنيع الأمهات    فلسفة الطير: حكمة العلوّ ورؤية ما لا يُرى    حين تربي طفلك فأنت تصنع مجتمعا    العلم شامخ والدعوة مفتوحة    الذكاء الاصطناعي يقتحم المطبخ    تقنية متطورة لاستئصال أورام الدماغ    كفاءة الإنفاق بالتعليم تلغي اللجان المركزية    في يومها العالمي.. المرأة السعودية تتقدم وتشارك بفعالية في بناء الوطن    Pressreader: السعودية الخيار الجذاب للدبلوماسية العالمية    أمير القصيم يشارك أبنائه الأيتام وذوي الإعاقة مأدبة الإفطار    الجامعة العربية تتابع بقلق بالغ تطورات الأوضاع الأمنية في سوريا    صناعة المدير الجنرال    أمير منطقة جازان يشارك رجال الأمن في الميدان إفطارهم الرمضاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر على حلقات كتاب نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية اللبناني السابق . إيلي سالم يتذكر : الجميل اشتكى من ان الأسد لا يعامله كرئيس للجمهورية وقال لي "هل يظن اني عالم آثار ... أو محافظ بيروت ؟" هكذا تم إعداد "الاتفاق الثلاثي" الشهير 11 قسم ثاني
نشر في الحياة يوم 05 - 04 - 1993


الاتفاق الثلاثي
في صيف 1985 بدأ ايلي حبيقة، قائد "القوات اللبنانية"، يتحرك نحو سورية لتقوية علاقاته معها، ويبتعد عن سمير جعجع. وزار حبيقة دمشق حيث لقي استقبالاً حسناً، وكانت زيارته تلك بمثابة انفصال عن ماضيه وبدئه اتجاهاً جديداً، حسبما كان يأمل، يخوله ان يصبح الناطق الأول باسم الموارنة في لبنان وبالتالي المرشح الاقوى لرئاسة الجمهورية. وإذا كان بشير الجميل استطاع ذلك، فما المانع ان يكون هو قادراً على ذلك أيضاً؟ وكانت سورية تبني جسوراً جديدة مع "القوات اللبنانية" بقيادة حبيقة، ولم تكد تحل نهاية ايلول سبتمبر 1985 حتى كانت اجتماعات "القوات اللبنانية" و"أمل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" تعقد في دمشق بتشجيع من عبدالحليم خدام، نائب الرئيس السوري. وكانت "القوات" ترغب في بحث المسائل الامنية، كإزالة حواجز الطرق واطلاق سراح الرهائن. اما "أمل" و"التقدمي الاشتراكي" فكانا يرغبان في بحث الاصلاحات السياسية ولا سيما مستقبل الطائفية السياسية. وكانت الطائفة المارونية، الغيورة كثيراً على دورها في لبنان والتي تهمها في شكل خاص هوية الذين ينطقون باسمها، منزعجة جداً لأن ممثلي "القوات" في محادثات دمشق كانا ميشال سماحة روم كاثوليك وأسعد شفتري روم أورثوذكس.
