بعدما روى منصور في الحلقات السبع السابقة قصة النجاحات التي مر بها الاخوان رحباني، حيث وصلا الى ذروة قل ان بلغها فنان قبلهما، في قلوب الناس او في الريبرتوار الذي اوجداه خلال مسيرة فنية اذهلت الجميع بزخم نتاجها وتنوعه، يختم في هذه الحلقة الاخيرة من مذكراته لپ"الوسط" قصة الفرح الذي لم يكتمل عندما اصاب القدر العائلة الرحبانية بشرخ مر: ذات يوم انفجر دماغ عاصي رحباني فسقطت الكارثة على فيروز، وعلى منصور، وعلى التراث الرحباني الذي لوَّن بعطائه لبنان والشرق والعالم. كان عاصي في المكتب، يكتب، كعادته، في سرعة وعمق. ينسى نفسه حين يكتب. ينسى الوقت والمكان. يغيب في الشخصيات امامه، يحاورها، يحركها، يتفاعل معها، بها، معها، كانت هذه ميزة لديه. من هنا كان شاعراً درامياً يتميز عن سواه من الشعراء الرومانسيين فقط بأنه امتلك الكتابة المسرحية. هو ليس مجرد شاعر اغنية ولا شاعراً وحسب. انه شاعر درامي: يقول كل ما يريد بجملة متوترة قصيرة يشحنها بكل ما يود قوله فتخدم اغراض المسرح. من دون ان ينساق مع غنائيته او رومانسيته. هو دائماً في خدمة اغراض المسرح والعمل المسرحي ولو ابتعدت به هذه الاغراض احياناً عن جمالية الشعر، بهذا يكون عاصي من اكبر الشعراء الدراميين. كنا في تلك الفترة عائدين من بعلبك متوجين بنجاح كبير من "ناطورة المفاتيح"، وبدأنا نكتب المسلسل التلفزيوني "من يوم ليوم". وذلك اليوم الاربعاء 27/9/1973… آه من ذلك اليوم!!! كان عاصي في غرفته يكتب، وانا في غرفتي اكتب، وليس معنا سوى خليل تابت احد اعضاء الفرقة الشعبية. دخل عاصي الى غرفتي قائلاً: "انتهت الحلقة 14". كنت اعرف انه بدأها ذاك الصباح، ففوجئت بأنه انهاها في هذه السرعة العجيبة. قمنا الى الصالون وتناولنا غداء خفيفاً سندويش شاورما: كنا كلانا نتبع الريجيم. عدت الى غرفتي وعاد عاصي الى غرفته. فجأة جاءني خليل يقول: "استاذ منصور، الاستاذ عاصي يطلبك فوراً". هرعت الى غرفته فبادرني: "رأسي، يا منصور، رأسي يؤلمني بشكل غير طبيعي". تبادر فوراً الى ذهني انه بداية انهيار او تعب منهك. سألته ان يوقف الكتابة ويرتاح بعد الغداء فقال: "سأخرج وامشي قليلاًً". ونزل الى باحة امام المكتب مظللة بأشجار صنوبر. لكنه عاد بعد اقل من خمس دقائق. سألته اذا كان هدأ فقال: "بل زاد الألم. لنطلب الدكتور الفرد شعراوي". قلت له "اطلبه انت" واردت بحدسي ان اختبر قدرته على ذلك والا فهو على حافة انهيار اعصاب. وبالفعل لاحظت انه يخطئ في طلب الترقيم. عندها طلبت الدكتور شعراوي وقلت له ان عاصي مصاب بصداع كبير. ولم يحسن طلب رقم الهاتف، فأدرك خطورة الامر وقال: "جئ به الآن فوراً". انزلته، خليل وانا، الى السيارة وذهبت به. في الطريق بدأ يهذي ويقول كلاماً من دون ترابط. خفت كثيراً لكنني لم اظهر له ذلك. وحين وصلنا امام عيادة الدكتور شعراوي