أضحى مرجحاً أن يكون انعقاد مؤتمر القمة الاقتصادي الثالث لدول الشرق الاوسط وشمال افريقيا، الذي تستضيفه القاهرة الشهر المقبل، مجرد وفاء بالتزام مصر عقده في موعد محدد. ولا ترجع الشكوك في امكان نجاح المؤتمر وتحقيق اهدافه في اقرار تعاون اقليمي، إلى الأجواء السياسية في المنطقة بعد وصول بنيامين نتانياهو إلى رئاسة الحكومة في إسرائيل وشعاراته ولاءاته المتعددة، بل أيضا إلى تلبد العلاقات المصرية - الإسرائيلية، ليس على المستوى الرسمي أو بالنسبة للمؤتمر الاقتصادي فحسب، بل بسبب اتساع حركة الرفض لسياسات إسرائيل على المستويات الشعبية والاقتصادية والثقافية. ولا تزال مصر تضع شروطا بالنسبة الى انعقاد المؤتمر الاقتصادي - في خطابها السياسي على الأقل. فعلى رغم عدول الرئيس حسني مبارك عن ربطه - في آب اغسطس الماضي - بين انعقاد المؤتمر وتحقيق تقدم في عملية السلام، فإنه عاد وربط بين احراز التقدم ونجاح المؤتمر. اضافة إلى تعديله تسمية الحدث الى مجرد مؤتمر اقتصادي بدلاً من "قمة اقتصادية"، وهي التسمية التي اختارها المنتدى الاقتصادي العالمي في سويسرا ومجلس العلاقات الخارجية في الولاياتالمتحدة اللذان اقترحا فكرة انعقاد مؤتمرات القمة الاقتصادية عام 1994. وزاد مبارك على ذلك بإعلانه قبل ايام "أن المشاركين من العرب في المؤتمر، إن حضروا، سيخلقون مشاكل امام الوفد الإسرائيلي بسبب عدم تبدل سياسات نتانياهو". في الوقت نفسه تتحدث دوائر رسمية عن أن الرئيس مبارك عدل عن فكرة افتتاحه المؤتمر بمشاركة نائب الرئيس الاميركي آل غور وسيكلف رئيس الحكومة الدكتور كمال الجنزوري افتتاح المؤتمر بدلاً منه. وبالتلازم مع اتهام مصر لإسرائيل بإفشال المؤتمر بعدم تهيئة الاجواء لتحقيق سلام عادل وشامل كأساس لقيام التعاون الاقليمي وتحميل حكومة نتانياهو مسؤولية اجهاض المؤتمر، كثرت التصريحات والمواقف الرسمية التي قللت من شأن المؤتمر وأهميته وجدواه. اذ اعتبر وزير الخارجية عمرو موسى المؤتمر "مأزوما بسبب تصرفات إسرائيل". وشدد وزير المال محيي الدين الغريب على أن المؤتمر "مجرد تجمع لرجال الاعمال وليس للحكومات"، وهو ما فسرته دوائر ديبلوماسية باعتباره رسالة ضمنية موجهة الى رؤساء الدول والحكومات. ويتضح مدى التحول في الموقف الرسمي بمقارنة الأجواء والتصريحات الرسمية حاليا، بما أعلنه المستشار السياسي لوزارة الخارجية السفير نبيل فهمي الذي قال "إذا كان مؤتمر الدار البيضاء الأول البداية، ومؤتمر عمان الثاني لبحث المشاريع، فإن مؤتمر القاهرة الثالث سيشهد اقرار مشاريع التعاون الاقليمي". أما الأمر اللافت في هذه التطورات فهو إعداد مصر ورقتها التي ستقدمها الى المؤتمر مُتَضمَّنة مشاريع مصرية خالصة في مختلف المجالات، ضمن خطة الدولة للتنمية، ودعوة رجال الاعمال من مختلف الجنسيات الى المشاركة فيها. ولن تعرض الورقة أي مشاريع اقليمية، في اشارة عملية الى تمسك مصر بموقفها الذي يربط