تحديات "الصناعة والتعدين" على طاولة الخريف بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة اليوم    ارتفاع أسعار الذهب إلى 2719.19 دولارا للأوقية    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صفحات حميمة من طفولة "الولد المشاغب" الذي ترشحه الاشاعات للانتخابات النيابية . زياد الرحباني ل "الوسط" : فكرت في اطلاق النار على عاصي وفيروز وأحببت موليير كأنه من عكار ! 1 من 3
نشر في الحياة يوم 22 - 07 - 1996

هل قرّر زياد الرحباني حقّاً أن يخوض معركة الانتخابات اللبنانية المقبلة في حال حصولها؟ لا يتعلّق الأمر بمسرحيّة جديدة يعدّها الولد الموهوب المشاغب الذي لم يكبر، بل بخبر تتداوله الأوساط السياسيّة والثقافيّة في بيروت بمزيج من الدهشة والفضول، ويتجاوز حدود الاشاعات والافتراءات الكاذبة.
السؤال لا يزال من دون اجابة نهائيّة، حاسمة، لكنّ المؤكّد على الأقلّ أن الفنّان الذي كانت السياسة ولا تزال جزءاً أساسيّاً من مشاغله، فكّر في الأمر جديّاً في وقت من الأوقات. أغنيات زياد الرحباني عبرت الحواجز، وحوارات مسرحيّاته لا تزال على كلّ لسان، ولا شك في أن جيلاً كاملاً يتعرّف على نفسه في تلك الشخصيّة الفريدة التي عبّرت عن معاناة قطاعات واسعة من الناس. لكن أين ينتهي الفنّ وأين تبدأ السياسة، وإلى أي مدى يمكن التوفيق بينهما؟
في انتظار أن تأتينا الأسابيع القليلة المقبلة بالخبر اليقين، نحاول في ما يلي أن نسبر أغوار الظاهرة التي تحوّلت إلى حالة ثقافيّة، أن نقترب من تلك المدرسة التي انبثقت من الارث الرحباني قبل أن تستقلّ عنه وتنقضه أحياناً، وتمتدّ جذورها من سيّد درويش إلى تقاليد موسيقى الجاز العريقة. في هذه الحلقة تسلّلنا إلى مناطق حميمة من حياة الولد الشقي، بين العائلة الرحبانيّة والمدرسة... والشارع، مسلّطين الأضواء على وقائع سيكون لها أثر أكيد في بلورة وعيه السياسي والجمالي، وتحديد ملامح تجربته الفنيّة الخصبة.
الشبابيك مغلقة، ولا حس يصل إلى الغرفة التي تنسى أنها تطل على الشارع، على الجدران ملصقات جاز، والكوميدي الفرنسي لوي دوفونيس. من الغرفة تلاحظ بعد الرواق باباً مفتوحاً لغرفة أخرى وزوّاراً صامتين. يبدو البيت صغيراً كمغارة، والغرف بعضها داخل في البعض الآخر، لكنّك لا تعرف من أين يأتيك هذا التخيل.
الرجل الذي فتح لك، تتخيل أيضاً أنه فتح أقفالاً عدة. امتلأ جسمه، وظهرت حول عينيه غضون، لكنه لا يزال صبياً... صبيّ في ارتباكه، في قعدته، وفي لعثمته أحياناً، هوذا رحباني آخر يدخل عزلته. لكن الرجل الذي دشن الحياة باكراً لا يزال يعمل، غادر البيت في الثالثة عشرة، وقدّم مسرحيته الأولى وهو دون العشرين. ألّف شعراً ونصوصاً وموسيقى. مثّل وأخرج. سخر وأحتج باكراً. قبيل الحرب كان قد أصبح رمزاً للجيل الشاب، ولا يزال بعدها هذا الرمز. بين مسرحيّة وأخرى له دهر. بين شريط كاسيت وآخر، دهر أيضاً. لكنه لا يغيب.
هوذا رحباني آخر. أهله جواهريّو كلام، لكنه يتلعثم ويخطف الكلام ويحطم الجمل. لعل الحقيقة ثقيلة على اللسان. يحلمون ويسخر. أتوا من الضباب وأتى من الرصيف، كبروا ولم يكبر. زياد الرحباني يتكلم ويؤلف ويمثل من حيث الكلام صعب وعار ومن دون صور، من حيث الكلام حيلة وفخ، ومن حيث الهزء والالتباس. الرحباني يعد بأغنية أخرى، بكوميديا أخرى، بموسيقى أخرى، لكنه أيضاً "يشتغل على الطلب". يعد ويكرر وعده، ويبقى دائماً فتى الساعة ووعدها.