انتبهت الى ان عاصي لم يعرف كيف ينزل من السيارة. واخذ يمد رأسه اولاً ولا يعرف كيف يكمل كي يترجل. هرع اصحاب المحلات عن الرصيف، وحملوه معي الى العيادة فيما اخذ يتقيأ وغاب عن الوعي. في العيادة خطط له الدكتور شعراوي فقال لي: "ثمة شيء يحصل في الدماغ". واستدعى فوراً لجنة اطباء: فؤاد حداد اعصاب، فؤاد جبران قلب، عبدالرحمن اللبان نفساني، واجتمعوا فقرروا نقل عاصي بسرعة الى المستشفى، لشكهم ان يكون في الدماغ نزيف قوي. هرعنا الى مستشفى رزق، ادخلوا عاصي الى غرفة العناية الفائقة ليخرجوا منها بنتيجة قاسية: نزف قوي في الجهة اليسرى من الدماغ، وهي عادة المنطقة المعرضة للنزف. كان لا بد من اطلاع فيروز على الامر، وهي كانت يومها مريضة في المستشفى نفسه. واضافة الى الاطباء المذكورين، اضيف رياض خليفة وكمال رفقة وفريد صوما ابو جودة الذي كان يُعنى بنا منذ طفولتنا. اجتمعوا سريعاً ليخرجوا بنتيجة اقسى: "لا امل. حجم الانفجار اكبر من امكان معالجته. واذا عاش عاصي سيعيش من دون وعي". وأفتوا كلهم بعدم جدوى العملية مع انهم من اقرب الاصدقاء الينا لعلهم خافوا من المخاطرة بالعملية، فقالوا ان الافضل تركه لأنه سينطفئ تدريجاً ولن يعيش طويلاً. وحده الدكتور فريد ابو جودة قاوم هذه الفكرة، وقال: "عاصي، انا ربيته واشرفت على عنايته طوال عمره. لن ارضى بأن ينطفئ في هذه السهولة المجانية". عقدنا اجتماعاً مع فيروز، واصر عبدالله الخوري صهرنا بأن نجري لعاصي العملية مهما كانت النتائج. وكان بيننا الصحافي الصديق جورج ابراهيم الخوري رئيس تحرير "الشبكة" فوضع كل الاتصالات الدولية في تصرفنا كي نستدعي طبيباً من الخارج. وكان انضم الينا في هذا الوقت صديقنا الدكتور جدعون محاسب فقال لفيروز انه يقترح الاتصال بأستاذه وصديقه البروفسور الفرنسي العالمي كلود غرو. وسهل لنا جورج ابراهيم الخوري امر الاتصال فكلمه الدكتور محاسب وفهم منه انه ذاهب الى الولاياتالمتحدة كي يؤسس مركزاً هناك لجراحة اعصاب الدماغ. وحين اصر محاسب، وافق غرو على المجيء الى بيروت وكانت لديه ابنة فيها. فيرى ابنته ويجري العملية ثم يعود الى الولاياتالمتحدة. حزام بشري في هذه الاثناء كان الاطباء في العناية الفائقة اجروا لعاصي عملية التراخيوتوميا فتح القصبة الهوائية ليساعدوه على التنفس، خوفاً عليه من الاختناق بسبب توقف الدماغ ووقوعه في الغيبوبة التامة. وما هبط الليل علينا ذلك الاربعاء الحزين حتى كان مستشفى رزق مزنراً بحزام بشري مذهل من المئات الذين حاصروا المستشفى يستفسرون عن حال عاصي. وفي ساعة متأخرة من الليل رن الهاتف فإذا على الخط القصر الجمهوري السوري، ومندوب يستفسر باسم الرئيس حافظ الاسد عن حال عاصي. صباح الخميس صدرت الصحف وعلى صدر صفحاتها الاولى: "عاصي الرحباني يصاب بانفجار مفاجئ في الدماغ"، "قلوبنا مع عاصي الرحباني"، "عاصي