على الرغم من رحيل مبدعين كبيرين: هما الروائي عبدالحميد بن هدوقة الذي كان يصارع المرض الخبيث منذ أشهر طويلة، والمسرحي نور الدين عبّة الذي قضى في باريس إثر نوبة صحية مفاجئة... عرفت السنة الماضية في الجزائر، بخلاف سابقاتها، بعض الانفراج على جبهة الضغوط التي يواجهها المثقفون. كما خفّّت لاجراءات القمعية التي كانت تحدّ من حرية التعبير... لكن انتعاش الحياة الثقافية يحتاج إلى استقرار أمني وسياسي حقيقي، كي تستعيد المسارح وقاعات العرض ودور السينما والأندية الثقافية جمهورها المعتاد. وإذا كانت الظروف الحالية، في الغالب، عاملاً يشحذ الانتاج الابداعي ويطعِّمه بكثير من الصدق والتفاني والتصميم على رفع التحدّي، فإن الحياة العامة، من أمسيات وعروض ومحاضرات ونشاطات أدبية، لا تزال شبه مشلولة بسبب المصاعب الأمنية. فأغلب المسارح أغلقت أبوابها، وهجر الجمهور دور السينما، وانفرط عقد الأندية الفنية والأدبية التي برزت بقوة، في مطلع التسعينات. في وهران، أبرز المراكز الثقافية وأنشطها فيما مضى، لم نسمع بأي نشاط جديد لجمعية "آفاق" التي كانت نظّمت في مطلع السنة الماضية تظاهرة أدبية هامة، هي "ملتقى شعراء الجزائر المعاصرة". ويبدو أن الجمعية اختارت الصمت النهائي، بعد اغتيال رئيسها الشاعر بختي بن عودة، في أيار مايو 1995. والشيء نفسه ينطبق على جمعية "الباهية" التي أسسها المسرحي عبدالقادر علولة، فهي لم تنظّم أي نشاط منذ اغتياله في مارس 1994. حتى نشاطات "قصر الثقافة" انحسرت بشكل ملحوظ، بعد رحيل المدير السابق لهذه المؤسسة الثقافية الرسمية، الروائي أمين الزاوي، إلى المنفى الفرنسي. وفي العاصمة الجزائر، لم تعد مؤسسة "المركز الثقافي والاعلامي" C.C.I، التابعة لوزارة الثقافة، والتي تملك 4 قاعات بارزة في المدينة هي "الموقار"، "الأطلس"، "ابن خلدون" و"مسرح الهواء الطلق"، تنظّم أي نشاط يُذكر، عدا بعض الحفلات الموسيقية القليلة في "المناسبات الوطنية الكبرى". ولم يعد أحد من مثقفي واعلاميي المدينة يؤم "نادي الفنانين والصحفيين"، التابع لمؤسسة "الاذاعة الوطنية"، والذي أسسه الطاهر وطّار عندما كان مديراً لهذه المؤسسة في مطلع التسعينات. و"اتحاد الكتاب الجزائريين"، الذي استطاع ان ينتزع استقلاليته السياسية والمالية بصعوبة سنة 1989، وعرف ازدهاراً كبيراً آنذاك في عهد أمينه العام السابق، الروائي رشيد بوجدرة، عاد مثلما كان في السابق مرتعاً للبيروقراطيين وأذيال السلطة والوصوليين. كما استقال منه تباعاً معظم أعضائه البارزين، وأعضاء أمانته السابقة: رشيد بوجدرة وواسيني الأعرج وعبدالحميد بورايو... والمؤسسة الوحيدة التي لا يزال لها نشاط ثقافي في المدينة هي جمعية "الجاحظية" التي يرأسها الطاهر وطار. لكنه نشاط مشفوع بمواقف وطار الملتبسة من الأصولية، وسكوته عن اغتيال أقرانه من رجال الفكر والثقافة، لكي لا نقول انزلاقه إلى تبرير تلك الاغتيالات. وفي ظل هذا الوضع، تشكّل جمعية "ابداع" التي تسيّر قصر الثقافة في مدينة عنابة، الاستثناء الوحيد. حيث استطاعت أن تحافظ على الحدّ الأدنى من النشاطات الثقافية المنتظمة. وتحت وطأة كلّ هذه العوامل، يعاني المسرح الجزائري من أزمة خانقة. فالمسارح الكبرى أُغلقت، ولا نكاد نعثر على أعمال مسرحية محترفة في الداخل. أما في الخارج فلا بدّ من الاشارة إلى مسرحية "مرارة الأبناء" لفرقة سليمان بن عيسى الذي استقرّ في المنفى الباريسي منذ 1993، وتحوّل إلى الكتابة المسرحية بالفرنسية، لجمهور فرنسي بالدرجة الأولى. والكلام نفسه ينطبق بنسبة ما على "مسرح القلعة" والثنائي الزياني شريف عيّاد ومحمّد بن قطّاف الذي يقدّم في ضواحي باريس مسرحيّة "صورة جامدة". ووسط حالة التأزّم العام، يشكل الانتاج السينمائي فورة حقيقية. تواصلت هذه السنة الصحوة التي لوحظت بوادرها منذ مطلع التسعينات. وفي مقدّمة انتاج السينما الجزائرية هذه السنة، فيلم "غبار الحياة" لرشيد بوشارب الذي رُشّح لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي. صحيح أن الفيلم من انتاج فيتنامي - بلجيكي - فرنسي، إلا أنه أُنجز من قبل طاقم فني وتقني كله من الجزائر، وحمل بالخصوص بصمات مدير التصوير الشهير يوسف صحراوي. وفي فيتنام ايضاً انتهى عمار العسكري أخيراً من تصوير "زهرة اللوتس". وقدّم مرزاق علواش فيلمه الجديد "سلاماً يا ابن العم" التانيت الذهبي لمهرجان قرطاج 96. وفي مهرجان قرطاج أيضاً عُرض فيلم جديد لأحد "سينمائيي الداخل": "البورتريه" لحاج رحيم، وهو أحد الافلام الثلاثة التي انتجتها، السنة الماضية، "المؤسسة الوطنية للانتاج السمعي - البصري"، إلى جانب "الحنين إلى العالم" لرابح بوبراس و"الرقم 365" لعبدالرزاق هلاّل، وهو أول فيلم جزائري يتناول مرض "الايدز". ومن جهته انتهى محمد شويخ من تصوير فيلمه الجديد "الواحة"، وانتهى أحمد راشدي من تصوير عمله الضخم المقتبس عن رواية أمين معلوف "ليون الافريقي". ويعد العام الماضي من أخصب المواسم بالنسبة إلى الرواية الجزائرية، حيث صدرت في باريسوالجزائر 18 رواية جديدة، أبرزها رواية واسيني الأعرج "حارسة الظلال"، ورواية آسيا جبار "بياض الجزائر"، إلى جانب "اليوم الأخير" لمحمد القاسمي، و"ذاكرة قرطبة" لنبيل فارس، و"رمال حمراء" لعبدالقادر جمعي، و"احلام وقتلة" لمليكة مقدّم. والنقطة المشتركة بين كل هذه الاعمال الأدبية أنها جميعاً صدرت باللغة الفرنسية. حتى رواية الأعرج الذي يكتب أصلاً باللغة العربية، صدرت ترجمتها الفرنسية، بينما لا يزال النص الأصلي الذي يحمل عنوان "منحدر السيدة المتوحشة"، يبحث عن ناشر...