وفي منتصف تشرين الأول اكتوبر عام 1985، سرت شائعات بان زعماء الميليشيات توصلوا الى اتفاق على مجموعة من المبادئ الاصلاحية الرئيسية. واستبعد الرئيس ورئيسا مجلس النواب ومجلس الوزراء من العملية برمتها. وانتهت محاولات الجميل لاختراق اسرار المفاوضات الى الفشل. وأخذ حبيقة يهيىء الطائفة المارونية لتقديم التنازلات التي قال انه "يقدمها من اجل لبنان لا من اجل هذا الحزب او ذاك". وكان الرئيس مهتماً بدخول العملية السياسية تلك، لا لأنه رئيس وحسب، بل لأنه كزعيم للطوائف المسيحية كان يفقد مكانته لصالح حبيقة. وشعر ان خطابه امام الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الأول اكتوبر فرصة للقاء الاسد والتنسيق معه في الشؤون المتعلقة بالأمم المتحدة ومعرفة ما يدور في المحادثات بين ممثلي الميليشيات. وفي العشرين من ذلك الشهر غادر الجميل الى دمشق لعقد اجتماع قصير مع الرئيس السوري، ومن هناك طلب مني الحضور والاجتماع بنائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام الذي ابلغني ان زعماء الميليشيات الثلاثة بري وجنبلاط وحبيقة سيتوصلون الى اتفاق في شأن وثيقة مشتركة. وسيعقد مؤتمر وطني في دمشق للموافقة على تلك الوثيقة وستشكل حكومة لتنفيذ بنودها وسيكون دور السوريين حفظ السلام في انحاء لبنان حتى لو كان ذلك على مستوى المراقبين. وأضاف خدام ان حبيقة لم يمانع في وجود مراقبين سوريين في المنطقة الشرقية لكنه لم يرغب في ان يكون هو الذي يتخذ القرار، بل يريد ان يضفي عليه الرئيس الجميل موافقته. وكان خدام، كعادته، ودياً وأعرب عن خيبة امله من أنني لم اكن وزيراً في الحكومة. وقال: "ان الطرف السوري اتفق مع الجميل على تأليف حكومة من أربعة وعشرين وزيراً، لكنه بدلاً من ذلك شكّل حكومة من عشرة وزراء نصفهم بلغ سن الخرف. مع ذلك نحن ندعم الجميل ونقول لحلفائنا اننا لن نجبره على الاستقالة. والعملية الدستورية يجب ان تأخذ مجراها، والرئيس الجميل يجب ان ينهي فترة رئاسته. والموارنة لن ينعموا بالامن اذا اصروا على الاحتفاظ بامتيازات الماضي. وليس في وسع سورية ان تدعم الطائفية. وبري وجنبلاط وحبيقة لا يزالون شباباً وعندهم افكار جريئة ويهدفون الى الغاء الطائفية. وحبيقة رجل ذكي. هل يمكنك يا اخ ايلي ان تتصور انني انا القومي العربي، اجلس مع حبيقة؟ هذا يعني ان التغيرات تحدث بالفعل؟ ولن نبحث مع الرئيس الجميل او معك الآن محتوى الوثيقة التي يجري اعدادها. وحين تنتهي سنرسلها اليكم للتعليق عليها، وفي امكانكم حتى طرحها في استفتاء شعبي". وهنا قلت ان اي استفتاء في هذه الظروف الراهنة سيتمخض عن النتائج التي نعرفها انت وأنا، وإذا اجري الاستفتاء يجب ان يشرف عليه مراقبون محايدون. وتساءل خدام بصوت عال: "هل ستستدعون اساطيل الحلف الاطلسي مرة ثانية"؟ وأضاف ضاحكاً: "ام انكم تريدون الروس؟ لا، لا داعي للمراقبين". وعبرت عن اعتراضي على وثيقة اتفاق يعدها ثلاثة من زعماء الميليشيات، وقلت ان لهؤلاء الزعماء ادوارهم لكن ضمن اطار الدستور. ولم يبح خدام بشيء عن مضمون وثيقة الاتفاق او اسلوب تطبيقها، لكنه افاض في الحديث عن الجوانب السياسية اللبنانية ودور سورية الايجابي ضد المتطرفين في الطوائف جميعاً.
وكان الموارنة يتضايقون من تحركات حبيقة في سورية، وأخذ حزب الكتائب بزعامة جورج سعادة يدرس امكانية مواجهة حبيقة عسكرياً اذا دعت الضرورة، لكن اسهم حبيقة كانت على ارتفاع متزايد، وأطلق السوريون سراح واحد وثلاثين رهينة من المسيحيين ليظهروا لمسيحيي لبنان ان حبيقة قادر على تحقيق مكاسب لطائفته.