بين تحقيق المؤتمر اهدافه المنشودة وبين تحقيق السلام الشامل والعادل. اضافة الى تجميد القاهرة المشاريع المشتركة مع اسرائيل. ولوحظ في الوقت نفسه ان الورقة المصرية خلت من المشاريع التي أعلنت مصر في نيسان ابريل الماضي عزمها على طرحها امام رجال الاعمال في المؤتمر، خصوصاً الاستثمارات في مثلث حلايب المتنازع عليه مع السودان. وانسجاما مع الموقف من الربط بين السلام والتعاون ابلغت الحكومة المصرية حكومات اسرائيل والولاياتالمتحدة والاردن وفلسطين تأجيل عقد الاجتماع الخماسي لما يسمى "دول اعلان طابا الاقتصادي"، الذي كان مقُرراً عقده في القاهرة الشهر المقبل على مستوى وزراء الاقتصاد والتجارة، الى اجل غير مسمى. وأثار قلق اسرائيل التي استغربت التأجيل وطلبت عقد الاجتماع على هامش المؤتمر الاقتصادي، خصوصا أن وزراء الاطراف الاربعة الى جانب مصر سيحضرون المؤتمر. كما ان اهداف الاجتماع تتطابق وأهداف المؤتمر. غير ان مصر رفضت ووعدت بالدعوة الى عقد الاجتماع "في الوقت المناسب". وعزا الدكتور حمدي سالم رئيس مركز تنمية الصادرات المصرية تأجيل الاجتماع الخماسي الى توتر العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وكان اعلان طابا صدر في ختام اجتماع خماسي عقد مطلع 1994 بناءً على مبادرة اميركية لدعم السلام بين الاطراف الاربعة الاخرى. وزادت الاجواء الرسمية التهاباً باعلان مصر اخيرا رفضها - كما توقعت رفضا عربيا، وربما من جانب جميع المشاركين - طلباً تزمع اسرائيل تقديمه الى المؤتمر بان تستضيف المؤتمر الرابع. وعزت مصادر رسمية مصرية الرفض الى النية في عقده في القدسالمحتلة وبسبب عدم حدوث تطورات تشي بأن حكومة نتانياهو تمضي قدماً نحو إحلال السلام". ولا يختلف موقف معظم المؤسسات الاقتصادية المصرية الخاصة من الموقف الرسمي، فقد قرر اتحاد الغرف التجارية عدم المشاركة في المؤتمر. وقال رئيسه محمود العربي ل "الوسط" "اسرائيل اخذت كل حاجة من ازالة المقاطعة الى فتح حدود الى اعترافات من دون انسحاب من الاراضي العربية المحتلة في الجولان وجنوب لبنان وفلسطين". وقلل من أهمية مشاركة شعبة المستثمرين في الاتحاد في المؤتمر. وعزا ذلك إلى "انه يهدف الى الترويج فقط للاستثمار في مصر". ولفت العربي الى ان عدم مشاركة الاتحاد في المؤتمر ليس التزاماً بموقف مصري رسمي لكنه "التزام قرار اتحاد غرفة التجارة والزراعة والصناعة في الدول العربية عدم التطبيع مع الكيان الإسرائيلي قبل السلام الشامل والعادل وتحرير القدس". وعلى رغم ان اتحاد الصناعات قرر المشاركة في المؤتمر، فإن رئيسه محمد فريد خميس اوضح ان الاتحاد يتعاطى مع المؤتمر وفقا لمفهوم "استغلال المناسبة لصالح الاستثمار في مصر" من خلال وجود هذا التجمع من رجال الاعمال، مشيرا الى ان ورقة الاتحاد الى المؤتمر "تتضمن فقط الترويج للاستثمارات في مصر". ولفت إلى "انه حتى التعاون الاقليمي لا يعني في الضرورة أن تكون