كان شريط "بما إنّو" في الأسواق منذ أسابيع. لكنّ الكلام يبدأ عند زياد من الموسيقى ليصبّ فوراً في كلّ شيء. من كلّ شيء إلى كلّ شيء: هذا حال زياد الرحباني الذي يخترع - وحده، وعلى مزاجه - الكلام والسياسة والغناء في جملة واحدة. يتحدّث، لكنّه يذهب في وسط الجملة إلى المسجّل ويضع فيه شريطاً. ألا تريدون أن تسمعوا؟ يقول. هذه ألحان جديدة لفيروز. نريد أن نسمع طبعاً، ونسمع. لكنّه بعد قليل يضع شريطاً آخر، عليه أغنية له تؤدّيها مادونا. "إنّها جيّدة، يقول، لكنّها لا تجد من يفهم صوتها. جواريره ملأى بالموسيقى، وهو حين يتكلّم أو يعمل ويمثّل، يعود إلى هذه الجوارير، فهنا يجد صوته، وربّما حقيقته. وأسمع، وأنا أحاول أن أتذكّر بيتاً - للوركا ربّما - عن الصبي الذي ضيّع صوته في قطرة ماء...
يذكر الذين تناولوا سيرتك أن عاصي كان يوقظك بعد أن يصل الشجار إلى ذروته مع فيروز، لتساعده في توضيب حقيبته ولتخرجا معاً من البيت. وبعد أن تستيقظ تقضي الوقت كله في "مفاوضات" بين أمك وأبيك لاصلاح الامور. يبدو أنك لم تكن تنام نوماً كافياً بسبب الشجار .
- لا كنت أنام، على رغم الشجار. أما الباقي فصحيح. كنت أنام كالبغل، ولا أستيقظ حتى إذا وقعت شنطة على رأسي أو لعلعت الضجة وقامت الدنيا وقعدت. كنتُ أستيقظ بالطبع أثناء "المفاوضات"، وأبقى عندها صاحياً إلى أن يقترب موعد الذهاب إلى المدرسة. كنت أذهب برفقة شخص كلفوه بتوصيلي إلى بدارو، فأوتوكار المدرسة لم يكن يصل إلى الرابية حيث نعيش. ومن بدارو أستقلّ الأوتوكار إلى مدرسة الجمهور.
عشت طفولة قلقة إذاً؟
- فتحت عيوني على المشاكل. وذات يوم بلغ غضبي ذروته... وأذكر أنّني حاولت الحصول على مسدّس كي أطلق عليه وعليها النار وأستريح. كنت طفلاً، ولحسن الحظّ لم ينجح المشروع يضحك. ما أريد أن أقوله هو أنني لم أعش طفولة طبيعيّة.
يبدو أيضاً أنّك أثناء حصص الفيزياء في المدرسة، كنت تنصرف إلى مشاغل واهتمامات أخرى...
- كنت أحرر مراسلات لأمي وأبي: رسالة لأمي، وأخرى لأبي، يتضمّنان دعوة إلى اجتماع وبنود اجتماع لحل المشاكل بينهما. الأستاذ يشرح على اللوح، وأنا أخفي الاوراق التي أخط عليها رسائلي تحت الدفتر وأبدو كمن يسجل ملاحظات...
هل كنت عدوانياً تجاه الناس أو تجاه أهلك؟
- غادرت البيت باكراً بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة وبدأت أعمل عازف بيانو في أي مكان أجد فيه عملاً.
هل تذكر بعض من عملت معه؟
- عملت مع من كانوا معروفين ذلك الوقت، مع ملحم بركات مثلاً. أعرف عازف ناي يدعى جوزيف كان يهتف لي: عندنا تسجيل في الاستديو الفلاني، هل تأتي؟ فأقول له نعم. كنت أتقاضى وقتها 15 ليرة لبنانيّة على الساعة، وأنا لا أكاد أصدق نفسي حتى أنني اشتريت سيارة جديدة من الشركة بمبلغ 8000 ليرة.