ويوم السبت في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر 1985 وصل من دمشق اللواء محمد الخولي مبعوثاً من الرئيس الاسد حاملاً وثيقة الاتفاق. وكان الرئيس الجميل متعكر المزاج. وحاولت تغيير مزاجه ليكون في حالة بناءة ايجابية حين يلتقي مبعوث الاسد. واقتربت منه ولمست يده وقلت: "أنت سعيد، أنت سعيد جداً وستظهر للخولي كم أنت سعيد ومرتاح". وانفجر كلانا ضاحكاً. وكنا لا نزال نضحك حين دخل علينا اللواء الخولي، فتركته يلتقي الرئيس على انفراد لفترة ساعة قبل ان اعود الى المشاركة في الاجتماع، ودهشت لما بدا على مبعوث الرئيس السوري من تحفظ وصمت. ولم اعتد بعد تعاملي مع الرئيس الاسد ونائبه السيد خدام على الصمت المطبق الذي يلتزمه اللواء الخولي فهو سلم الوثيقة واكتفى بالقول انه ليس ضليعاً بتفاصيلها انما ابدى استعداداً لكتابة اسئلتنا فقط والوعد بنقلها بأمانة الى الرئيس الاسد. وكان سلم الرئيس الوثيقة التي كان الجميل يبدي ملاحظات سريعة عليها. وتوتر جو الاجتماع بعد ان باءت محاولات الرئيس للدخول في حوار مع الخولي بالفشل. وعندما انصرف الخولي، التفت الرئيس الي وقال: "هذه الوثيقة كارثة، وهي اسوأ بكثير مما كنت اظن. اشعر بقنوط كبير".
كانت الوثيقة التي تسلمناها من الخولي مؤرخة في 26/10/1985. وجاء في ملحوظة بخط اليد على صفحتها الاولى انها حظيت بموافقة الاطراف الثلاثة: "القوات البنانية" و"أمل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، وانها قرئت كاملة بحضور مروان حمادة وأكرم شهيب عن التقدمي الاشتراكي ومحمد بيضون عن امل وأسعد الشفتري وميشال سماحة عن القوات اللبنانية وشهادة عبدالحليم خدام نائب الرئيس السوري الذي وقّع عليها. وكان وثيقة "الاتفاق الثلاثي" المعنونة: "مشروع اتفاق من اجل الحل الوطني في لبنان" مؤلفة من خمس وعشرين صفحة ومقسمة الى الفصول الآتية: مقدمة، مبادئ عامة، المبادئ الأساسية للنظام السياسي، الفترة الانتقالية، العلاقات المميزة بين لبنان وسورية وملحق خاص بانهاء الحرب. وأبرز ما في هذه الوثيقة، التي عرفت لاحقاً باسم "الاتفاق الثلاثي" انها دعت الى ايجاد "تكامل استراتيجي" بين لبنان وسورية وتعاون وثيق في مختلف المجالات، كما انها دعت الى توقيع اتفاقات امنية واقتصادية وفي مجالات عدة بين لبنان وسورية. وعلى الصعيد الداخلي اقترحت الوثيقة تعديلات جذرية في النظام اللبناني ومنها الغاء الطائفية.
كنت عموماً اميل الى تأييد "الاتفاق الثلاثي"، لكني كنت ارغب في اعادة كتابة كل جملة من جمله تقريباً. وكنت اعتقد أن المبادئ صحيحة في اساسها، لكن كثيرها تجاوز حدود القبول. كما كنت اعتقد انه لو كانت جرت مشاورات اوسع في شأن الاتفاق لكنا خرجنا بوثيقة اكثر قبولاً. في الاربعينات والخمسينات كانت سورية ولبنان ينسقان سياستيهما الخارجيتين وكان وزيرا خارجيتهما يلتقيان بانتظام قبل اي مؤتمر اقليمي او دولي. والتنسيق في الشؤون العربية، على ما اعتقد، امر ضروري. لكن لبنان، بحكم دوره التجاري وصلاته الثقافية ومهاجريه في "زوايا العالم الاربع"، كانت له اهتمامات ووجهات نظر من حيث التطلعات مختلفة عن سورية، ولم تكن هناك حاجة استراتيجية لاخضاع مصالح متنوعة كهذه، للتنسيق اليومي بين البلدين. ويمكن تطبيق مبدأ التكامل في مجالات معينة، لكن ليس هناك داع لتطبيقه بالضرورة في جميعها. وكانت النظرة اللبنانية الى الامور تختلف عن النظرة السورية، لا سيما في ميداني التربية والاعلام. فالنظام التربوي اللبناني نظام فريد، يمكن اصلاحه، لا بل يجب اصلاحه، لكن لا يمكن ان يكون كالنظام التربوي في سورية. وتشكيل اللجان المختلطة على هذا الصعيد يعني التدخل السوري في الشؤون اللبنانية وليس العكس. اما في ميدان الاعلام فقد كان لبنان بلد النشر وبلد الحريات وبلد الاعلام بوسائله المختلفة وبلد الخدمات على سوية عالية. والاتفاق الثلاثي يحد من ذلك.
