المشهد الذي تابعته تركيا ظهر السبت 29 قبل الماضي كان فريداً من نوعه: رجل في السبعين من عمره، متدين منذ صغره ويريد اقامة نظام يطبّق الشريعة. وامرأة في نهاية العقد الخامس، سافرة، جميلة شقراء، ورمزٌ للمرأة العصرية، رئيسة أحد أكبر الاحزاب العلمانية في تركيا. جلس نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه الاسلامي وتانسو تشيللر زعيمة حزب الطريق المستقيم، ظهر ذلك اليوم جنباً الى جنب ليعلنا اول حكومة يرأسها اسلامي في تركيا العلمانية منذ العام 1923، في حدث لعله الاهم في التاريخ الاسلامي الحديث تتكثف فيه الدلالات والرموز بصورة لم يسبقها مثيل. في 29 حزيران يونيو 1996 شكلت حكومة ائتلافية بين حزبي الرفاه والطريق المستقيم لتعلن، في أولى دلالاتها، طيّ مرحلة وبدء صفحة جديدة من تاريخ تركيا. لقد طويت، في الجوهر، صفحة "الكمالية" فانضمت الى قائمة الايديولوجيات الكبرى التي كان القرن العشرون شاهداً على بزوغها وعلى موتها ايضاً: الشيوعية، الفاشية، النازية، والصهيونية بمعناها الجغرافي قبل بدء التسوية بين العرب واسرائيل. كانت الكمالية، التي تقوم على تصفية كل المظاهر الاسلامية في عشرينات وثلاثينات هذا القرن، شاهداً على احتضارِها وفشلِ الاسس التي قامت عليها، عندما ترأس اسلامي، يدعو علناً الى تطبيق الشريعة الاسلامية، حكومة النظام الذي انتجته. واذا كان هذا التطور التاريخي لا يعني بطبيعة الحال اقامة نظام اسلامي، فهو يشرع الباب واسعاً أمام مرحلة جديدة، تعيد الاعتبار الى المثل والقيم الاجتماعية التقليدية، دون وصد الابواب امام الدخول الى العصر الحديث بكل المنجزات الايجابية التي قدمتها الحضارة الغربية للبشرية. الاعتراف المتبادل جاء تشكيل الحكومة الجديدة ليفتح صفحة "الاعتراف المتبادل" بين النظام العلماني والحركة الاسلامية في تركيا. لم يعد حزب الرفاه، الممثل شبه الحصري للاسلام السياسي في تركيا منذ أكثر من ربع قرن، ذلك الخارج على الشرعية والقانون. بل اكتسب، شأنه شأن سائر الاحزاب الاخرى، مشروعية كاملة ضمن النظام السياسي القائم. وفي المقابل، ومن خلال البيان الوزاري للحكومة الجديدة، تقدم الرفاه بدوره الى منتصف الطريق، معلناً ولاءه لمبادىء الجمهورية التي أسسها أتاتورك، وفي مقدمها العلمانية، والديموقراطية القائمة على رأي الغالبية، والخضوع لشروطها وقواعدها والقوانين التي تحكمها. ونتيجة لهذه الدلالة الثانية يمكن لتركيا وللتجربة الاسلامية الجديدة فيها أن قدّما نموذجاً للدول المسلمة والعربية حيث تتواجه الانظمة والحركات الاسلامية في لعبة تجاهل متبادل، فلا توفّر الانظمة ديموقراطية حقيقية تتاح الفرصة فيها للجميع لممارسة حقّهم في العمل السياسي والوصول الى السلطة، ولا تجد الحركات الاسلامية سبيلاً سوى اعتماد اساليب غير ديموقراطية من العنف والاغتيالات والخطف. ان التجربة الجديدة التي تظهر الآن في تركيا تقدّم فرصة ذهبية لانتاج شكل جديد من اشكال التعاطي الحضاري والخلاّق بين الانظمة في الدول المسلمة والعربية وبين حركات المعارضة الاسلامية منها وغير الاسلامية. المأزق والمخرج ولكن كيف وصلت تركيا الى هذه اللحظة التاريخية من التزاوج العلماني - الاسلامي؟ شكّلت الانتخابات النيابية التي جرت في 24 كانون الاول ديسمبر 1985، محطة فاصلة في الحياة السياسية التركية. ففي تلك الانتخابات فاز حزب الرفاه، للمرة الاولى في تاريخ تركيا، بالمركز الاول بنسبة 3،21 في المئة وحصل على 158 مقعداً نيابياً، في حين تراجعت اصوات الاحزاب العلمانية اليمينية واليسارية بنسبة كبيرة عن انتخابات 1991، وتعذّر على حزبي اليمين مجتمعين وحزبي اليسار مجتمعين الحصول على 51 في المئة من المقاعد النيابية الضرورية لتشكيل ائتلاف حكومي بمعزل عن حزب الرفاه. ومع ان زعيمي حزبي اليمين: مسعود ييلماز الوطن الام وتشيللر الطريق المستقيم تبادلا انتقادات شخصية شرسة اثناء الحملة الانتخابية، الاّ أن الجيش التركي دفع في اتجاه الحؤول دون ائتلاف أي منهما مع حزب الرفاه، وأرغمهما بعد شهرين من فراغ سياسي ومساومات ومناورات على تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة ييلماز نالت الثقة في 12 آذار مارس الماضي. لكن الخلافات بين الزعيمين الشابين ييلماز وتشيللر انتقلت الى داخل الحكومة وساهم في استعار اوارها حزب الرفاه الذي تواطأ مع ييلماز لفتح ملف التحقيق مع تشيللر بتهمة الفساد واساءة استخدام المال العام، مما ادى الى انسحابها من الحكومة التي ما لبث رئيسها ييلماز ان قدم استقالته في 6 حزيران الماضي. وامام انقسامات اليمين واليسار، أضحت خيارات المؤسسة العسكرية محدودة جداً: اما اجراء انتخابات نيابية مبكرة او تشكيل حكومة ائتلافية بمشاركة الرفاه، وإما انقلاب عسكري. لكن خيار الانتخابات المبكرة الذي كان مرجحاً سقط نهائياً بعد الانتصار الكاسح لحزب الرفاه في الانتخابات البلدية الجزئية التي جرت في 2 حزيران الماضي، وبنسبة بلغت 5،33 في المئة، فيما لم تتجاوز النسبة التي نالها حزبا الوطن الام والطريق المستقيم مجتمعين 5،32 في المئة. وبات جلياً على الاثر ان الرفاه يتجه، في حال اجراء انتخابات نيابية عامة، الى تحقيق انتصار أكبر من الذي حققه في 24 كانون الاول ،1995 ويكون النظام عندها امام مشكلة اكبر مع "رفاه" أكبر وأقوى مما هو عليه الآن. أما خيار الانقلاب العسكري، مع انتفاء خطر اسلامي جدّي، وفي ظل نمو النزعة الليبيرالية في المجتمع والاقتصاد، لا سيما في الاعلام، وفي ظل الشروط التي يضعها الاتحاد الاوروبي للتقارب مع تركيا، وفي مقدمها احترام حقوق الانسان وترسيخ الديموقراطية والحريات، فسيجلب لتركيا من الاذى والاضرار ما يفوق كثيراً فوائده. امام هذا الحائط المسدود، بدا ان السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق الذي لم تعرف تركيا مثيلاً له من قبل، هو اشراك حزب الرفاه في السلطة مؤتلفاً مع احد الاحزاب اليمينية. وبعد ان نجح اربكان في نسف الحكومة السابقة من الداخل عبر تحريك ملف الدعاوى لا سيما ضد تشيللر، عاد ومارس اللعبة ذاتها عبر طي ملف الفضائح ضد زعيمة حزب الطريق المستقيم، في ما اعتبر "رشوة" علنية، عندما عارض نواب الرفاه اجراء تحقيق مع تشيللر في شأن فضيحة "المدفوعات السرية" التي اتهمت فيها بتبديد حوالي 5،6 ملايين دولار. وكان امام تشيللر أحد خيارين لا ثالث لهما: اما انتهاء حياتها السياسية من خلال التحقيقات معها، واما المشاركة في حكومة ائتلافية مع الرفاه تطوي ملف فسادها وتنقذ مستقبلها السياسي امام خصمها اللدود ييلماز. وما من شك في ان قرار تشيللر الدخول في ائتلاف مع الرفاه كان من الشجاعة بحيث ان اكثر المراقبين تفاؤلاً لم يكن يتوقع هذا القرار من زعيمة كانت تعتبر قبل اشهر، ان الائتلاف مع الرفاه سيدخل تركيا في الظلام. مشاركات