الفرق بين التاكسي والسرفيس
كنت لا تزال تنام في البيت؟
- لا. هجرت البيت من ذلك الحين لكنني بقيت أزورهم من وقت لآخر، لأعرف ماذا حلّ بهم.
أين كنت تنام؟
- عند أصحابي.
كنتَ بلا بيت إذاً؟
- فكّرت في سرّي: أيّهما أفضل؟ أن أشتري سيارة أم أن أملك بيتاً؟ كما تلاحظ فضّلت السيارة.
قضيت كل تلك الفترة بلا بيت؟
- كنت أسكن في منازل أصحابي.
عشتَ "حياة الشارع"، كل ليلة في بيت.
- تعرفت أولاً على العالم، صار بوسعي أن أتحرك فيه. في البيت كانوا كثيري الوسواس، إذا قررت المدرسة القيام برحلة نهار الاحد مثلاً، يفضل والدي ألا أذهب. لماذا يا سيدي؟ لأنكم ذاهبون في "البوسطة" إلى الارز وأنت تعرف طريق الأرز قد تنقلب بكم الحافلة وهي تلف المنعطف. حين غادرتُ البيت صار في مقدوري أن أتحرك.
يسمح لك أهلك بمغادرة البيت في هذه السن، ولا يسمحون لك بأن تتنفس في البيت!
- عندما تبالغ في الاهتمام يمكن أن تغدو ذلك مؤذياً، ويمكن أن تعطب من تحرص عليه. قبل أن أغادر البيت، لم أكن أعرف الفرق بين "التاكسي" و"السرفيس" سيّارة اجرة جماعيّة. أذكر أني في البداية استقليت سيارة أجرة وكان الراكب آنذاك بنصف ليرة، حين وصلت أعطيته نصف ليرة، لكنّه طلب ليرتين ونصف. قلت له: لكن الراكب بنصف ليرة كما أعلم، فأجابني: هذا تاكسي يا ابني. كنت في الثانية عشرة، ورآني في هذا العمر وطلب أجرة تاكسي. بدأت من يومها أعرف ما هو السرفيس وما هي التاكسي.
أحاطك الأهل بالاهتمام حتّى الاختناق، وما كانوا يسألونك عن علاماتك؟
- لا لم يصل الحوار بيننا إلى هذا الحد. كان عملهم متواصلاً، ولم يكن لديهم الوقت الكافي. لذا قلّت اجتماعاتنا خصوصاً بعد أن غادرت البيت. صرت أطل من وقت لوقت، يوم السبت ويوم الأحد. يوم الأحد تجتمع العائلة على الغداء. مفروض أن "نتغدّى" مع بعضنا نهار الاحد.
هل كنتم تتجادلون على المائدة؟
- وقت الأكل لا يتكلم أحد، وما أن ينتهي الغداء حتى يبدأ "الماتش".
من كان يدفع لك أقساط المدرسة بعد أن تركت البيت؟ فأنت بقيت حسب ما نعرف في "مدرسة الجمهور" الخاصة، حتى البكالوريا؟
- نعم.
هل كنتَ تدفع الأقساط المدرسيّة؟
- استمروا يدفعون قسطي.
ألم يستعملوا ذلك كأداة ضغط لاعادتك إلى البيت؟
- قالوا "هذا ولد بلا مخ"، وسيعود يوماً إلى البيت. هو الآن يعيش ردّ فعل، وستنتهي هذه الحال. لا بد من أن يعود إلى البيت وهكذا ظلوا يدفعون القسط.
احتدوا كثيراً ضد تركك البيت؟
- طبعاً، والاسئلة دائماً إياها: أين تنام؟ ماذا تفعل؟
ألم تتخلل ذلك "عودات" إلى البيت؟
- بلى. كنت أعود وأباشر مفاوضاتي ثم أترك من جديد. أعود لكن مفاوضاتي لا تنجح، فأهجر البيت ثانية. يعني مثل كريستوفر: كم مرة جاء إلى المنطقة وكم مرة غادرها!
رياضيات وشعر
كنت تلميذاً شاطراً؟
- بدأت تلميذاً شاطراً لكنني أخذت أتأخر تدريجياً، يعني منذ بدأت أفكر في الموسيقى.