الرحباني ضحية العبقرية والتضحية والاجهاد"… فأصاب الناس ذهول وذعر وتقاطروا بالآلاف على مستشفى رزق. واخذت الاتصالات تتدفق على المستشفى من لبنان والخارج، حزينين لاصابة فنانهم الكبير الطيب بهذه الكارثة. مساء الخميس كان كلود غرو في بيروت مجتمعاً الى الاطباء والعائلة: فيروز، انا، الياس، وصهرانا المحامي عبدالله الخوري والمحامي الياس حنا. سأل الاطباء فترددوا في اجراء العملية فقال لهم انه يتحمل المسؤولية ويجريها. قال ان عدم اجرائها يعرض عاصي للخطر، بينما في اجرائها امل بالنجاح. وطمأننا الى انها عملية غير مستعصية، واتفقنا على ان يجري العملية في الثامنة من صباح اليوم التالي. صباح الجمعة، صدرت الصحف اللبنانية حاملة في صفحاتها الاولى مانشيتات: "عملية جراحية لعاصي الرحباني صباح اليوم". وبقي التدفق على المستشفى طوال ذاك اليوم، والناس صامتون، دامعون، يصلون في اعماقهم، استغرقت العملية ثلاثة ارباع الساعة وخرج منها غرو وطمأننا الى ان عاصي يستعيد وعيه خلال مدة قصيرة. واذاع المستشفى نشرة طبية عن حاله. واكد لي غرو ان عاصي قد يعود الى التلحين لكنه لا يمكن ان يعود الى الكتابة، بسبب منطقة الدماغ المصابة. صباح السبت صدرت الصحف تحمل عنوان: "كبر دماغ عاصي الرحباني انقذ حياته". وذلك لاكتشاف الاطباء ان حجم دماغ عاصي كان اكبر من دماغ الرجل العادي. في ذاك اليوم فوجئنا بمدير القصر الجمهوري السوري يصل مصحوباً بمحامينا في دمشق نجاة قصاب حسن، مندوباً من الرئيس السوري حافظ الاسد، وحاملاً مبلغ خمسين الف ليرة لبنانية وهو مبلغ كبير في ذاك الوقت. وكانت تلك اللفتة من الرئيس السوري فضلاً كبيراً نحفظه له منذ تلك البادرة. بعد اسابيع قليلة بدأ عاصي يفتح عينيه، ينظر الينا ويتفوه بكلمات لا ترابط بينها: مجرد فونيمات عالقة في ذاكرته. كنت انظر الى عينيه فأراهما عيني نسر، وأقول: "عاصي بدأ يرجع الينا". وبدأ يعود الينا وتدريجاً بدأ يستعيد وعيه. ثم سمح الاطباء بعودته الى البيت فأخذناه، ومشى خطواته الاولى متعثراً ببعضها. ثم عاد الى الحركة شبه الطبيعية، مع بقاء تلعثم عنده بسيط في الكلام. فكان اذا اراد ان يركز يتلعثم كي يجد الكلمة المناسبة. لكنه حين يغضب يتكلم بطلاقة. ذلك ان الغريزة تسيطر في حالات الغضب، لا الطبيعة المكتسبة ذات اللغة المكتسبة. اخذ عاصي يتماثل للشفاء ويستعيد وعيه والنطق. لكن الفتحة التي احدثها الاطباء في قصبته الهوائية احدثت له ورماً بثرياً اخذ يضايقه في التنفس. اجرينا الفحوصات الطبية اللازمة من خوفنا ان يكون ذاك تقلصاً في القصبة الهوائية قد يؤثر على تنفسه. وهي عملية خطيرة لا يقوم بها الا طبيب اميركي يدعى هرمس غريلو في بوسطن. ولا يمكن التأكد منها الا بالبروتكوسكوب "كاشف القصبات" جهاز مزود بضوء خاص يتم ادخاله في جوف القصبة الهوائية للكشف عنها. لم