سابقة يشارك أربكان في السلطة للمرة الاولى بصفته رئيساً للحكومة. لكنه عندما كان رئيساً لحزب السلامة الوطني مارس الشراكة الحكومية ثلاث مرات في السبعينات. وكان العامل الاساسي في دخوله شريكاً في حكومات تلك الفترة، ليس لكونه حزباً اساسياً، اذ ان نسبة الاصوات التي نالها عام 1973 لم تتعد ال 8،11 في المئة وعام 1977 ال 6،8 في المئة، بل لانه تحوّل، رغم قلّة عدد نوابه، الى مفتاح ضروري للحزبين المتنافسين آنذاك: الشعب الجمهوري اليساري والعدالة اليميني ليتمكن احدهما من نيل الثقة في البرلمان. وعلى هذا شارك حزب السلامة الوطني في الائتلاف الحكومي الذي شكّله بولنت اجاويد زعيم حزب الشعب الجمهوري في 26 كانون الثاني يناير 1974، وتولى اربكان منصب نائب رئيس الحكومة وشغل أنصاره ست حقائب وزارية من اصل 23 حقيبة، بينها حقائب اساسية كالعدل والداخلية والتجارة والثروة الغذائية والحيوانية والصناعة والتكنولوجيا واحدى وزارات الدولة. وفي 31 آذار 1975 دخل حزب السلامة الوطني، مع حزبين يمينيين صغيرين، شريكاً في ائتلاف حكومي ثانٍ بزعامة سليمان ديميريل رئيس حزب العدالة. وتولى اربكان مرة ثانية منصب نائب رئيس الحكومة، مع سبع حقائب لأنصاره هي: العدل والداخلية والاسكان والثروة الغذائية والحيوانية والعمل والصناعة واحدى وزارات الدولة. ودخل حزب السلامة الوطني للمرة الثالثة شريكاً في ائتلاف حكومي ترأسه ديميريل العام 1977، وتولى أربكان المنصب نفسه وست حقائب وزارية لاعضاء حزبه هي: الداخلية والثروة الغذائية والحيوانية والعمل والصناعة والتكنولوجيا والاعمار والاسكان ووزارة الغابات. "الرفاه" مركز اليمين مع انتخابات 24 كانون الاول 1995 ثم مع تشكيل حكومة برئاسة أربكان، يبدو ان حزب الرفاه في طريقه للتحوّل الى مركز اليمين السياسي في تركيا. وبعدما اجتمعت القوى المعارضة لحزب الشعب الجمهوري حزب أتاتورك ومنها الجماعات الاسلامية على اختلاف اتجاهاتها ونزعاتها، تحت مظلة الحزب الديموقراطي في الخمسينات، وتحت مظلة حزب العدالة في الستينات والسبعينات، وتحت مظلة حزب الوطن الام في الثمانينات، أظهرت الخريطة الحزبية في تركيا منذ نهاية العقد الماضي تفككاً في جبهة اليمين أيضاً مع تفكك موازٍ في جبهة اليسار الذي انقسم بين حزبي الوطن الام وحزب الطريق المستقيم وريث حزب العدالة. وهذا الانقسام كان من العوامل الاساسية لتسلّل حزب الرفاه وتحقيق نمو مطرّد في نسبة الاصوات التي حصل عليها منذ العام 1989 في مقابل انحسار مستمر لشعبية حزبي اليمين. وتحوّل حزب الرفاه، مع انتخابات كانون الاول الماضية، حزب اليمين الرئيسي وترسّخت هذه الصفة المركزية في ترؤسه التشكيلة الحكومية الجديدة. فرص نجاح الحكومة السؤال الذي يثور منذ الاعلان عن تشكيل حكومة بزعامة أربكان: هل من فرصة لنجاح الحكومة الجديدة؟ وما هو الموقف الفعلي للمؤسسة العسكرية منها؟ لن يجادل احد في أن الفوارق والاختلافات بين حزبي الرفاه والطريق المستقيم شاسعة. وباستثناء النظرة شبه المشتركة الى التخصيص و"الارهاب الكردي"، لا يمكن الادعاء أن ثمة تقاطعاً، ولو في الحد الادنى، في المواقف ازاء مختلف القضايا الرئيسية على الصعيدين الداخلي والخارجي. لكن ما يعزز فرص نجاح هذه الحكومة أن فشلها سيكون خطيراً على مستقبل كلا طرفيها. لقد ركبت تشيللر طريقاً لعلها الاكثر وعورة في حياتها السياسية. ولن يغفر لها العلمانيون الآخرون "خطيئة" الائتلاف مع الرفاه. وتشيللر، العدو اللدود لأربكان، ما كان لها أن تقدم على هذه المغامرة - المقامرة لو كان متاحاً أمامها بديل آخر خلاف السماح للآخرين بنحرها سياسياً. لذا ستكون تشيللر وحزبها حريصين كل الحرص على اثبات صحة خيارهم في الائتلاف مع الرفاه والدفع بكل قوة نحو تعزيز فرص نجاح الحكومة، وإن في مجالات محدودة. لان خلاف ذلك يعني الموت الاكيد لتشيللر وما تمثله حزبياً. وفي المقابل، يدرك أربكان ان المهمة التي يتصدى لها، بصفته اول رئيس اسلامي لحكومة تركية، هي التحدي بعينه، وخوض مجازفة خطرة جداً في محيط متلاطم عاصف هائج من الازمات الاقتصادية والاخلاقية والعرقية والمذهبية والاقليمية والدولية. لذا لن يبخل أربكان بنقطة عرق واحدة من اجل الاحتفاظ بالسمعة والرصيد الذي راكمه خلال ثلاثة عقود من عمره السياسي. وفي ظل الاختلاف الكبير في برنامج الحزبين، فإن الفرصة متاحة لكليهما ل "عقلنة" توجهاتهما، والالتقاء في منتصف الطريق في اكثر من قضية، مما يحمل على الاعتقاد بأن الفرصة متاحة امام تركيا كذلك، لتظهير سياسة جديدة ونمط جديد في التعاطي مع مختلف مشكلاتها. لكن نجاح الحكومة الجديدة مرتبط كذلك بحقيقة موقف الجيش التركي منها. واذا كان نجاح اربكان وتشيللر في الوصول الى تشكيل حكومة ائتلافية، مؤشراً ضمنياً على موافقة الجيش على هذه الحكومة، فأن موقف الجيش بالنسبة الى ما يلي ذلك يشوبه الغموض. فإذا كان راغباً بجدية واخلاص في انقاذ تركيا من الفوضى السياسية والاقتصادية، والتوتر المتفاقم في علاقاتها الاقليمية، فإن فرص نجاح الحكومة ستتعزز. لكن، وهنا يطرح سيناريو شائعٌ جداً في تركيا هذه الايام، ستكون الحكومة الجديدة في طريقها الى فشل ذريع اذا كان الجيش يهدف من خلال "تمرير" مثل هذه الحكومة، الى "توريط" حزب الرفاه، ومعه تشيللر، لصالح ييلماز كأقرب السبل لوقف صعوده الصاروخي و"تنفيس" الهالة التي تحيط به. فحزب الرفاه، ما فتىء يكبر ويتضخم بصورة مثيرة خلال سنوات قليلة. وتعليل ذلك كونه حزب معارضة وسط احزاب سلطة فاسدة. وان تكليف الرفاه التصدي لهذا الكم الهائل من المشكلات المزمنة في تركيا، اقتصادياً واجتماعياً والمسألة الكردية والاتفاق العسكري مع اسرائيل، وغير ذلك، سيكون من باب طلب القيام بمهمة مستحيلة. وتوقع عجز الرفاه عن التصدي لحل كل هذه المشكلات أو حتى قسم منها، خصوصاً مع المحاولات المتعمدة للعرقلة من جانب الجيش والاحزاب العلمانية الاخرى، يعني انه سيصطدم بالزجاج الذي يخرجه من التجربة الحكومية الجديدة، مثخناً بالطعنات ويعيده الى حجمه الطبيعي كمجرد حزب من الاحزاب الموجودة، وفاقد المصداقية امام قاعدته. ماذا سيفعل اربكان؟ اذا أخذنا الجانب النظري من طروحات اربكان على الصعيدين الاقتصادي والسياسي الداخلي والخارجي، فإن تحقيقها لا يتطلب حكومة ائتلافية، او حتى حكومة "رفاه" بالكامل، بل يتطلب ثورة بكل معنى الكلمة، وهذا أمر متعذر. يطرح أربكان شعار "النظام العادل"، وهي التسمية الضمنية ل "النظام الاسلامي". ومختصر هذا النظام العادل اقتصادياً خمسة عناوين هي: رفض الربا والضرائب المجحفة وصك النقود بلا رصيد والنظام المصرفي الجائر ونظام القروض. أما على الصعيد السياسي الخارجي فيطرح "النظام العادل" ايضاً خمسة عناوين هي: تشكيل امم متحدة اسلامية وسوق اقتصادية مشتركة اسلامية ويونيسكو اسلامية وصندوق