أصدرت المحكمة الجنائية الخاصة في باريس أمس حكما غيابيا بالسجن المؤبّد بحق ستة ليبيين ادانتهم بتفجير طائرة "يوتا" الفرنسية فوق صحراء النيجر في 1989، مما يضع حدّا لعشر سنوات من الترقّب لذوي ضحايا الطائرة وعددهم 170 شخصا. وجاء قرار المحكمة التي تشكّلت من سبع قضاة وانعقدت يوم الاثنين الماضي، مطابقا لما كان طالب به المدعي العام جينو نكي الذي أكدّ في مرافعته أمام المحكمة أنه من المتعذّر التمييز بين المتهمين الستة من حيث العقوبة التي ينبغي اعتمادها في حقهم لأنهم يشكلون "مجموعة منظمة لكل منهم موقع ومهمات مفصّلة في اطارها". ومعروف أن الستة هم عبدالله السنوسي قريب الزعيم الليبي العقيد معمّر القذافي والمسؤول السابق في الاستخبارات والديبلوماسي السابق في برازافيل عبدالله الازرق وضابطا الاستخبارات ابراهيم نائلي ومصطفى عرباس ومساعدو السنوسي عبدالسلام حموده وعبدالسلام الشيباني. واستندت المحكمة في قرارها الى ملف التحقيق الضخم الذي أعده القاضي جان لوي بروغيير على مدى ثماني سنوات أجرى خلالها حوالي 70 زيارة للخارج منها واحدة لطرابلس، ويضم 23 ألف صفحة موزعة على 57 ملفا. وكان نكي المكلّف بالقضايا الارهابية لدى محكمة باريس طالب بإلحاق العقوبة القصوى المنصوص عليها في القانون الجنائي الفرنسي بالليبيين الستّة وهي السجن المؤبّد، خلال الجلسة الختامية للمحاكمة التي اقتصرت على مرافعته المطوّلة التي أدلى بها على مدى حوالى ساعتين ونصف الساعة، فصّل فيها سير التحقيقات التي أجريت في شأن الحادث وكيفية اتجاهها نحو ليبيا، والدوافع وراء تفجير الطائرة والمسؤولية الفردية التي تقع على كل من المتهمين الستّة. وقال نكي أن تفجير طائرة "يوتا" عبّر عن "عنف أعمى" هدفه "تعميم الذعر والترهيب" و"ضرب فرنسا ودورها في تشاد ووسط افريقيا" نظرا لما انطوى عليه من تضارب مع الدور الليبي. وذكر ان بعد محاضر التحقيقات التي أجرتها السلطات الكونغولية والتي سلّمت الى بروغيير في اطار استقصاءاته أظهرت فرنسا على أنها "عدو ليبيا" وأنه "يجب التعامل معها كعدو والتعرّض لمصالحها ومحاربتها من دون تردّد". وأوضح انه غداة الانفجار، طرحت احتمالات عدّة تم التحقق من جديتها عبر استقصاءات في الخارج، ومن بينها احتمال ان تكون سورية وراء الانفجار واحتمال أن يكون وراءه طرف لبناني. وأضاف أن التدقيق في هذه الفرضيات لم يسفر عن نتائج في حين ان توجيه الاتهام نحو ليبيا فرض نفسه تلقائيا في ضوء مجموعة من العناصر الموضوعية. وتابع نكي ان من أبرز هذه العناصر بقايا الحقيبة التي عثر عليها بين حطام الطائرة، التي تبيّن انها اميركية الصنع، وتحمل آثار متفجرات، وأن التحقيق الذي أجري في الولاياتالمتحدة مع مسؤولي الشركة التي تصنع هذا النوع من الحقائب، أظهر أن سعرها ومواصفاتها لا يتطابقان مع نوع الحقائب المصدرة الى الشرق الأوسط، وبذلك مالت وجهة التحقيق في هذا الاتجاه. العنصر الثاني تمثّل بجهاز التوقيت الذي استخدم في عملية التفجير، الذي قال نكي ان بروغيير تمكّن بعد تتبّع حلقة تصنيعه وتسويقه من المانيا الى تايون أتاح بدوره توجيه الأنظار الى ليبيا خصوصا في ضوء أقوال مدير الشركة الالمانية التي تنتج هذاالنوع من أجهزة التوقيت. وتوقف نكي عند عنصر ثالث وهو المكان الذي وضعت فيه الحقيبة على متن الطائرة، اذ تبيّن أنها وضعت لدى توقف الطائرة في برازافيل وليس نجامينا حيث كانت حطت لفترة من الوقت في طريقها الى باريس. وهناك أيضا عنصر رابع برز بعد التدقيق بلائحة الركاب الذين صعدوا الى الطائرة في كل من نجامينا وبرازافيل، فقال نكي أنه تبيّن أن ليبياً يدعى منصور كان حجز مكان له على الطائرة ولكنه لم يسافر، وأنه لدى توقيفه لاحقا واستجوابه خلال زيارة قام بها لباريس، أفاد بأنه ألغى سفره لأنه تلّقى أمرا بذلك. وعرض نكي إفادات أشخاص تم استجوابهم في فرنسا وبريطانيا والولاياتالمتحدةوالكونغو تم جمعها إما