إسرائيل طرفا فيه". ولكن الملاحظ أن هناك تبايناً في مواقف رجال الاعمال المصريين من المؤتمر وبالنسبة الى الموقف الرسمي. أحدهم - رفض ذكر اسمه - اعرب ل "الوسط" عن استغرابه لموقف الحكومة المصرية، ودعا إلى "الفصل بين السياسة والاقتصاد". واعتبر انه "طالما طلبت مصر في قمة عمان الماضية عقد المؤتمر الثالث في القاهرة، فلا بد أن تطرح مشاريع التعاون الاقليمي ومناقشة مشاريع مشتركة مع جميع الاطراف بما فيها اسرائيل". وزاد على ذلك بأن "تفويت الفرصة اهدار للجهود الرامية الى جذب الاستثمارات الاجنبية". ومجموعة اخرى رأت "امكان تحقيق توازن بين الموقف السياسي واهداف المؤتمر وامكان بحث مشاريع اقليمية مشتركة مع رجال اعمال اسرائيليين. وفي الوقت نفسه العمل على خلق جبهة من الاعمال لإظهار مساوئ سياسات نتانياهو والتحول عن طريق السلام لممارسة ضغوط على حكومة إسرائيل". ودخلت المؤسستان الدينيتان المصريتان على خط انتقاد المؤتمر، باعتباره احد اشكال التطبيع مع اسرائيل. فاعتبر شيخ الازهر الدكتور محمد سيد طنطاوي "مقاطعة اسرائيل واجباً دينياً". وأيد البابا شنودة الثالث "مقاطعة الكيان الصهيوني". وأجمعا خلال ندوة اقامتها نقابة الصحافيين الاسبوع الماضي على "ان اسرائيل لا تعرف سوى لغة القوة. ولا فارق بين نتانياهو وبيريز". وتحدث كل منهما عن صفات اليهودي في القرآن والإنجيل، وقال ان ابرزها "نقض العهود". وعندما حاول وزير الاوقاف حمدي زقزوق تلطيف الاجواء التي نجمت عن تصريحات طنطاوي وشنودة، معرباً عن عدم ارتياحه الى قرار البابا شنودة عدم السماح بسفر الأقباط الى القدس، ردّ شنودة بقوله ان السفر صورة من صور التطبيع. ويلاحظ انه فيما يتعلق باسرائيل، والمؤتمر تحديدا، انعدمت الفوارق بين الصحف الرسمية والمعارضة، إذ تكيل كل منها انتقادات حادة لحكومة اسرائيل ونتانياهو. وتفردت صفحات لمقالات تدعو إلى تأجيل المؤتمر أو الغائه كلية. ولا يكاد يمر يوم في القاهرة من دون ان يصدر بيان او تعقد ندوة تنظمها احزاب او جمعيات غير حكومية ونقابات مهنية تطالب بالغاء المؤتمر او تأجيله. في الوقت الذي تنشط احزاب المعارضة حاليا في اتجاه مناوئ للتطبيع ومعادٍ لسياسات اسرائيل. وتتضمن نشاطات الاحزاب ندوات خلال ايام المؤتمر لمناهضة التطبيع، وتشكيل لجنة قومية للدفاع عن عروبة القدس. وفي اشارة واضحة الى الاجواء داخل هذه التجمعات غير الحكومية، استضافت القاهرة - الاسبوع الماضي - المفكر الفرنسي روجيه غارودي والتقى مثقفين وعقد ندوة تحدث فيها عن كتابه الاخير "الاساطير المؤسسة للصهيونية"، المطروح في المكتبات المصرية. وعلى رغم ان الجهة الداعية ليست حكومية اتحاد الفنانين العرب الذي يرأسه الكاتب سعد الدين وهبة، فإن زيارة غارودي تضمنت لقاءات مع مسؤولين. وتفاعل الشارع المصري مع الوضع، اذ أن احد المواطنين أقام دعوى مستعجلة امام محكمة القضاء الاداري للمطالبة باستصدار حكم قضائي بالغاء