كنت اريد التعاون والتنسيق بين لبنان وسورية على اوسع نطاق ممكن وضمن حدود الاستقلال والسيادة لكلا القطرين، مدركاً كل الادراك ان التنسيق يقتضي التضحية بالكثير من المفاهيم التقليدية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر عن السيادة. وخرجت بالعبارة التالية التي حازت قبول الرئيس كدعامة من دعامات سياسته الخارجية: "علاقات مميزة مع سورية وعلاقات ممتازة مع باقي الدول العربية". وهناك معضلة حقاً، على صعيد الاصلاحات السياسية يواجهها المسيحيون عامة والموارنة خاصة، في لبنان، وعرض الاسد على الموارنة خيارين: اما ان يختاروا رئيساً قوياً، وفي هذه الحال يجب انتخابه من قبل الشعب مباشرة من دون اعتبارات طائفية، او ان يكون للبنان رئيس ماروني كرئيس رمزي للدولة مع وضع السلطات الحقيقية في يد مجلس الوزراء. اما الموارنة فكانوا يريدون "البيضة وقشرتها" اي انهم يريدون ان يظل رئيس الجمهورية مارونياً وان يتمتع بسلطات وصلاحيات واسعة وحقيقية.
في التاسع عشر من تشرين الثاني نوفمبر 1985 نشرت صحيفة "السفير" نص الاتفاق الثلاثي الذي ظلّ الى حينه طي الكتمان تقريباً. وكانت تعليقات السفير الاميركي بارثولوميو عليه تتلخص في الآتي: "سورية تريد ان ترى اصلاحات في لبنان، كما تسعى الى الحصول على مكاسب عن طريق العلاقات المميزة" مع جارتها. وفي امكان لبنان ان يعتمد على صداقة الولايات المتحدة التي لها نفوذ في سورية وستستخدمه حين يطلب منها ذلك. وترى واشنطن ان سياسة الرئيس الجميل في الابقاء على باب الاتصالات في شأن الاتفاق مفتوحاً سياسة جيدة، وان "القوات اللبنانية" كانت ساذجة في مفاوضاتها مع سورية".
وفي الخامس والعشرين من ذلك الشهر اتصل بي صديق لبناني بارز ذو علاقات عربية واسعة من باريس ليبلغني ان في الامكان اجراء تعديلات على نص الاتفاق وان سليمان فرنجية سيزور دمشق قريباً ويجري بعض التعديلات، كما ستكون هناك تعديلات اخرى حين يلتقي الجميل بالاسد. وسينعقد مؤتمر وطني لادخال تعديلات ايضاً، وبهذا تتم الموافقة على النص بأوسع اجماع ممكن. وقلت للصديق اني آمل ان يكون ما يقوله صحيحاً لأن النص في صيغته الراهنة حافل بالمشكلات.
"هل أنا محافظ بيروت؟"
وتم ادخال تعديلات عدة على الاتفاق الثلاثي. وفي الثامن والعشرين من كانون الأول ديسمبر 1985 وقع بري وجنبلاط وحبيقة الاتفاق الثلاثي باشراف سوري. واعلن السوريون والزعماء اللبنانيون الثلاثة على الفور ان على الجميع قبول الاتفاق المنجز من دون اي تعديل. وجرت فور ذلك ايضاً محادثات حثيثة لتشكيل حكومة لبنانية جديدة من اوساط الفرقاء موقعي الاتفاق أو الشهود في دمشق.