عبر السلطات المحلية في هذه الدول أو عبر رجال شرطة فرنسيين أو موظفين محليين في حضور فرنسيين، وتتقاطع جميعها عند ضلوع الليبيين في عملية التفجير. وانتقل الى تفصيل الاتهامات فرديا على كل من المتهمين، فقال أن الأزرق عمل مستشارا في السفارة الليبية في برازافيل وكان يحل محل السفير الغائب، وأن أقوال الشهود ومنهم المعارض الكونغولي برنار يانغا سرعان ما أشارت الى تورطه في العملية. وأوضح نكي ان يانغا كان ينتمي مثله مثل ابولينير مانغاراني الذي حمل الحقيبة المفخخة الى الطائرة، الى مجموعة مموّلة من ليبيا. وأضاف أن مانغاراني كان عاطلا عن العمل ويعيش بفضل ما يتقاضاه من الأزرق ويطيع أوامره وأن الأخير كلّفه بالسفر الى فرنسا وزوّده الحقيبة وبطاقة السفر وأربعة آلاف فرنك فرنسي وطلب منه عدم البوح لأي كان بالمهمة الموكلة إليه، لكنه رغم ذلك أطلع يانغا على الأمر. وتابع انه عقب الانفجار حاول يانغا ابتزاز الليبيين فوجّه الى الأزرق رسائل تشير الى أنه على علم بما جرى وطلب منه مبلغ من المال، مما حمل الأخير الى مغادرة برازافيل على وجه السرعة قبل وصول السفير الذي كان ينوب عنه. أما نائلي ومصباح فقال نكي انهما وصلا الى الكونغو قبل العملية بحجة تفقّد إحدى الشركات التجارية الليبية - الكونغولية، مستخدمين جوازي سفر دبلوماسيين وهو ما يتنافى مع مهمتهما التجارية، وانهما لم يزورا مقر الشركة ولم يطلبا الاطلاع على حساباتها وجداول نشاطاتها بل اكتفيا بلقاء مدير الشركة عند الأزرق. وأضاف أنهما في الواقع خبيرين في تفجير الطائرات وجاؤوا الى الكونغو لأن الأزرق احتاجهما للإعداد للعملية وأن مهمتهما التجارية لم تكن سوى غطاء للزيارة. وذكر أن نائلي كان يشرف على تدريبات عسكرية تنظمها ليبيا لبعض الكونغوليين وأن أقوال هؤلاء أظهرت أن المسؤول الأساسي عن هذه التدريبات هو السنوسي الذي قابلوه وحثّهم على العمل ضد المصالح الامبريالية. وتوقف نكي عند التصرّف المثير للإرتياب الذي أقدمت عليه السلطات الليبية التي أبلغت القضاء الفرنسي وفاة عرباس في حادث سير، وأبرزت شهادة وفاة تحمل اسمه، ليتبيّن لاحقا أنه قام بزيارة لليونان. وقال انه لدى مراجعة السلطات الليبية في هذا الشأن، كان جوابها انه حصل خطأ في الأسماء، حملها على الاعتقاد بأن عرباس قد توفي. وعن السنوسي، ذكر نكي أن حموده كان حلقة الوصل بينه وبين الازرق ونائلي وعرباس، وأنهم أجروا اجتماعات معه للاعداد للعملية وكانوا يتلقون اوامرهم منه. وأضاف انه بعد التحقق من رقم الهاتف الذي كان نائلي يطلبه من الكونغو تبيّن أنه رقم حموده في ليبيا. أما شيباني، فأشار نكي الى أن اسمه ظهر في التحقيق بعدما تم الكشف عن مواصفات جهاز التوقيت وتبيّن انه هو الذي اشترى 101 منه في المانيا، وأنه لدى استجواب بروغيير له أثناء زيارته الى ليبيا، أفاد أنه اشترى هذه الأجهزة لاستخدامها في أمن منشآت مدنية، رافضا الادلاء بالمزيد من التفاصيل بحجة انه يدلي بأقواله بصفته شاهد وليس بصفته منهم. وأضاف أن أقوال المسؤول عن الشركة الالمانية التي باعت شيباني أجهزة التوقيت أظهرت انه قدّم نفسه على أنه صاحب شركة صيد وأنه إضافة الى الأجهزة اشترى معدات أخرى لا علاقة لها بالصيد ومنها مثلا أجهزة تنصّت هاتفية. وأكدّ نكي، أنه يتضّح من عرضه ان الليبيين الستّة هم أعضاء في مجموعة منظمة تنتمي الى الاستخبارات الليبية وأن جميع اعضائها تعاونوا في ما بينهم في الاعتداء على الطائرة، ممّا يحول دون التمييز بينهم من حيث العقوبة. وعلّق محامي السنوسي فرانسوا جينو على قرار المحكمة بالقول انه "في المحاكمات الغيابية التي من المرجّح أن فرنسا تنفرد بها دون سواها في العالم، تعتمد العقوبة القصوى بحق المتهمين بصورة تلقائية". وأضاف جيبو ان الهدف من مثل هذه المحاكمات هو "إرضاء ممثلي حق الادعاء العام" في غياب محامي الدفاع الذين لا يحق لهم المشاركة في المحاكمات الغيابية.