يكن ذلك مضموناً فرفضنا ان تجرى له العملية هنا. واخذنا نستعد للسفر الى اميركا. في هذه الاثناء التقانا الصديق الدكتور بشير سعادة ونصحنا بالمرور الى مستشفى ماري لنلونغ في باريس من حيث تخرج والالتقاء بأستاذه هناك جورج فريس فيكشف على عاصي، وهكذا كان، سافرنا الى باريس، فيروز وانا وشقيقتنا الهام وزوجها المحامي الياس حنا ومعنا "في الوفد" على الطائرة طبيب مختص بالقصبة الهوائية جورج توما وطبيبة مختصة بالبنج مي انطاكي خوفاً من اية مضاعفات. ولدى وصولنا الى المطار اتصلنا بالمستشفى المذكور فأرسل لنا سيارة الاسعاف رفض عاصي ان يستقلها واصر على الذهاب في سيارة عادية. اضطررت انا ان اذهب في سيارة الاسعاف، حيث انبطحت على ذلك السرير الابيض وسط ضحك الجميع. وحين وصلت الى المستشفى هجم عليّ الممرضون بذلك السرير على العجلات فأخذت أولول انني لست المريض وان المريض الحقيقي يصل خلفي في سيارة التاكسي. هناك التقينا بالدكتور جورج فريس بات في ما بعد نقيب اطباء فرنسا. قبل ان يقرر اجراء العملية التي كان يرعبنا اجراؤها خوف المضاعفات، اراد ان يستكشف الوضع بالبرونكوسكوب. سألناه عن مدى نجاح الكشف فقال انه ليس اكيداً، وقد تطبق القصبة الهوائية على الجهاز فيتحتم عندها اجراء العملية. سألته: "هل تجري العملية لأخيك لو كان لك ان تفعل"؟ اجاب: "لا". فقلت: "وانا لن ارضى بأن تُجرى لأخي. لا اثق في هذا الموضوع الا بالبروفسور هرمس غريلو". فقال: "كنا معاً منذ اسبوع في مؤتمر وعدنا من بوسطن قبل ايام". فقلت له: "لا اقبل الا ان تسأله رأيه". استهجن الامر بأن هذا لا يحدث ان يستشير طبيب فرنسي طبيباً اميركياً في شأن طبي، لأن الفرنسيين انوفون ولا يرضون بهذا الامر. في هذه الاثناء كانت تتدفق الاتصالات على المستشفى تطمئن على حال عاصي، ابرزها من الرئيس السوري حافظ الاسد والعاهل الاردني الملك حسين. امام هذا الضغط اضطر البروفسور فريس ان يتصل ببوسطن وأتكلم انا مع غريلو الذي طمأنني الى ان البرونكوسكوبيا ليست خطرة. عندها وافقت، فأدخلوا الجهاز واكتشفوا ان ليس في الامر سوى بثرة صغيرة على عظمة الغضروف من جراء ازاحة القصبة الهوائية في بيروت بضعة مليمترات عن حيثما يجب ان تكون. وحكم فريس بعمليتين جراحيتين: اولى لاستئصال البثرة والاخرى تجميلية في الحلق يقوم بها البروفسور لوبريغان. كانت الاولى سهلة وانتهت بسرعة، لكن الاخرى تطلبت ان يبقى عاصي ممدداً في سريره عشرة ايام وعلى رأسه كتاب كي لا يتزحزح لتنجح العملية التجميلية فلا يتعرض لاحقاً لأية مضاعفات. تحية الى عاصي عدنا الى بيروت لأكمل مسرحية "المحطة" التي كنا انهيناها كتابة اولى. اعدت كتابتها وبدأت التلحين، وطلبت من زياد ان يلحن قطعة فيها، اردت ان نشترك بها جميعاً: فيروز وانا وزياد ونرفعها تحية الى عاصي، قال لي زياد ان عنده موسيقى لأغنية لا