أضافت الأزمة الأخيرة للمنظمة المصرية لحقوق الانسان مع الحكومة المصرية بُعداً دولياً الى ملف الجمعيات الأهلية الذي ينتظر الإحالة على البرلمان لإصدار تشريع جديد في شأنه بعد ان اهتمت الادارة الاميركية بإطلاق تصريح رسمي يدعو الى "تطوير وتحسين المناخ التنظيمي الذي تعمل فيه المنظمات غير الحكومية في مصر حتى يمكنها القيام بعملها". ويُعد هذا التصريح الذي ادلى به الناطق باسم وزارة الخارجية الاميركية إشارة واضحة ومباشرة الى قانون الجمعيات الاهلية الذي تنوي الحكومة المصرية اعلانه رسمياً في غضون اسابيع، واقتصر الجدل حوله في الشهور الماضية على حوارات داخلية بين أطرافه المباشرة. غير ان التطورات الاخيرة التي احاطت بتوقيف امين عام المنظمة المصرية لحقوق الانسان حافظ ابو سعدة، وما اثير عنها من ملابسات فتحت باباً جديداً في شأن التشريع المنتظر. واذا كانت الحكومة المصرية ترغب في تطوير البنية التشريعية الحاكمة للمنظمات غير الحكومية في البلاد في ضوء التطورات المتلاحقة التي ارتبطت بنشاط الاخيرة، التي ما زالت تخضع الى قانون صدر العام 1964، إلا ان هذا الهدف أثار جدلاً مهماً حول المضمون المنشود، وهل يتصل بتحقيق اصلاح يضمن للجمعيات استقلالية كاملة، ام يكتفي بتعديلات تلبي جانباً مهماً من طموحات المنظمات وتبقي السيطرة الادارية للدولة عليها؟ وعلى خلفية هذا السؤال شهدت القاهرة عشرات الندوات وورش العمل والمؤتمرات للتحاور في هذا المعنى، وبدا وكأن منافسة شرسة تدور رحاها بين فريقين. ففي مقابل نشاط المنظمات الحقوقية التي نجحت في اجتذاب قطاع غير قليل من الجمعيات الاهلية الى صفوفها اقامت وزيرة الشؤون الاجتماعية ميرفت تلاوي فعاليات عدة في المحافظات لشرح المشروع الجديد واستهدفت ايضا تنظيم قواها الذاتية. الخلاف والتعارض بين المنظمات والحكومة لم يمنع الأخيرة من عقد لقاء مشترك في محاولة للاتفاق على التشريع المنشود، وجاءت تلك الخطوة تتويجاً لتوجه رسمي يستهدف البحث عن الإجماع او على الاقل تضييق مساحة الخلاف، وهو ما نجحت فيه الادارة عبر تشكيل لجنة تضم ممثلين للجمعيات لإدخال تعديلات على المشروع الحكومي من قبل إحالته على البرلمان. وجاءت التطورات الاخيرة بتوجيه الاتهام الى المنظمة المصرية لحقوق الانسان اقدم وأكبر المنظمات الحقوقية في مصر بتلقي اموال من جهات اجنبية وترويج شائعات تضر البلاد، لتفجر الموقف وتجهض ما تم انجازه خلال شهور الصيف. وتستدعي في الوقت ذاته قوى خارجية قررت الظهور على مسرح الأحداث المحلي للمساندة في دعم فريق ضد الآخر قدر الإمكان. ويمكن القول ان التطورات والمتغيرات التي لحقت بالدولة المصرية منذ مطلع التسعينات على مختلف الأصعدة من دون استثناء وتمخضت عن بعض جوانبها علاقات مباشرة بين المنظمات غير الحكومية ونظيرتها الاقليمية والدولية، لعبت دوراً مهماً في الضغط على الادارة المصرية بعد لجوء البعض الى التحايل على القانون لتأسيس منظمات غير خاضعة لسيطرة الجهات الادارية. ولعل نجاح المنظمات الحقوقية ومراكز الأبحاث والدراسات المتصلة بها في إقامة مؤسساتها عبر "قانون الشركات" الذي يعطيها الصفة الرسمية المطلوبة من جانب، ويمنحها استقلالية كاملة في مباشرة نشاطها من جانب آخر، وما ترتب على هذه الخطوة من تداعيات، كان احد الدوافع الاساسية وراء رغبة الحكومة في تعديل البنية التشريعية التي لم يلحق بها اي تغيير منذ 34 عاما. ويرتبط بالسياق ذاته اتساع نشاط المنظمات غير الحكومية التي يزيد عددها في مصر على 14 الف جمعية تعمل في كل المجالات من دون استثناء، وتتصل خيوطها بمخططات دولية تتلقى منها الدعم والتمويل المطلوب لتغطية النشاط الذي يصل احيانا الى تقديم اعانات لأسر فقيرة. وتقدر كمية الأموال التي تم ضخها الى المجتمع المصري من جماعات التمويل خلال السنوات الثماني الماضية بما لا يقل عن 4 بلايين دولار 15 بليون جنيه مصري، واتصل بعمليات ضخ الاموال توثيق العلاقات بين الجهات المتلقية والجماعات المانحة التي اقتصر التعامل معها في البداية على منظمات اهلية متخصصة في تقديم المعونات المالية، ثم تطورت الى صناديق ذات صلة بفعاليات سياسية، حتى بلغت اخيرا مرحلة التعامل المباشر مع ممثلي دول وهيئات حكومية اجنبية وهو ما اعطى ابعاداً سياسية مباشرة لعمليات التمويل التي تدفقت على منظمات المجتمع الاهلي. وتداعى عن تلك التطورات وجود اجنبي مباشر وسط فعاليات وانشطة المنظمات غير الحكومية سواء الحقوقية او الاجتماعية. وبات طبيعياً