اجتذب المضمون الراوية الجزائرية فلم تنظر الى الشكل إلاَّ بصفته خادماً لهذا المضمون الخاضع لأفكار الواقع في تجلياته الثورية. ولم يجدّد النقد الانطباعي والايديولوجي الذي اهتم بالرواية، مفاهيمه النظرية، ولذا ساهم في توجيه الرواية العربية الجزائرية الى نموذج الواقعية النقدية أو الاشتراكية في مظهرها السطحي البسيط. انطلاقاً من هذا الأساس اختلفت الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية عن الرواية العربية المشرقية وخصوصاً من ناحية النضج الفني ومستوى الوعي السياسي. وظل شكل الرواية العربية في الجزائر يراوح مكانه حتى مطلع التسعينات حين برزت أقلام روائية تجاوزت العزف الثنائي المنسجم مع الواقع والسلطة ونمت بأشكال جديدة سواء عبر اختلافها في تقنية الكتابة أو في رصد الأحداث بتنوعها الاجتماعي والثقافي والسياسي من خلال منظور مختلف اهتم بالتغيرات الحقيقية التي طرأت على المجتمع، وتناولت هذه الأقلام مادتها الكتابية من موقع سلطة يوازي السلطة الحاكمة، إذ لم يعد الأديب مراقباً "مسكيناً" منزوياً في العتمة، ولم يعد موقعه هامشياً هادئاً غارقاً في رومانسيات ما بعد الاستقلال مباشرة. كتب عبدالحميد بن هدوفة، والطاهر وطّار، ومرزاق بقطاش، وجيلالي خلاص، وأبو العيد دودو، وغيرهم من الكتّاب ما يشبه الأدب، وتميَّز وطار بخروجه عن الصف لتبنيه أفكاراً يسارية ولتقديمه نصّاً متخيلاً اختلف عن معظم نصوص فترته وهي بدت كأنها وثائق تاريخية. من هنا يبدأ الكاتب والناقد علاَّل سنفوفة تحليله لواقع الرواية العربية الجزائرية وعلاقتها بالسلطة في كتابه المهم "المتخيل والسلطة في علاقة الرواية الجزائرية بالسلطة السياسية" الصادر حديثاً عن منشورات الاختلاف الجزائر. وفي كتابه هذا "المتخيل والسلطة" يتوقف عند الخطاب الايديولوجي في الراوية الجزائرية من زاويتين" الزاوية الأولى هي اعتبار الايديولوجيا في الرواية عنصراً راسخاً وأساسياً أمَّا الثانية فهي الرواية كإيديولوجيا تتعاضد في بنائها كل الايديولوجيات الممثلة للشخصيات، وهذا ما نستنتجه بعد قراءة أي عمل روائي في مختلف أبعاده الإيديولوجية المتصارعة والمكونة لرؤية الكاتب. وإن كانت الرواية العربية اهتمت بالايديولوجيا بدءاً من السبعينات مشيدة بالنزعة الثورية والقومية، الى أن حلَّت الهزائم التاريخية للأمة العربية على الوعي العربي كزلزال خلخل توازنه. وحطم ثقة المثقف العربي في أنظمته السياسية. حدث ذلك الانتقال من "خطاب سياسي ثوري من أجل الاستقلال السياسي الى خطاب سياسي معارض لنظام السلطة في المجتمعات العربية" وكان على الرواية الجزائرية ان تخطو الخطوات ذاتها تقريباً مع اختلاف بسيط وهو أن الكاتب الجزائري تجاوز مرحلة ادانة النظام الذي حدَّ من حرية الإنسان واعتدى على حقوقه، ربما لأن الوضع لم يكن واضحاً في مطلع الاستقلال. ولهذا ساند معظم الكتاب الثورة الاشتراكية وخمد الإسلاميون قبل الاستقلال وبعده، وغاب حضورهم تماماً، فهم لم يكونوا من مساندي