كلام لها بعد. سمعت اللحن فأعجبني ووضعت كلمات "سألوني الناس" وفق لحن زياد والناس يظنون ان الكلام كان موضوعاً ثم وضع له اللحن زياد. وكنت طلبت من عاصي خلال التحضير ان يلحن قطعاً في "المحطة" كان حينئذ عاد يعزف على البزق ويكتب النوطة فوافق، وكان اول لحن وضعه بعد مرضه "ليالي الشمال الحزينة"، ثم وضع الحاناً اخرى، ووضع زياد مقدمة الفصل الثاني. كان غرو حذرني من صدمات نفسية قد تؤثر على صحة عاصي ودماغه من جديد. لذا افتتحنا المسرحية من دون عاصي. وبعد ايام جاءني الدكتور عبدالرحمن اللبان وقال لي: "انا سأجيء بعاصي الى المسرح غداً". خفت من الخطوة فأكد لي انه المسؤول. ومساء اليوم التالي وضع ساعة الضغط في زند عاصي ودخل معه. وما شاهد الناس عاصي داخلاً الى الصالة حتى هبوا في عاصفة من التصفيق لا تحدث الا للزعماء وكان اللبان طوال المسرحية يتفقد ضغط عاصي من حين الى آخر فيجده لا يتأثر. عند انتهاء المسرحية، جمعنا عاصي في الكواليس: فيروز وزياد وانا، معلقاً على اغنية "سألوني الناس" صارخاً فينا بنبله الشهم: "انتظرتم حتى امرض لكي تستجدوا تصفيق الناس باسمي ايها الانتهازيون؟" لكن حبه العظيم لفيروز وزياد ولي لم يجعله يوقف الاغنية من المسرحية، خاصة بعدما شهد ما فعلت في الناس، عندها ايقنا ان اعصابه اقوى من خوفنا، واخذ يتردد ليلياً على المسرح الى ان بات يقود الاوركسترا في البيكاديلي. وبعدها استعاد صلاحياته جميعها في المكتب، وعاد ينزل معي كل يوم، وادعه يشعر انه كالعادة هو الآمر الناهي، وانه السيد المطلق كما كان. ولاحظت ان ما فارقه: الضابط الرادع. كان يضحك من دون ضوابط ويشتم ويأكل ويحزن ويغضب ويتكارم ويدفع ويسخو من دون ضوابط. وعاد الى نمطه في التلحين. ضعفت عنده ملكة الصبر فلم يعد يكتب جميع الالحان بل كان غالياً يندهني لانفذ له لحناً يقوله لي وانا اكتبه. وعاد يشاركني في كتابة النصوص. اكتب واقرأ له فيغير ويستبدل ويضيف ويقول لي بالضبط ماذا يريد. مثلاً اغنية "سكروا الشوارع" هي في معظمها من كلماته ولكنه كان يقول لي ماذا يريد وكيف، وانا اكتب الكلمات او اللحن. ومن هذا مثلاً ان مسرحية "بترا" في معظمها من تأليفه. كنا في الاردن للبحث في وضع مسرحية في مناسبة عيد جلوس العاهل الاردني. في التاكسي الى احد الاجتماعات، سألنا السائق: "من اين انت؟" فقال: "انا من زهرة الجنوب". استفهم عاصي: "وأين زهرة الجنوب"؟ قال: "بترا". عندها فتقت الفكرة في بال عاصي ان نكتب العمل عن بترا. ونسجنا تلك الحكاية التي لعاصي الحصة الاكبر في تركيبها مع الاسقاطات التاريخية. حاولنا ان نجعله يستعيد الكتابة لكن صبره كان ينفد بسرعة. كان عليه ان يتعلم الابجدية من جديد وربط الاحرف والكلمات كأي تلميذ في الصف الابتدائي الاول. فقال لي: "انا صرت اتكلم ولا اكتب. اتكلم وغيري يكتب. صرت مثل سقراط وارسطو. اريد