ظهور ممثلي ومندوبي الصناديق المانحة لعمليات التمويل في الاحياء الشعبية المصرية او في ندوات وورش عمل تعقدها الجماعات الوطنية، وكما يقول مسؤولوها تحصل الجهات المانحة على تقارير دورية تفصيلية عن الانشطة ونتائجها. وامتدت تلك التفاعلات الى هيئات ومؤسسات شبه رسمية سواء كانت اعلامية او خدمية او بحثية، واصبح طبيعيا مطالعة توجيه هذه الهيئات التقدير والتحية الى الجهات المانحة على تمويل مشروع او الاتفاق على نشاط، ولعل المواجهة التي جرت مع مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في مؤسسة "الاهرام" شبه الرسمية على تمويل مؤسسة اجنبية لبحث ميداني تطرق الى العديد من النقاط التفصيلية عن الرأي العام المصري، كانت تعبيرا عن تأجج تفاعلات الانشطة الاهلية. وبلغ التعاطي الحكومي مع بروز ظاهرة الجمعيات الاهلية مداه في نجاح المنظمات الحقوقية في التحول الى بؤرة الاحداث السياسية في البلاد، واجتذابها الأضواء على الصعيد العالمي بما تصدره من تقارير وبيانات ترصد ما تسميه "التجاوزات والانتهاكات لحقوق المواطنين"، اذ اصبحت تمثل مصدر ازعاج حقيقياً للدولة، على رغم عدم قدرتها حتى الآن على تحويل هذا الازعاج الى سياسات رسمية خارجية مضادة للسياسات الوطنية على مختلف الاصعدة. وفي اطار كل هذه التقاطعات جاء اعلان الحكومة عن اعداد قانون الجمعيات الاهلية الجديد، الذي يستهدف، كما تشير الدوائر الحكومية، تطوير البنية التشريعية بما يتواكب مع المتغيرات الحادثة في البلاد، وصوغ آليات جديدة تتيح اطلاق طاقات المنظمات غير الحقوقية وتطوير دورها الاجتماعي المنشود. ويطلق التشريع الجديد حرية تأسيس وتكوين الجمعيات الاهلية، ويُلغي في هذا الشأن شرط موافقة الجهة الادارية، ويحيل الخلاف بين الاطراف المعنية على القضاء، ويعطي الادارة حق حل الجمعيات اذا ما خالفت نصوص القانون، ويسمح بنقض القرار امام القضاء. ويحظر على الجمعيات ممارسة انشطة تتصل بدور الاحزاب، كما ورد في قانون تنظيم شؤون الاحزاب. ويشترط موافقة الجهة الادارية على تلقي الجمعيات التحويل المالي من الخارج، ويمد مظلة القانون على كل الفاعليات النشطة في هذا المجال من دون استثناء حتى على من يتمتع بأوضاع استقلالية مالية. واعتبرت المنظمات الحقوقية ان التشريع يستهدف محاصرتها والقضاء على نشاطها من خلال اخضاعها لسلطة الادارة وحظر الانشطة السياسية، والغاء اوضاعها القانونية المستقلة القائمة حالياً والخاضعة لقانون الشركات. وعبّر احد نشطاء حقوق الانسان عن هذه التطورات بالقول: "الآن تستطيع التأسيس لكنك لا تستطيع الاستمرار في النشاط بصورة مستقلة". وتشير الباحثة الدكتورة اماني قنديل المتخصصة في ملف العمل الاجتماعي والطوعي في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في مؤسسة "الاهرام"، التي رصدت بعض السلبيات، الى جوانب ايجابية ومتقدمة عدة في التشريع الجديد ابرزها الاشهار عن طريق الاعلان والتسجيل ومنح القضاء حق حل الجمعيات. وتقول الدكتورة قنديل: إن "كل قوانين العالم تتضمن قيوداً ورقابة من الحكومة على عمليات التحويل على خلفية ان اموال المنظمات تُعد مالاً عاماً يجب فرض الرقابة عليه". وتربط الدوائر الحكومية بين فكرة مواجهة المصالح الاجنبية المتقاطعة مع النشاط الاهلي الوطني، وبين التشريع الجديد المرتقب، وذلك بعد تصاعد انتقادات عدة في المجتمع المصري في شأن هيمنة مؤسسات اجنبية على قطاعات اقتصادية من جراء سياسة الخصخصة وهو ما يُعد محاولة من الدولة لمنع إحكام طوق النشاط الاجنبي على ملفي السياسة والاقتصاد. ويمكن القول إن الاتهامات التي وجهت الى المنظمة المصرية لحقوق الانسان اخيرا ستترك آثاراً واضحة على مواقف احزاب المعارضة المصرية من التشريع الجديد، وذلك على خلفية موقفها الداعي الى تقنين الاوضاع، وتحفظها على فكرة التمويل الاجنبي. ودعمها لتحقيق التوازن بين اطلاق تأسيس الجمعيات الاهلية وحق الدولة في الوجود القانوني الفاعل لمراقبة المنظمات غير الحكومية. واذا كانت المنظمات الحقوقية نجحت في الآونة الاخيرة في اجتذاب الضوء الى ما تعتقده في العلاقة بين ازمتها مع الحكومة واقتراب اصدار التشريع الجديد، وهو ما أدى الى بروز بوادر مساندة دولية مضادة لفرض قيود قانونية على نشاط الجمعيات الاهلية في مصر، فإنها المنظمات في الوقت ذاته لم تنجح في تحقيق الحشد الحزبي المطلوب محلياً لالتفاف الرأي العام ضد القانون المنتظر والذي بدا جلياً من تعاطيه المتحفظ مع ازمة التمويل الاجنبي