ثورة التحرير وتحقيق الاستقلال بلغة السلاح، وظلوا على خمودهم حتى شهدت الجزائر أحداث أكتوبر 1988، حيث برز التيار المضاد للسلطة وكان في بدايته يشمل المعارضة كلها بإسلامييها وشيوعييها وديموقراطييها، بعلمانييها ومحافظيها. تبنى الخطاب الأدبي العربي في الجزائر انطلاقاً من هنا ثلاثة أشكال إن لم نعتبرها أربعة قامت خلال المراحل التالية: مرحلة ما قبل الاستقلال والتي لم تشهد ميلاد الرواية ولكنها كانت مفعمة بالشعر، وأهم شاعر ميز هذه المرحلة هو مفدي زكريا صاحب النشيد الوطني الجزائري، وملحمة الجزائر الشهيرة، مرحلة ما بعد الاستقلال، مرحلة ما بعد أحداث أكتوبر 1988، أمَّا المرحلة الرابعة فإنها تسجل في مطلع هذا القرن وهي جديدة لم تتضح معالمها جيداً بعد، خصوصاً ان النص الروائي فيها برز في شكل أقوى، كما تنوعت فيه الايديولوجيات المطروحة ويمكن تقسيم الرواية على أساسها الى: رواية سلطة: بعد أن وقف كتاب في صف السلطة والجيش، ورواية معارضة: بعد أن وقف قسم آخر منهم في صف المعارضة ولكن هذه المرة في حال من التنوع. يقسم الناقد من ثم مجموع الكتّاب بحسب توجهاتهم السياسية بدءاً من مرحلة ما بعد الاستقلال التي شهدت ازدهاراً في التوجه الوطني القومي، ولكن فنياً طغى التصريح المباشر بالأفكار والمرجعيات، مما جعل النص يحيد عن مساره الجمالي الى التعبير الواقعي المباشر. فالرواية يكتبها كتّاب من ذوي الثقافة المزدوجة والذين وجدوا أنفسهم في ظروف ثورة تحريرية اقتضت منهم الحسم بين الانتماء الى هوية وطنهم أو الاحتماء بالفرنسي وثقافته التي تعزل المثقف الجزائري عن مجتمعه. ويمكن القول ان كتّاب هذا التوجه لم يقدموا في الغالب سوى شخصيات "آلية ساكنة"، ولم يقدموا كذلك سوى نص روائي هو مجرد ظل لفكرة ايديولوجية يتبنّاها الراوي ذاته، مع غياب تام للرؤية النقدية. ومن هؤلاء الكتّاب مرزاق بقطاش. أمَّا التوجه الثاني فهو التوجه الماركسي ويمثله بقوة الكاتب الطاهر وطار الذي برز بروايته "اللاَّز" وجزئها الثاني "العشق والموت في الزمن الحَرَّايشي". وما يسجل على هذا التوجه أيضاً الهيمنة الايديولوجية التي أدت الى افراغ النص من بعده الجمالي، وطغيان الشرح التعليمي عليه. التوجه الثالث هو التوجه الديني، وهو على رغم تمسك الجزائري بالدين الإسلامي واعتباره عنصراً مهماً من عناصر هويته إلاَّ أنَّ النماذج الروائية الجزائرية الممثلة للتيار الديني قليلة جدّاً ومنها على سبيل المثال رواية "الفجوة" لحفناوي زاغر. ووظف هذا الشكل الروائي أيضاً من أجل أن يقوم بدور ايديولوجي ولتصور عالماً أخلاقياً متسامياً يعارض عالماً آخر غير أخلاقي، كما في رواية "عَزُّوز الكابران" لمرزاق بقطاش وفيها تبرز شخصية "شيخ الجامع". ويُسجل اختلافاً سواءً في الطرح أو في التعبير في هذا الجانب في رواية "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي التي رسمت بأشكال سردية متنوعة نمطاً آخر للتوجه الديني بالموازاة مع توجهات أخرى، اختلفت عن الأنماط الايديولوجية التقليدية في الرواية الجزائرية الماركسية، الاشتراكية الوطنية، الإسلامية. وتحضر رؤية حداثية نزَّاعة "الى نقد الايديولوجيات الثورية ماضياً وحاضراً ومواجهة الواقع السياسي الجديد". وقد تمثلت في كشف لا معقولية التيار السياسي القائم على العقيدة الدينية التي هي ملك لجميع الشعب، ولا شرعية التيار الديني: "هل يصح أن نقتل الناس إذا لم يؤمنوا؟ وهل يصح تصفية المجاهدين ورموز الثورة الوطنية لمجرّد انهم لم يوافقوا هذا التيار في تصوراته للواقع الجزائري؟" هذا ما تطرحه مستغانمي في روايتها "ذاكرة الجسد"، الواقعية التاريخية في درجة أولى. أمَّا التوجه الأكثر غرابة والذي ظهر بعد أحداث أكتوبر عند بعض الكتّاب فهو التوجه التوفيقي، وهو توجه يحاول فيه الكاتب الجمع بين توجهين. وظهر في هذا الاتجاه الطاهر وطار الذي كان ماركسياً ثم بدا متعاطفاً مع الإسلاميين فأعطى صورة توفيقية بين الماركسية والسلفية. ولعلَّ ردّ الفعل هذا أصيب به أكثر من كاتب بعد انتصار "الانقاذيين" في أول انتخابات ديموقراطية في الجزائر، ربما لإدراك هذه الفئة ان الماركسية غريبة على مجتمع أصبح يرى خلاصه في الايديولوجية الدينية. لكن هذا التوفيق بين الايديولوجيتين يرجع أيضاً الى أن كليهما يقوم على الدفاع عن الطبقات الفقيرة الكادحة كما في رواية "الشمعة والدهاليز" لوطار. ووطار في الحقيقة يبدو - على رغم ماركسيته الواضحة - ميالاً الى مغازلة أكثر من طرف. ففي روايته "الحوَّات والقصر" يدافع عن السلطة الوطنية أسطورياً. وجاء خطاب الرواية مباشراً وتقريرياً، واضح المعالم، يكاد يخلو من جماليات النص المفترضة لولا الفكرة الجميلة التي طرح الكاتب من بابها قضيته، وتقوم على حوَّات صياد سمك يقطع نذراً مع نفسه أن يهدي السلطان سمكة. فيصطاد سمكة غريبة ويأخذها له، ولكن الأمر يكلفه مشاق ومتاعب في الطريق، ثم في القصر عبر مراكز العبور الكثيرة. وأخيراً تُقطع يده اليمنى ويطرد من القصر، فيعيد الكرَّة ثانية ليفقد يده اليسرى، ثم يعيد الكرَّة ثالثة ليفقد لسانه، وفي المرة الرابعة يصل الى السلطان لكن من دون يدين ولا لسان والأدهى أنه يكتشف أن لا وجود للسلطان ولكن هناك حاشية تمارس الإجرام والسرقة والقتل ضد كلّ من يحاول دخول القصر ولو بنيات حسنة مثلما فعل الحوات. والكاتب هنا يشير الى ان "ما ينقص السلطة هو الوحدة، هو فكرة الوطن". كانت الرواية نموذجاً ناضجاً في نقد السلطة السياسية الحاكمة، وهي نفسها النظرة التي يتبناها واسيني الأعرج على رغم توجهه العلماني الواضح. لكن الفرق بين مستغانمي والأعرج والآخرين، هو أنَّ مستغانمي وظفت راوياً حيادياً يتميز بوطنية مثالية مما منح للقارئ حرية في التعامل مع النص من دون أن يشعر بسلطة الكاتب عليه. أمَّا واسيني فوظف التراث مع راوٍ يجرُّ قارئه نحو أفكاره كما في روايته "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف..."