ان اكون منهما. ما عادت لي ملكة على الصبر والكتابة". كان يقرأ بسرعة لافتات على الطريق، او يتعب فوراً فيرمي الجريدة من يده. فقد خسر التركيز. لكنه كان جلوداً على التأليف وتمضي ساعات طويلة في المكتب وهو يملي عليَّ نصاً شعرياً او حواراً مسرحياً او ميلوديا موسيقية تدندن في باله العبقري. ذبذبات الابداع عدنا الى ايقاعنا السابق في العمل حتى كنت في لحظات كثيرة انسى ان عاصي اصيب في دماغه. تلك الغزارة في الانتاج كانت تجعل الكثيرين يظنون اننا لا ننام، لا نرتاح، لا وقت لدينا الا للتأليف. وهذه معادلة خاطئة. كنا نؤلف بسهولة فائقة. لم نكن نعمل دائماً بالايقاع نفسه، مرات كنا نكتب العمل ونبقى اياماً نتجادل به كلانا او مع فريق "المستشارين". كنا نقرأه مرات ومرات لاصدقائنا. احياناً كان عاصي ينتهي من الكتابة او تلحين الحصة التي نتفق ان يقوم بها، ولا يعود الى البحث في العمل ثانية. يتركني ولا يعود اليّ حتى انتهي من حصتي. واذا اتفق ان اسأله امراً كان ينهرني في حدة، "انا انتهيت من حصتي واريد ان ارتاح". لم نكن، كما يتخيل الناس، نعمل ليل نهار من دون قاعدة ولا توقف. كان عاصي يؤمن بنظرية ان الابداع يأتي في ذبذبات من خارج، وللفنان قدرة اكثر من سواه على التقاطها. الافكار تأتي من عالم آخر. يلتقطها الفنان في حال ابداع. ثم ينتهي تدفق الافكار فيعود الفنان انساناً عادياً. كان عاصي يؤمن بنظرية التذكر مثل سقراط. اي ان التعلم ليس سوى التذكر. كنا منظمين جداً في حالات الانتاج الفني، وكسولين جداً بعد كل عمل، مرات نمضي شهراً او شهرين لا نكتب كلمة ولا نضع نوطة واحدة، بل نمضي اوقاتنا مع اصدقائنا في المكتب او في السهرات او المآدب. وحين يحدث ان نكتب، كنا نكتب بسرعة ونلحن بسرعة وصبري الشريف ينفذ بسرعة. كان عندنا فريق اداريين يعمل بسرعة في "الفرقة الشعبية اللبنانية". وعاصي كعادته بحضوره القوي وشخصيته الطاغية يتدخل بشراسة وعنف في كل صغيرة وكبيرة لأنه، كعادته ايضاً، كان دائم التوق الى الكمال. بهذه الطريقة استطعنا ان ننتج هذا الاسطول من الاعمال الفنية والانجازات، نحو خمسة آلاف اغنية، واربعمئة اسكتش غنائي، ثلاثة افلام طويلة، عشرات البرامج والحلقات التلفزيونية والاذاعية، خمس وعشرون مسرحية، جولات فنية ولوحات وبرامج في مختلف انحاء العالم. توزيع الارباع الصوتية التي قيل علمياً انها لا تُوزع، تغير مسار الشعر والموسيقى في العالم العربي، تعميم استعمال الاوركسترا في الشرق كمحتوى درامي… كنا منظمين في الانتاج، وسريعين جداً في الابداع. على ان عاصي كان اسرع مني بكثير. وضع الكتابة الاولى لپ"جبال الصوان" كلها بثلاثة ايام. ثم تناقشنا بها ووضعنا كتابتها الثانية فالثالثة، الى ان صاغها هو بكتابتها الرابعة والاخيرة. كانت الصياغة الاخيرة دائماً بخط عاصي. هذا الايقاع لم يعد اليه