وأعلن كل من رئيس مجلس النواب حسين الحسيني ورئيس مجلس الوزراء رشيد كرامي تأييدهما الاتفاق الجديد على رغم انهما لم يكونا طرفين فيه. وكان الجميل لا يزال يأمل في ادخال تعديلاته على نص الاتفاق الجديد خلال لقائه المرتقب مع الاسد. في ذلك اليوم الذي صدر اتفاق دمشق المعدل، اي الثامن والعشرين من الشهر، زارني السفير الاميركي في منزلي للتعبير عن الشكوى من مواقف الزعماء المسيحيين الذين رافقوا حبيقة الى دمشق، وأعرب عن خشيته من ان يقدم سمير جعجع على مغامرة عسكرية ضد حبيقة. وتمنى ان يعبر الرئيس الجميل عن تأييده الاتفاق على ان يبقى الباب مفتوحاً امام المشاورات مع الزعماء اللبنانيين وإدخال التعديلات التي يراها مناسبة حين يلتقي الرئيس الاسد. وشبه الاتفاق بقطار يتوقف في خمسين محطة، وكانت نصيحته ركوب ذلك القطار، وفي حال الرغبة في مغادرته يمكن النزول في اي محطة منها على الطريق. وأضاف ان لسورية حقاً في ممارسة نفوذٍ ما في لبنان لكن لا يحق لها احتكار النفوذ لنفسها من دون سواها.
يوم الاثنين في الثلاثين من كانون الأول ديسمبر 1985 قدم فاروق الشرع وزير الخارجية السوري "الاتفاق الثلاثي" في نصه المعدل الجديد الى الرئيس الجميل. وكان يحمل ايضاً دعوة عاجلة للقاء الرئيس الاسد في اليوم التالي. وحين أبدى الجميل عدم استطاعته تلبية الدعوة في الغد حتى يتسنى له الوقت كي يحضر نفسه لهذا الاجتماع، اقترح الشرع ان تلبى الدعوة في اليوم الذي يليه. وهنا اعتذر الرئيس الجميل مرة اخرى مذكراً بجدول الانشطة الحافل لمناسبة السنة الجديدة، وأصرّ الشرع على ان يتم اللقاء بين الرئيسين يوم الخميس الثاني من كانون الثاني - يناير 1986. ووافق الرئيس على مضض. وكان يعلم ان الاسد سيضغط علىه لانتزاع موافقته على النص الجديد من دون ادخال اية تعديلات عليه، او باجراء الحد الادنى منها. ومن لهجة الشرع تبين انه ليست هناك فرصة لطرح التعديلات التي انهمكت انا في اعدادها قبل ايام. وما كاد وزير الخارجية السوري يغادر، حتى سيطر على الجميل اكتئاب عميق. وها هي الضغوط نفسها التي عرفناها خلال عملية الغاء "اتفاق 17 ايار" مايو مع اسرائيل تبرز الآن من الاوساط ذاتها وبانفعال اكبر. وأرادت اسرة الجميل وبطانته ان يرفض الرئيس الاتفاق كلية. وأشرت عليه اتباع نهج آخر: ان يسعى الى تعديل الفقرات التي يشعر بضرورة تغييرها خلال لقائه الاسد وأن يكسب الوقت ويدعو الى عقد مؤتمر وطني، لكن لا ينبغي في اي ظرف من الظروف ان يختلف مع الرئيس الاسد ويجابهه. لكني لمست اني كلما خاطبته بهذه اللهجة ازداد تباعداً عني. وكان بين الحين والآخر يكسر صمته الطويل والمتعمق ويقول: "ايلي، انا لست على موجتك" وكان ذلك يزعجني لأننا نادراً ما اختلفنا على المسائل الجوهرية في السياسة الخارجية. قلت للجميل ان امامه أربعة خيارات حين يلتقي الرئيس السوري:
1 - رفض "الاتفاق الثلاثي" كلية ومواجهة معارضة شورية مريرة تؤدي الى شل حركته كرئيس للجمهورية.
2 - اقتراح تعديل النقاط الرئيسية في "الاتفاق" مع ابداء الدعم التام لهذا الاتفاق.
3 - قبول "الاتفاق" من حيث المبدأ مع التحفظ لطرحه على مؤتمر وطني يراجعه ليخضع من ثم لاجراءات دستورية دقيقة قبل الموافقة النهائية عليه.
4 - مراجعة "الاتفاق" مع الاسد ثم تحديد موعد قمة ثانية للعمل على صياغة نقاط محددة في جو من التفاهم والتنسيق بين الرئيسين.