، عبر طرح اشكالية السلطة وانحرافاتها مما أدَّى الى سقوطها لعدم انسجامها أخلاقياً واجتماعياً وسياسياً مع طبيعة المجتمع العربي الإسلامي. وما اختيار واسيني لفترة سقوط آخر حصون الأندلس سوى إشارة الى واقعنا الحالي والسلطة الحالية وهي في نظره سقطت وانتهى أمرها وما استمرارها إلاَّ احتضار لا غير، وينتقد بحدة المرجعية الفكرية السياسية الدينية. وهنا نسجل أيضاً تشابهاً بين واسيني ومستغانمي، لكونهما يقفان ضد تيارين في الوقت ذاته. أمَّا ما يُسجل على الرواية الجزائرية عموماً فهو العودة الى الثورة التحريرية كمصدر للمشروعية السياسية في حاضر السرد، وهو ما ركز عليه سنفوفة في كتابه ليتوصل الى نتائج مهمَّة، باعتبار الثورة هي قاعدة البنية في الرواية عموماً وهي التي - إما إشادة بها، أو ادانة لها - تتحكم في مسار الحدث ومحاكمة السلطة أو مساندتها. وإن كان المؤلف يتحدَّث في القسم الثاني من كتابه عن الرواية والبنية السردية، فيبتعد في أحيان عن الموضوع الأساسي الذي طرحه، إلاَّ أنه لا ينفك يعود اليه في ما يسميه "حدود الواقع والمتخيل"، مؤثراً أن يضيف رواية "يميمون" لرشيد بوجدرة وليتوقف عندها قليلاً مبيناً مدى اختلافها عن بقية الروايات التي يهيمن فيها الواقعي على المتخيل. ومعروف ان بوجدرة يوظف دائماً طفولته لصوغ العالم، وفي "يميمُون" نقرأ طفولة شاذة ومريضة، مع ملاحظة أن بوجدرة كتب هذه الرواية حين فرَّ هارباً من العاصمة، بعد أن حكم عليه الإسلاميون المتطرفون بالردَّة والموت. وفرَّ الى تميمون وهي مدينة في أقصى الجنوب الجزائري وهناك اكتشف الفرق بين عالم الشمال الصاخب سياسياً وعالم الجنوب الهادئ والساكن، بين عالم الشمال الغارق في العنف وعلاقته المباشرة بالسلطة وبين عالم الجنوب المنسي والذي تضعه السلطة في هامش بعيد عن اهتماماتها. ويصل المؤلف في نهاية دراسته المطولة هذه الى ان القول السياسي هيمن على النص الروائي الجزائري الى حدِّ الابتذال في أحيان كثيرة، مما جعل النص يتحول "مجرد وعاء يستوعب الأفكار السياسية التي تتزامن مع فعل الكتابة أو قبلها أو بعدها ولكنها أبعد من أن تستوعب رؤية فنية جديدة تخرجها من اللغة الروائية البسيطة" ص288. ويستنتج أن علاقة الرواية بالسلطة منذ العام 1962 الى يومنا، أي خلال 40 سنة لم تستقر على حال واحدة، وقد تنوع الخطاب الإيديولوجي وتغير في حركة سريعة ليتخذ ألواناً عدة منها ما هو مع السلطة وضد المعارضة، ومنها ما هو ضد السلطة ولكن مع المعارضة، ومنها ما هو ضد السلطة ومعها في الوقت ذاته ومنها ما غازل الاثنين معاً. وان كانت الرؤية الايديولوجية الماركسية والوطنية المحافظة قد هيمنت على النصوص الروائية فأنّ الفترة الممتدة من الثمانينات الى منتصف التسعينات شهدت روايات تمتع من الخطابات السياسية المتعددة، وتدعو الى قيم الحرية والديموقراطية والحداثة" ص288، ونجد كل رؤية سياسية غالبة تمارس الإلغاء على بقية الرؤى السياسية المخالفة لها. وخلاصة القول ان علاقة الرواية الجزائرية بالسلطة وطيدة الى درجة انها تحولت عنصراً أساسياً في بنيتها.