بعد مرضه. لكنه لم يفقد الحس العبقري الذي كان لديه طوال حياته. ذات يوم، وكنا نهيئ "قصيدة حب" لبعلبك 1974 طلب مني ان اقوم بعملية مونتاج لموشحات قديمة تغنيها فيروز ووديع الصافي. اخترت له ابياتاً متنوعة اخذت اقرأها له وهو يصغي، كعادته بعد مرضه: يده وراء اذنه. قرأت له "بروحي تلك الارض" من الصُمّة القشيري شاعر جاهلي سابق مرحلة الموشحات فوافق. وقرأت من ابي نواس "حامل الهوى تعب" و"يا غزالاً في كثيب" هي اصلاً "يا قضيباً" غيرتها بپ"يا غزالاً" فوافق كذلك. واكملت كل ما اخترت من ابيات وافق عليها جميعها، الى ان وصلت الى بيتين مطلعهما: "اذا كان ذنبي ان حبك سيدي" فعبس عاصي وقال: "لمن هذان البيتان؟" فقلت له: "للراعي النميري". فقال: "هذا الراعي النميري اكثر هؤلاء الشعراء نضارة. أأنت متأكد منه؟"، واغرق عينيه في وجهي فكتمت بسمة عميقة وقلت: "نعم". فمضى لكنني احسسته، بحسه الفطري المدهش، لم يقتنع. وليلة تقديم الحفلة في بعلبك، اخذ برنامج الحفلة بين يديه يتصفحه، حتى وصل الى ذينك البيتين فوجد التوقيع تحتهما: "الاخوان رحباني". ناداني ثائراً: "منصور؟ عملتها فيي؟ افتكرتني مش رح انتبه"؟ عندها اخبرته القصة كلها، بعدما بت مطمئناً الى ان العمل بات مسجلاً ولا مجال لتغيير شيئ فيه. والقصة انني كتبت اربعة ابيات الى سيدة من تلة الخياط في بيروت، كنت استلطفها، واعرف انها ستكون بين الحضور في بعلبك فشئت ان احييها ببيتين من تلك الاربعة، والابيات تقول: "ويا تلة الخياط لي فيك نجمة وفوق تلال الرمل منك كثيبُ يسمرني حب عليه الى المدى وبيت القساة الظالميّ قريبُ اذا كان ذنبي ان حبك سيدي فكل ليالي العاشقين ذنوبُ أتوب الى ربي… وإني لمرة يسامحني ربي اليك أتوبُ لم يغب عن عاصي حسه العبقري حتى في ايام نقاهته. عام 1975 كنا اتفقنا مع لجنة مهرجانات بعلبك على تقديم "زمان إليسا". بعدما وقعت احداث 13 نيسان ابريل وما بعدها شعر عاصي بأن العمل لن يتم فأوقف الكتابة. واستحق لنا القسط الاول من المبلغ المتفق عليه. فقال لي: "قل للجنة اننا لن نقبض القسط لأن المسرحية لن تتم". اتصلت بنا سيدات اللجنة قائلات ان لديهن تأكيدات من رئيس الجمهورية ان المهرجانات قائمة، فأجاب عاصي: "تحياتي الى فخامة الرئيس لكن المسرحية لن تحصل". وانفجر الوضع في لبنان صيفئذ ولم تتم المسرحية والمهرجانات توقفت عامئذ ولا تزال متوقفة حتى اليوم. بهذا الحدس العجيب كان يتحسر على عدم قدرتنا تنفيذ مسرحيات كنا بدأنا بكتابتها: "المخفر 101"، "جريس خضر"، "قصب من نهر سير"، "مشاع قمرة"، "ايام التانغو"، "قبطان المركب الورق"… فيروز لا تغني في البيوت وبهذا الحدس ايضاً كان يعاند ما لا يراه صالحاً لهيبة فيروز، من هنا انه رفض رغبة الرئيس كميل شمعون حين دعانا عام 1957 الى تقديم حفلة في القصر الجمهوري القنطاري في مناسبة زيارة شاه