كنت شاطراً في الحساب؟
- كانت علاماتي مرتفعة على الدوام. كان أبي يقول لي الحساب هو الأهم، لأن الموسيقى قريبة جداً من الحساب. كنت قوياً في الرياضيات مع أنني كنت في الفرع الأدبي للبكالوريا.
لماذا اخترت البكالوريا الأدبية على رغم قوتك في الرياضيات؟
- لأنني علمت أننا في الأدبي ندرس شعراً ومسرحاً وأدباً.
كنت تحب الأدب؟
- نعم.
أي أدب؟
- كل الأدب، فهو قريب من الموسيقى.
هل تذكر من أحببت من أدباء تلك الفترة؟
- مارسيل بانيول.
هذا حب الجميع.
- وأحببت موليير، لكنّني كرهت راسين. كانوا يقولون راسين أفضل من موليير، لكنني أحببت موليير. شعرت به قريباً، كما لو كان واحداً من عكار.
ورونسار؟
- مَن؟
رونسار؟
- لم ندرسه. كنت أحب بلزاك.
كان لك أصحاب في مدرسة الجمهور؟
- صاحب واحد، لأنّه يتكلم العربية!
هل تُكلّمنا عنه؟
- كان فتى يتردد على "البور" المرفأ، لأن أباه مسؤول في المرفأ، وحكماً كل من ينزل إلى البور يتعلَّم ضاحكاً البلد كله. كان يتكلم العربية، وهذا شيء نادر في الجمهور. وهناك فتى آخر من عكار، ما لبث أن أصبح عسكرياً.
من مدرسة الجمهور، وأشتغل عسكرياً؟!
- نعم عملها!
هذا الولد سأل الأستاذ مرة: أنتم تعلّموننا الانجيل، لماذا لا تعرّفوننا بالقرآن الجمهور تابعة لاحدى الارساليّات المسيحيّة. لم تتكلموا عنه أكثر من دقيقة، مع أنكم خصصتم وقتاً طويلاً لشرح الانجيل. معرفة القرآن يمكن أن تكون أيضاً مفيدة. قمت أنا وثنّيت عليه، وقلت: إنه يطرح سؤالاً، فلماذا لا تجيبون؟ لكنّه بعد ذلك صار مع "القوات اللبنانية".
هو نفسه؟
- نعم، أشتغل عسكرياً وبعد ذلك انتقل إلى "القوات"، استفاد من خبراته في الجيش.
كنت مشاغباً في المدرسة؟
- لم أكن مشاغباً. كل واحد يحب أن يقول إنّه كان مشاغباً في طفولته.
لكن تلقيت انذارات عدة من ادارة المدرسة؟
- نعم، اجتهدت للحصول على انذارات من الادارة، كي لا يعود ممكناً قبولي في المدرسة. كان جلّ ما أتمنّاه أن يطردوني.
لم تكن قادراً على احتمال المدرسة؟
- جو المدرسة لا يحتمل. كانوا يضحكون عليّ حين أتكلم بالعربيّة، وأستفرد بي أستاذ لا أنساه طيلة حياتي اسمه ب. صقر كما أذكر. هذا رجل عاش في فرنسا وحصل على الجنسية الفرنسية ولا يتكلم إلاّ الفرنسية. وكان هاجسه الأساسي أن يجعلني أقف أمام التلاميذ وأستظهر عشرة أبيات ب "الالكسندران".
تقصد البحر الشعري alexandrin، أشهر الأوزان الكلاسيكيّة الفرنسيّة.
- بحر، نعم. كان همه أن أسمّعها بصوت عال، وألفظ الراء غيناً، أي حرف ال r بالفرنسيّة إر، كان يريدني أن ألفظه "إغ" كما يفعل الفرنسيون. ولم أكن أُحسن لفظ ال "إغ" هذه. أحسّ أنني أغصّ كلما حاولت أن ألفظها. هكذا كان الأستاذ يسجِّل اسمي على لائحة الذين سيسمّعون الأمثولة هذا الاسبوع، وأصعد الدرجات الثلاث التي تفصل الصف عن اللوح، فلا أستطيع أن ألفظ الراء كما يليق بالمقام. لم تكن "تظبط" معي مهما حاولت.