ونظراً الى الضغوط السياسية والعسكرية لتبني "الاتفاق"، والى اهمية تبنيه من قبل رئيس الجمهورية لضمان شرعيته، رأيت ان السبيل الاسلم هو نهج الخيار الثالث. ولكني لم اكد افرغ من عرض آرائي حتى انفجر الرئيس في انفعال شديد، قائلاً انه ليس ملزماً بقبول اي من هذه الخيارات وأنه لا يمكنه ان يحتمل "تسوير" لبنان، وانه اذا كان لبنان سيقدم الى سورية على طبق، فلن يكون الجميل هو الذي يقدمه. ومضى يخاطبني: "ايلي، انت تظن انك تعرفني. انت لا تعرفني. انا استطيع ان أقلب الطاولة. املك شقة في باريس، سأعمل ما يجب ان اعمله وأسافر الى باريس".
ورجوته ان لا يفكر بهذه الطريقة. وقلت له انه ليس من المفسدين او الذين "يخربطون الدنيا" او يهربون من المسؤوليات. وقاطعني متهماً اياي بممارسة ضغط اكثر من اللازم عليه.
التقى الرئيسان الجميل والاسد يومي الثاني والثالث من كانون الثاني يناير 1986. ولدى عودته من دمشق كان لنا لقاء بمنزله في بكفيا. وكان يبدو عليه التعب والعزيمة في آن. ونظر الي باسماً وقال انه اختار الخيار الرابع وطلب امهاله فترة لدراسة "الاتفاق". ومضى يروي وقائع القمة في العاصمة السورية على النحو الآتي: "اجتمعت بالاسد وخدام معاً وعلى انفراد، وكانا يتحدثان اللغة ذاتها، وكان كلاهما يحفظ بنود "الاتفاق" عن ظهر قلب ويريدانه حقاً كما هو من دون تغيير فاصلة واحدة فيه. وكنت اظن ان الاسد يختلف عن خدام. انه لا يختلف عنه في شيء البتة، انهما شخص واحد، لكن كلا منهما يقوم بدور مختلف بشكل مختلف وبارع. وأبلغت الاسد انني جئت لأن مبعوثه اصر على ذلك، وانه قبل ان اتخذ قرارات يتعين عليّ الرجوع الى الزعماء اللبنانيين، فهناك بعض النقاط في "الاتفاق" لا يمكنني قبولها، لكني سأبحثها معه فيما بعد. وقلت للأسد انه لا يمكن ان يتوقع مني ان أوقع مغمض العينين اتفاقاً توصل اليه معه ثلاثة من زعماء الميليشيات بعد مفاوضات طويلة. وأبلغته أنني سأتصل به بعد اسبوع لعقد جلسة عمل بيننا، ووافق الاسد ودعاني الى العودة في نهاية الاسبوع التالي. وأضاف الجميل انه اذا لم يستطع قبول "الاتفاق" فلن يقف عقبة في طريقه، بل سيستقيل ويعود الى حزب الكتائب، لا كرئيس له، بل كمستشار لرئيسه آنذاك الدكتور ايلي كرامة. وسعى الاسد جهده ليبحث "الاتفاق" نقطة نقطة. لكنني رفضت وقلت انه ان كان لي ان اقبل فاني احتاج هذه المرة الى ضمانات خطية. وذكّرت الاسد بأن جنبلاط هاجمني بحضور وزير دفاعه العماد مصطفى طلاس الذي لم يقل كلمة واحدة دفاعاً عني. وكان الاسد محتفظاً بهدوئه وسط النقاش الساخن. وهو على الدوام يظهر تماماً كما لو لم يكن لديه هم في العالم. اني احسده على ذلك". ومضى الجميل يقول "ان احداً لا يصدق ان الاسد امضى ساعات عدة من دون مبالغة وهو يتحدث عن دمشق كأقدم مدينة في العالم. وكلما حاولت التركيز على شؤون الساعة ازدادت محاولاته لجري الى الوراء عائدا بي الى العصور الوسطى والتاريخ القديم وحتى عصور ما قبل التاريخ. هل يعتقد انني عالم آثار؟ هذا الرجل يحيرني، هناك ناحية فيه تثير اعصابي كثيراً، فهو يعاملني كما يعامل بري وجنبلاط وسليمان فرنجية، وليس كرئيس للجمهورية، ويخاطبني "الشيخ امين" وليس الرئيس الجميل. هل انا محافظ بيروت؟"
الاسبوع المقبل:
الحلقة الثانية عشرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.