قرار الحكومة استضافة المؤتمر في القاهرة. وستصدر المحكمة قرارها في الخامس من الشهر المقبل قبل اسبوع من الموعد المضروب لعقد المؤتمر. ويستند محام حكومي الى رفض الدعوى بالغائه كون الحق في اقامة الدعوى انقضى بمرور 60 يوما على قرار الحكومة السماح بعقده في القاهرة، إذ ان مصر طلبت ذلك من قمة عمان في تشرين الثاني نوفمبر 1995. وفيما تجري الترتيبات لعقد مؤتمرين مناهضين للتطبيع مع اسرائيل في القاهرة يتزامنان مع انعقاد المؤتمر الاقتصادي، فإن مؤتمرا منهما تقرر تأجيله شهراً. وعزا فاروق أبو عيسى امين عام اتحاد المحامين العرب الداعي الى عقد أحد المؤتمرين باعتبار الاتحاد عضواً في اللجنة القومية لمناهضة التطبيع التي تضم نقابات ومنظمات عربية غير حكومية ل "الوسط" ان التأجيل سببه "اسباب مالية"، مما حدا بالاتحاد الى الدعوة إلى عقده لمدة يوم واحد على هامش اجتماعات مكتبه الدائم في القاهرة في الشهر التالي لانعقاد المؤتمر الاقتصادي. اما المؤتمر الثاني فإن الجهة المنظمة اللجنة المصرية لمناهضة التطبيع أعدت قائمة تضم من أسمتهم "المتعاملين مع اسرائيل من صحافيين وكتاب ورجال اعمال" لفضح تطبيعهم، وقائمة اخرى تضم موظفين حكوميين في وزارة الزراعة خصوصاً، فصلوا من عملهم لرفضهم السفر إلى اسرائيل ضمن برنامج التعاون بين وزارتي الزراعة في مصر واسرائيل. ويُعقد مؤتمر اللجنة، وهو مؤتمرها العام الأول، تحت شعار "مواجهة الصهيونية ومكافحة التطبيع". وانعكست هذه الاجواء على اسرائيل، فأعلن وزير البنية التحتية آرييل شارون رفضه تلبية دعوة وجهها إليه الرئيس مبارك - عبر الاعلام - لزيارة مصر احتجاجا على ما سماه "المواقف العدائية في مصر ضد اسرائيل ورئيس حكومتها". كما اعلنت اسرائيل تصميمها على عقد مؤتمر اقتصادي دولي في القدس في التاسع من الشهر المقبل قبل انعقاد مؤتمر القاهرة بثلاثة ايام. وحسب مصادر ديبلوماسية مصرية فإنه "لا زيارة رئيس اسرائيل عيزرا وايزمان لمصر - قبل ايام - ولا الزيارة المرتقبة لرئيس الحكومة العمالية السابقة شمعون بيريز ستساهمان في تلطيف الاجواء، لأنهما ليسا صاحبي القرار في اسرائيل. والعبرة بالتبدل في المواقف الرسمية للحكومة الاسرائيلية والتغيير على الارض، وليس بالاقوال او عبر زيارات بروتوكولية". واعتبرت المصادر نفسها "مؤتمر القدس" مجرد "دعاية سياسية واستفزاز لمصر". وتتوقع اوساط سياسية في القاهرة ان تنعكس اجواء العاصمة المصرية على مستوى المشاركة في المؤتمر الاقتصادي وحجمها بأن يكون الحضور الاسرائيلي من رجال الأعمال محدودا أو اقل من حجم حضور المؤتمرين السابقين الدار البيضاءوعمان. وتشير بيانات وفود 25 دولة تسلمتها القاهرة الى رئاسة وزراء التجارة والاقتصاد للوفود. وحضور اقل مما كان متوقعا من جانب رجال الاعمال. ويؤكد صدق هذه التوقعات - حتى الآن - ابلاغ اسرائيل مصر رسميا بأن وفدها إلى المؤتمر سيرأسه وزير التجارة الاسرائيلي.