تشهد الحياة السياسية المصرية تطورات لافتة، تتمثل في أن مؤسسات أخرى للمجتمع المدني باتت تخطف الأضواء - وربما الفاعلية - من الأحزاب بما فيها الحزب الوطني الحاكم، الأمر الذي يعني استمرار انحسار دور الاحزاب الذي كاد ينكمش إلى حدود دائرة قيادة كل حزب وصحيفته أو صحفه التي يصدرها. والمقصود بمؤسسات أخرى للمجتمع المدني، بعض الجامعات ومراكز الدراسات وحقوق الإنسان والمنظمات والنقابات واللجان والجمعيات، والمكتبات الكبرى ومعارض الكتب والفنون. وهي مؤسسات كثيرة ونشطة. ويكفي مثلا أن هناك اكثر من خمسة مراكز للدراسات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. ومن ابرز المؤسسات التي نتحدث عنها: جامعتا القاهرةوالاسكندرية ومركز البحوث والدراسات السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية الأهرام واللجنة المصرية للتضامن الآسيوي الافريقي ومكتبة القاهرة ومكتبة مبارك في الجيزة وجمعية الاقتصاد والتشريع ومعرض القاهرة الدولي للكتاب ونقابة الصحافيين ونادي القضاة. والواقع أن هذه المؤسسات أضحت منذ شهور مصدر جذب لجمهور واسع من أفراد الجماعة السياسية والفكرية والثقافية في مصر، فضلا عن المثقفين والديبلوماسيين العرب والأجانب، سواء من خلال بعض اصدارات مهمة تطرحها للتداول العام واخرى تطرح بمبادرة أو بتكليف على دوائر صناعة القرار، أو من خلال ندوات مفتوحة تنشر الصحف عرضا لها، وندوات وحلقات نقاش مغلقة. ومع أن الأعوام السابقة شهدت بعض هذه النشاطات، لكنها بلغت من الكثرة والتتالي منذ نهاية صيف 1996 الى درجة أنها أضحت موضع شكوى جمهور حضورها بسبب عدم امكان متابعتها على أهميتها. ويقدر المتابعون انها تعقد بمعدل ندوة او ندوتين يوميا على مدار الاسبوع. وتتردد الشكوى على ألسنة الداعين لكل ندوة والمساهمين في اعدادها من المشاركين بالبحوث والاوراق أو القائمين على ترتيباتها، وحتى من اصحاب قاعات الانعقاد. ومن أمثلة ذلك قبل اسبوعين أن الدكتور مفيد شهاب رئيس جامعة القاهرة اعتذر للحضور في القاعة الكبرى لپ"مركز التخطيط التكنولوجي" لتأخره عن موعد افتتاح الندوة التي نظمها "مركز الدراسات الآسيوية" لاضطراره لافتتاح ندوة ثانية في اليوم نفسه وفي حرم الجامعة نفسها بكلية الإعلام، وأخرى في كلية الاداب. وتتناول هذه الندوات قضايا مهمة - داخلية وخارجية - وثيقة الصلة بتطورات سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية، ويلاحظ ان الدولة مهمومة بادارتها ومعالجتها، وكذلك جموع المثقفين. ومن ذلك سلسلة الندوات وحلقات النقاش التي انعقدت حول التخصيص والتنمية والجامعات الخاصة ومستقبل التسوية واحتمالاتها وأسلوب التعامل معها، ومؤتمر "مصر ومشروعات النظام الاقليمي الجديد في المنطقة"، وندوة "مصر والمتغيرات الداخلية والاقليمية والدولية"، وندوة "نتائج الانتخابات الاميركية"، ونزع السلاح النووي في الشرق الاوسط، والصهيونية والعنصرية. ندوات ومؤتمرات ورؤساء واللافت أن الرئيس حسني مبارك يحرص على حضور بعض هذه الندوات والمؤتمرات، ومن ذلك مناقشات المثقفين في المعرض الدولي للكتاب ومؤتمر اساتذة وطلبة جامعة الاسكندرية مثلما حضر معظم الندوات وحلقات النقاش المفتوحة والمغلقة كبار المسؤولين المصريين والاجانب. وكان من ابرزهم في الشهور الماضية الدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء، وعمرو موسى وزير الخارجية، والدكتور اسامة الباز المستشار السياسي للرئيس المصري، والدكتور محمود الشريف وزير الادارة المحلية، والدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم. ومن كبار المسؤولين العرب والاجانب الذين حضروا ندوات مفتوحة او مغلقة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، والزعيم الليبي معمر القذافي، ورئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، ووزراء خارجية السودان وسورية وروسيا وفرنسا والمبعوث الاوروبي للشرق الاوسط ووزير الدفاع الايطالي والسفير الاميركي في القاهرة. وفضلا عن العلاقات الثنائية تناولت تلك الندوات التطورات الجارية الاقليمية والدولية. وتتوفر لهذه المراكز والجمعيات امكانات تنظيمية وتمويلية كافية سواء من المؤسسات أو الجهات التي تتبعها، او بدعم من هيئات رسمية أو من دوائر رجال الاعمال المصريين، أو من هيئات علمية وبحثية اجنبية. ويجدر بالذكر أن القائمين على عقد هذه الندوات وحلقات النقاش، حريصون على دعوة ممثلي جميع القوى السياسية الرسمية والمعارضة والمستقلة. وقبل اسبوعين نظم مركز البحوث والدراسات السياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة مؤتمراً عنوانه "مصر ومشروعات النظام الاقليمي الجديد في المنطقة"، استمر ثلاثة ايام واختتم جلسته الاخيرة بمحاضرة، وأجاب عن اسئلة الحضور وزير الخارجية عمرو موسى. وشهد المؤتمر مناقشات موسعة حرة وساخنة عن مستقبل سياسة مصر الخارجية. وشارك فيه، اضافة الى الشخصيات الرسمية وشبه الرسمية، شخصيات حزبية معارضة الامين العام لحزب التجمع والامين العام لحزب العمل وعضو الهيئة العليا لحزب الوفد وعضو من قيادة الحزب الناصري. وطرح كل منهم رؤية حزبه، فاكتملت للحاضرين صورة الموقف الحزبي المعارض. ولم يغب عن القاعة رأي القوى السياسية المحجوبة عن الشرعية من خلال الاسئلة الموجهة للوزير او التعقيبات. ويشار إلى أن كثيرا من البحوث التي قدمت للمؤتمر، شكل خلفية فكرية للخيارات السياسية والديبلوماسية المتنوعة. وقد ساهم فيها اكاديميون وعسكريون متقاعدون وديبلوماسيون ناشطون وقدامى. واهتم المشاركون بالبحث عن نقاط الالتقاء وتحديد نقاط الخلاف. وكانت المحصلة العامة لهذا المؤتمر لصالح الموقف المصري من قضايا السياسة الخارجية، وخصصت ما يتعلق منها بدوائر النظام الاقليمي المختلفة أو ما اصبح يعرف ب "الشرق اوسطية" و"المتوسطية". وبشكل عام، يمكن اعتبار كثير من نشاط هذه المؤتمرات والندوات شكلا من اشكال "الجبهة الوطنية" التي يتطلبها العمل في الدول ذات النظام التعددي الحزبي، والتي يصعب - لسبب أو لآخر - الوصول فيها إلى شكل مؤسسي منظم متفق عليه. وهو شكل تلجأ إليه دوائر صنع القرار من دون أن تلتزم امام المشاركين في هذه النشاطات أي تعهد رسمي. وهو الأمر الذي يتواءم مع مفهوم "التفاهم الوطني" أو "الوفاق الوطني" الذي كثيرا ما ورد في الخطاب السياسي الرسمي لكبار المسؤولين في الدولة. رسائل سياسية وقياساً على كثير من موضوعات ومناقشات مثل هذه الندوات والمؤتمرات، التي يتابعها الديبلوماسيون الاجانب، فإنه يتم عبرها ابلاغ الاطراف الخارجية - خصوصاً الولاياتالمتحدة واسرائيل - رسائل ومواقف سياسية معينة من دون ان تلزم الدولة أي موقف لا ترغب