لم تكن قوياً بالفرنسية؟
- كرّهني الأستاذ صقر بالفرنسية بسبب "تثاقله" عليّ: "عليك أن تلفظ "إغ"" طوال الوقت. أكون حافظاً أمثولة بشكل جيّد، فأصعد إلى اللوح، وعندما أصل إلى الراء ألفظها "إر" فيقول لي أعد من الاول. وأعيد وتتكرر المسألة حتى يهدر نصف الوقت في هذه القصة. تهدر نصف حصّة "الفرنساوي" في المحاولات الفاشلة.
كلّ ذلك من أجل ال "إغ"؟
- نعم من أجل ال إغ، وفي النهاية يقول لي الأستاذ: عد إلى مكانك Zero صفر.
كيف كان طلاب الصف يتصرفون حيال ذلك؟
- كانوا يضحكون من رؤيتي "موقوفاً" على الدرجات، مسرورين لأنهم يضيعون وقتاً ويتخلصون من الدرس. كانوا يتفرجون على المشهد.
أنت تروي الآن وتضحك، لكنك تعذبت.
- هذا معسكر وليس مدرسة.
حصص اللغة الفرنسيّة؟
- كان الأمر يتجاوز تصرّفات أستاذ الفرنساوي. فكل الذين حواليّ كانوا يشعرونني أنّني موقوف، وأنّني في حبس.
هل كانوا يعتبرونك غريباً عنهم؟
- نعم. كان على الواحد فينا أن يكون نسخة طبق الأصل عن الذي جنبه. معظم الطلاب كانوا يتكلمون الفرنسية في بيوتهم، قبل أن يأتوا إلى المدرسة.
لم تكن تتكلم الفرنسية جيّداً؟
- لا.
والآن؟
- أفهم جيداً وأكتب جيداً. الفرنسيون أنفسهم يقولون لي ذلك. صرت كذلك لفرط ما ضغطوا عليّ. لكني بت أكره هذه اللغة، لا أكون نفسي عندما أتكلم الفرنسية.
مشكلة الفرنسية كانت الوحيدة التي واجهتك في المدرسة؟
- طبعاً، لا. عندما حانت نهاية العام الدراسي طلبوا منا أن نملأ استمارة نذكر فيها ما هي المهنة التي نحب أن نختارها في المستقبل. كتبت Musicien موسيقي. دخل الأستاذ صقر وقال: "Ziad Rabani لا يحسن لفظها بالعربية بدّو يعمل Musicien، فأخذ الطلاب يضحكون.
ماذا تعني لهم كلمة Musicien. فكروا بالتأكيد ببارات الزيتونة. لم تكن الحرب بدأت بعد. الموسيقي عندهم طبال يصاحب راقصة في بار. كنتُ أحب أن أُضحِك التلاميذ. يعني أن أقوم بأفعال تضحكهم. لكن الأمر يختلف حين يضحكون عليك. جعلني الأستاذ مادة سخرية. وضعني في موقف عدائي. وفي احتفال التخرّج، قال لي أستاذ الفرنسية لحظة تسلّم الشهادة: أنت أكثر واحد "سلّيتني" هذا العام، تصور أن يقول لي أستاذ هذا الكلام.
ماذا قصد ب "سلّيتني"؟
- لم يكن قصده أيجابيّاً بأيّة حال. لم يظهر عليه أنّه يبدي اعجابه بال Dissertation الذي كنت أكتبه. ماذا يسمّونها بالعربية؟
موضوع الإنشاء؟
- نعم إنشاء. يعني حلّل وناقش. "حلل وناقش"، كنت أكتب الموضوع الأفضل في الصف، لكنه مليء بأغلاط الاملاء والقواعد، وخطوط حمراء تحتها. كان يقول العلامة التي أعطيتها لك هي 11 على عشرين، لكنك تستحق 18 لولا أغلاطك.
هل كان موضوعك سيئ الخط والترتيب؟
- كان الخط جيداً والترتيب حسناً. لكن الأغلاط كانت كثيرة. ربما بسبب الجو الذي يثقل عليّ في المدرسة صرت أخطىء سهواً في الكتابة، فأضع مثلاً علامة الجمع في آخر كلمة لا تحتاجها. ربما من خوفي أن أنسى علامات الجمع صرت أكثر منها.