نقد اسلامي و"ناتو" اي حلف دفاعي اسلامي. لكن اذا اخذنا تجربة حزب الرفاه في البلديات التي فاز بمعظمها، لا سيما في اسطنبول وانقرة، في 27 آذار 1994، فلا يتوقع ان يمضي اربكان قدماً في تحقيق اي من العناوين العشرة المذكورة التي هي اقرب الى الخيال منها الى الواقع، والى الديماغوجيا الاعلامية منها الى طروحات جدية. فالرفاهيون كانوا يشيرون في برنامجهم الانتخابي للبلديات، في اسطنبول مثلاً، الى نيّتهم اقفال اماكن اللهو والحانات وأماكن بيع المشروبات الكحولية، واغلاق بيوت الدعارة وبناء جامع في منطقة "تقسيم"، الحي الراقي والغربي في قلب اسطنبول. لكن شيئاً لم يتحقق من هذه الدعاية بعد سنتين على توليهم السلطة البلدية. وكان الانجاز الاساسي في مجال الخدمات التي لا طابع اسلامياً لها مثل الطرق والمياه والكهرباء والاسواق ووسائل النقل. اذا اخذنا هذه التجربة مؤشراً الى ما ستكون عليه سياسة الرفاه في الحكم، فإن التوقعات تنسجم مع صفة "البراغماتية" التي تطلق على أربكان، كما في السياسة الداخلية كذلك في السياسة الخارجية، فضلاً عن ان الوزارات الاساسية، مثل الخارجية والدفاع والداخلية والتعليم، بيد وزراء حزب الطريق المستقيم. ويكبر هذا التوقع اذا اضفنا الى البلديات برنامج الحكومة التي يرأسها أربكان، مقياساً لحركته السياسية المستقبلية. اذ نادى مراراً منذ اوائل السبعينات الى إنهاء العلمنة وقطع التواصل مع اوروبا والغرب واسرائيل والتكامل مع العالم الاسلامي. لكنه منذ الانتخابات النيابية السابقة بدأ يعدّل خطابه السياسي بصورة ملفتة ازاء هذه القضايا وصولاً الى "احترام المبادىء الديموقراطية والعلمانية لأتاتورك. واستمرار العمل على اندماج تركيا بأوروبا" كما جاء في البيان الوزاري. كما ان أربكان، شأنه شأن سائر الزعماء الاتراك الآخرين، يفصل بين المسألة الكردية و"ارهاب حزب العمال الكردستاني"، وقد تعهد بيان الحكومة الجديدة "الاستمرار بكل قوة في مكافحة الارهاب الانفصالي" ما يعني ان السياسة الرسمية التقليدية ازاء التعاطي مع المسألة الكردية ستستمر في عهد أربكان، على الاقل بخطوطها العامة. وهذا يجرّ الى الاصطدام بالموقف السوري المُتَّهم تركياً بدعم حزب العمال الكردستاني. ومع أن أربكان سيحاول، على الاقل، تجميد التوتر مع سورية وايران، والتعاون مع اسرائيل، عند حدودهما الحالية، مع بذل جهود لفتح كُوَّة في نفق العلاقات بين تركيا وجيرانها العرب في شأن مسائل المياه والارهاب والحدود، فإن حرصه في الوقت نفسه، على ترسيخ موقعه الجديد في رئاسة الحكومة، بعد حياة سياسية حافلة استمرت اكثر من 27 سنة، ومن خلال عدم احداث قفزات فورية للنظام، سيجعل التفاؤل بتحسن سريع وكبير في العلاقات بين تركيا وجيرانها، في غير محله. ان اربكان وحزب الرفاه امام امتحان صعب جداً. فبين الوفاء لطروحاته النظرية وبين الحرص على طمأنة النظام العلماني لن يستطيع احد التكهن بما ستنتهي اليه هذه التجربة الفريدة من نوعها. لكن شيئاً واحداً مؤكداً هو ان التزاوج الاسلامي - العلماني الجديد سيتيح الفرصة لكل الاسلاميين والعلمانيين في تركيا لمراجعة ضرورية ل 70 عاماً من "الجمهورية الاولى" مما سينتج عنه بالتأكيد نموذجٌ جديد اكثر من ضروري لعودة تركيا الى هويتها، وفي الوقت نفسه ايجاد موقع راسخ لها في "عصر الحداثة". الانظار، كل الانظار، شاخصة الآن صوب تركيا... وعين التاريخ كذلك.