ايران الى لبنان. كان جواب عاصي: "فيروز لا تغني في البيوت حتى ولو كان هذا البيت القصر الجمهوري". وعام 1965 رغب الينا الرئيس شارل حلو ان نحيي حفلة على مسرح كازينو لبنان لمناسبة زيارة الحبيب بورقيبة الى لبنان. وبدأنا التحضير ثم فوجئنا بمن جاء يقول ان الحفلة ستنقل الى مسرح اوتيل فينيسيا حيث سيتعشى الرئيسان. حسم عاصي الامر بكلمة: "هذا ليس جو فيروز". وألغى الحفلة. وعام 1976 كنا في القاهرة نقدم حفلاتنا، وصادف وجود الرئيس اللبناني الياس سركيس هناك لحضور مؤتمر الملوك والرؤساء العرب، واحب الرئيس اللبناني ان يحيي حفلة لبنانية يدعو اليها الملوك والرؤساء، واتفقنا على ان يكون ذلك على مسرح الاندلس في الهواء الطلق، قبيل موعد الحفلة جاءنا من يبلغنا بأن اوامر صدرت من الرئيس السادات ان تقام الحفلة في فندق هيلتون المقفل لأسباب امنية. كان جواب عاصي: "الاوامر تعطى للعسكر لا للفن. في قاعة هيلتون لا نعطي صورة صحيحة عن الفن اللبناني، بلغوا سيادة الرئيس اننا الغينا الحفلة". وانطفأ عاصي بهذا العناد نفسه ظل عاصي يجاهد في العطاء. عام 1980 اعطينا "المؤامر مستمرة" على مسرح صالة السفراء في كازينو لبنان. وعام 1984 اعطينا "الربيع السابع" على مسرح جورج الخامس. بعد تلك الفترة بدأت حال عاصي تسوء. وبدأت حالات غيبوبته تغالبه. ومن آخر ما كان يردد: "افتحلي… افتحلي… قتلني الصفير… والبحر ما لو صوت… دخيلك افتحلي". وكانت تلك آخر كلماته الواعية. بعدها اخذت تزيد غيبوبته. وصباح السبت 21/6/1986، انطفأ عاصي الرحباني، اخي ورفيق العمر. غاب للمرة الاخيرة، آخذاً معه وطناً ظنه الكثيرون سقط في الحرب، لكنه لم يسقط لأنه لم يتحقق بعد، وما زال باقياً في ضمير الناس. وحين اقفلنا عليه ذاك الباب الاسود في مقابر تلة الغوارنة في انطلياس، تركناه لوحده يغادرنا ويطل على الدنيا الثانية التي كان يتحدث عنها في سنواته الاخيرة. هناك عند تلك التلة، تركناه وحيداً مستوحداً وليس يدري انه سكن قلوب الناس. في اربعين عاصي وضعت الدولة بلاطة تذكارية على بيت ام عاصي الذي كتبنا فيه معظم اعمالنا. وفي الذكرى الثانية لغياب عاصي، كان معول الهدم يجرف البيت وبلاطة الدولة معاً. لكن معول الزمان نفسه لن يستطيع هدم صورة عاصي الذي غاب ليصبح ضمير الذاكرة الجماعية. غاب عاصي الذي انا اسمه الآخر وهو جزء مني. فأخذ معه كل عاصي وبعض منصور. وعن البعض الباقي من منصور، اصدرت كتابين اهديتهما الى عاصي: "اسافر وحدي ملكاً". و"انا الغريب الآخر"، وانتجت مسرحية "صيف 84" تحية الى عاصي، وحالياً انتج مسرحية "الوصية" التي رافقني فيها طيف عاصي في كل كلمة وكل نوطة. هكذا انا اليوم: وحيداً اتوغل في العمر حاملاً اسمي ومشعل عاصي. سأظل اعطي ولن استقيل حتى اسقط على الحلبة فيرتفع اسما عاصي ومنصور في اعمال الاخوين رحباني… ويكمل المشعل!