التزامه به قبل أوانه. ويشجع على أن مصر تمر الآن بمرحلة تتعدد وتتشابك فيها خيوط العلاقات الاقليمية والدولية، مثلما تتعدد وتتشابك فيها خيوط العلاقات الاجتماعية الداخلية. في الدائرة الأولى الخارجية تريد الدولة الحفاظ على موقف مستقل في ظل نظام عالمي متعدد القطبية الاقتصادية والثقافية، ولكنه احادي القطبية سياسيا. ومن ثم تتحرك بحذر وتحرص على إفهام وتوضيح موقفها ليس فقط للنخبة المصرية في الداخل، وإنما ايضا للنخب العربية وللعالم الخارجي، من دون قطع الصلات مع أي قوة كبرى ذات تأثير، كالولاياتالمتحدة. وفي دائرة الداخل يدور الجدل حول التخصيص في كل المجالات. وفيما تردد رموز الدولة تأييدها لقاعدة التخصيص، فإنها، في الواقع، تحرص على أن يكون للدولة نصيب مؤثر وحاسم في عملية الانتاج الزراعي والصناعي والعملية المالية. وكل ذلك ينعكس في لغة الخطاب الرسمي في هذه المؤتمرات والندوات، بل في الخطاب المعارض الذي ترحب به الدولة للموازنة في علاقاتها. ويستطيع من يتابع الندوات والنشاطات اليومية لرموز الدولة من وزراء ومستشارين، أن يرى حركة الدولة في كل مجال مطلوب أو مرشح للتغيير، وفضلاً عن مجالات البناء المستقبلية، اذ تُشرح مواقف الدولة وتوجهاتُها وتطويرُها، فيما يوحي باشراك القوى السياسية المختلفة في مستقبل الوطن. كذلك يلاحظ المراقبون ان رموزا رسمية تشارك باهتمام وبحضور اعلامي في نشاطات فنية مختلفة كانت حتى وقت قريب تبدو كأن لا علاقة لها بالقيادات الرسمية. وساعدت على ذلك عودة المنظمات الاقليمية العربية غير الحكومية الى القاهرة. وكلما نظمت ندوات ومؤتمرات ولقاءات حضرها ممثلون رسميون للدولة دعا اليها ممثلون من الدول العربية لهم طابع رسمي او نشاط معارض. ويشمل دخول الشخصيات العربية حتى المدرج منها في قوائم الممنوعين، في حال دعوتهم الى الاشتراك في مؤتمرات تنظمها اتحاداتهم العربية في القاهرة. وكثيراً ما نظمت هذه المؤسسات البحثية ندوات في عجالة، مبررة دعوتها العاجلة بزيارة طارئة لهذا المسؤول الاجنبي أو ذاك. مثلما حدث في ترتيب لقاء موسع مع وزير الخارجية الروسي يفغيني بريماكوف حضره عدد من المثقفين المصريين أمطروه بوابل من الاسئلة لم يكن في مستطاع غيرهم توجيهها اليه. ومثلما حدث قبل الانتخابات الاسرائيلية وبعدها، عندما عقدت ندوتان مغلقتان لخبراء في الصراع العربي - الاسرائيلي بحضور مسؤول كبير. ولا تقصر هذه المؤسسات البحثية ندواتها ومؤتمراتها على النشاط السياسي والفكري، وإنما تمتد الى كل أشكال النشاط الاجتماعي الاخرى. ويهتم كثير من المسؤولين بتلبية دعوات الى ندوات ومؤتمرات تعقدها احزاب معارضة، قد تعقد احياناً في مقراتها، مثلما حدث عندما شارك الدكتور اسامة الباز في مؤتمر عقد في مقر حزب الوفد بمشاركة ممثلي احزاب اخرى للمعارضة. وقد دعا الباز في كلمته الى ضرورة تشكيل "جبهة وطنية" بمفهوم "الوفاق الوطني". لكن ممثلي احزاب المعارضة بقوا متأثرين بأشكال الجبهة الوطنية التي تقضي بجلوس مندوبي الاحزاب فحسب على مائدة واحدة ليتفقوا على برنامج وجدول اعمال وهيئات تنظيمية. وهكذا تتطور الحياة السياسية المصرية لتخلق شكلها الخاص للوصول الى وفاق كان يسمى سابقاً الجبهة الوطنية. وهو في عالم الاتصالات والاعلام، خصوصاً الذي يتوفر له هامش من الحرية، اضحى يسمى "الوفاق الجماعي".