لماذا كنت تشعر أنّك غريب في الصفّ؟
- كنا 16 طالباً بينهم خمسة أولاد سفراء، يعلم الجميع أن في مقدورهم ألا يأتوا أساساً إلى المدرسة... لكنهم يأتون كرماً منهم! كان بينهم واحد إذا غاب أحمل همّه وأقلق عليه، لأنّه كان الوحيد الذي تجعله علاماته يأتي بعدي في الترتيب، عندما تُعلن نتائج المسابقات والامتحانات. كنت أخشى أن يغيب فأصبح أنا الأخير في الصف.
هل كنت تشعر باختلاف اجتماعي عنهم؟
- طبعاً.
تراهم أولاد ذوات.
- لم أجد صاحباً بينهم.
كيف كانوا ينظرون إليك هل يجدونك مختلفاً؟
- كيف؟
في اللباس، الحركات، اللهجة، التقاليد.
- كانت أمور كثيرة تفرّق بيننا. الكلام بالعربية، وجوّهم الخاص الذي ينفّرني، حين يجتمعون بعضهم مع البعض الآخر.
هل كانوا يعتبرونك أدنى طبقياً؟
- لا أعرف كيف كانوا ينظرون إليّ. كيف يمكن أن ينظر هؤلاء إلى تلميذ يتكلم العربية، يعني فلاح. الفلاح بالنسبة إليهم مجرد غلطة ولا حاجة له في المجتمع أساساً.
أهكذا كان الأساتذة ينظرون إليك أيضاً؟
- كلا. الأساتذة أصروا على أن أبقى في المدرسة لأتخرج منها، فيسجلوا اسمي على لوائح الخريجين.
لأنك ابن عاصي وفيروز؟
- نعم.
هذا ما أعطاك امتيازاً عندهم؟
- عند الأساتذة.
عند الطلاب ألم يعنِ شيئاً لهم ان تكون ابن عاصي وفيروز؟
- ما كانوا يسمعون فيروز وعاصي أساساً.
ألم يكن رفاقك في الصفّ يعرفون فيروز وعاصي الرحباني؟
- غالباً لا أتصوّر.
ماذا فعلت للحصول على انذارات كافية لطردك من المدرسة؟
- فعلت كلّ ما بوسعي كي يطردوني. لكنّ إدارة المدرسة أصرّت على عدم طردي. ذات يوم كنت ألهو بالكرة في الملعب، خلال فرصة بعض الظهر. قذفتها باتجاه مكتب مدير المدرسة. طارت ودخلت من نافذة المكتب وتوقفت هناك وأحدثت أضراراً. جاء الناظر وأمرنا بالوقوف كالعسكر، يعني "تأهّب، استرح"... ويمكنك بعدها أن تتكلم. علمت أن أحد الطلاب رآني وأنا "أشوط" الكرة، وهو جبان كنت واثقاً أنه سيشي بي. قلت أسبقه وأعترف، وهكذا كان.. قال الناظر تفضل معي، وتبعته إلى مكتب المدير الذي كان مقلوباً رأساً على عقب. استقبلني المدير وقال لي: مهما فعلت لن نطردك. لم يبقَ من العام الدراسي سوى أشهر، ولن نطردك لأننا نريد أن يكون اسمك على لوائح خريجينا. كانت هذه لوائح الشرف، لا أعرف ماذا يسمونها، والمدرسة فخورة بأن رجالاً معروفين تخرجوا منها.
هل تتذكّر "شيطنات أخرى" من أيّام الدراسة؟
- كانت مجلة "بلاي بوي" تثير اهتمام التلاميذ. ذات يوم تحدّاني أحدهم بجلبها إلى المدرسة. وهي، كما تعلم، مدرسة رهبان، ووجود مجلة كهذه بين يدي طالب فضيحة، وطبعاً إذا ضبط فلن يكون مسروراً. واحد من بيت نصر قال لي: هل تجرؤ؟ فرفعت التحدّي، وأخذنا نتناقلها في الصف. كان كلّ تلميذ يتفرّج عليها لقاء ربع ليرة، فيما الاستاذ يشرح والدرس مستمر. هكذا كنا نجمع ثمن العدد المقبل، ونشتريها كلّ أسبوع، ونتناقلها بالطريقة نفسها.
عشتَ طفولة معذبة.
- لم تكن طفولة سعيدة. لكنني تعلّمت منها الكثير.
الحلقة الثانية في العدد المقبل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.