اكتشف الجمهور الواسع رؤوف مسعد في السنوات الاخيرة، بعد صدور الطبعة الاولى من روايته "بيضة النعامة" دار رياض نجيب الريس، لندن التي أثارت ضجة في الأوساط الأدبية، واستقبلها النقد بحماسة زائدة. لكن هذا الكاتب السوداني الذي يجر وراءه تاريخاً شخصياً وابداعياً ووجودياً صاخباً، لم يكن عند تجربته الاولى. هنا حديث سريع معه عشية صدور جزء جديد من سيرته الذاتية والجماعية. كتب رؤوف مسعد الذي يقارب الستين سبع مسرحيات أولها "لومومبا" وآخرها "أورشليم... أورشليم" المرفوضة الآن من الرقابة. كما كتب "يوميات انسان السد العالي" بالاشتراك مع صنع الله ابراهيم وكمال القلش. أما كتاب "صباح الخير يا وطن"، فيعتبره البعض من اجمل ما كُتب عن يوميات الحصار الاسرائيلي لبيروت. ثم جاءت رواية "بيضة النعامة" حصيلة تجربة سياسية وفكرية واجتماعية غنية، لتعيد الى الجسد اعتباره من داخل التراث العربي. و "بيضة النعامة" حالة خاصة في مسيرة الرواية العربية بنصها المفتوح على كل الآفاق... اعيد اصدارها في القاهرة في طبعة شعبية ثلث ثمنها لدى مدبولي، قبل ان تظهر منها طبعة ثالثة - "سرية" أيضاً - في باريس. ربما شجع هذا الرواج الكاتب المقيم في امستردام على كتابة جزء ثان للرواية بعنوان "إحليل التمساح". كما أصدر اخيراً مجموعة قصصية بعنوان "صانعة المطر". الجانب الفانتازي تضم المجموعة أربع قصص طويلة عن "عالم النساء، واكتشاف الجسد والذات". كتبتها في اوقات مختلفة - يقول رؤوف مسعد الذي التقيناه خلال احدى زياراته القاهرية - وأعدت صياغتها في الشتاء الماضي. منها قصتان سودانيتا الروح: "الغرباوية" أولى قصص المجموعة، و "صانعة المطر" خاتمتها. القصة الاولى عن "جو" الأجنبي في السودان، والثانية "بائعة السمك وابنتها المدهشة" أدخل بها حياة أسرة بائعة سمك مسيحية في حي دير الملاك القاهري وابنتها التي تحيا في مناخات فانتازيا جنسية، وتتحرك في عالمها الخاص. أما "القديسة آن" فهي عن تجربة شخصية لي في سويسرا. و "صانعة المطر" أخيراً تمرين على التكثيف، وفترة راحة بعد "بيضة النعامة" وقبل "إحليل التمساح" التي اعتبرها عالمي الأكثر صعوبة... معركتي النهائية لهذا النوع من الكتابة. كتبتها بقليل من العفوية وكثير من الحرفية والتكنيك". * هل يمكن القول إن "بيضة النعامة" و "صانعة المطر" و "إحليل التمساح" وجوه مختلفة لمشروع واحد؟ - لا أدري... بعد تفكير "هم شكلهم" كتاب واحد، لو قرأهم شخص ما دون اسم المؤلف، سيتأكد انهم لكاتب واحد... العالم والاجواء والشخصيات نفسها. لكن باختلافات وتطورات. لحن واحد بتنويعات وعلى آلات متعددة. "البيضة" فتحت الابواب المغلقة وحرّكت جرأتي، خصوصاً بعد ان رأيت رد فعل الناس، على الرغم من انني لم اقل كل ما لدي. هناك اشياء ما زالت مخبأة داخلي، أو لمّحت عليها بشكل خارجي. اول قصص "صانعة المطر" عن امرأة من غرب السودان جبل مرة الذي انتهت فيه "بيضة النعامة". وآخر قصص المجموعة فيها اسماء واجواء القصة الاولى نفسها، وهي نوع من التمهيد ل "إحليل التمساح". * الشكل في "بيضة النعامة" أثار كثيراً من الالتباس. لماذا؟ - لم يتبلور شكل "البيضة" إلا بعد الكتابة الثالثة لها. كنت قلقاً منه، أكتب فصولاً وأضعها جانباً، حتى وجدت الشكل الأمثل لها. لم أكتبها في الاصل كرواية، كما اشار الناشر الاصلي على الغلاف، بل كنص مفتوح يمزج بين الروائي والفانتازيا والسيرة الذاتية والاعترافات. وهنا سبب الالتباس ربما. كان يجب أن ألجأ الى تقنية ال "فلاش باك"، اي ان أعود الماضي... فاتحة الرواية لها اهميتها في اضاءة الحاضر الذي اختتمتها به. وبدأت ب "الصراع" بين الرجل/ الخادم والطفل/ السيد، وأنهيتها بالصراع بين المتمردين وحكومة الخرطوم في جبل مرة. المزج عبّر عنّي بأمانة وساعدني على كشف بعض دواخلي النفسية والشخصية والتاريخية. فإلى جوار "سيرة ذاتية لرجل عادي" لن تجذب احداً، هناك الجانب الروائي/ الفانتازي لجذب القارئ. وهو ما دفع البعض الى تقطيع "البيضة" بين رواية جنسية وسيرة ذاتية. * وماذا عن "إحليل التمساح"؟ - في الرواية الجديدة هنا مزج أيضاً، لكن في اقسام منفصلة، متصلة ومتوازية، بين نوعين من المذكرات. "شخصية" و "يوميات الكاتب" اثناء كتابته النص، سميتها "مزاج الكتابة"، وهي مرقمة بالتتالي: مزاج 1، مزاج 2، إلخ. هكذا أصغيت الى حالتي لحظة الكتابة، في تماسها مع حدث او شخصية من صميم نسيج "الإحليل"، كسماع خبر يذكرني بحادثة قديمة، الخ. البطل هو "أنا" هكذا أكشف للقارئ سر اللعبة الروائية. أخرج له ما يحتويه "جراب الحاوي" أدواته وأمكنته وشخصياته... البطل هو "أنا" بشكل ما، وحده من دون اسم، في شكله وأوصافه وعمره، يقترب مني كثيراً. مرحلة زمنية لم اتحدث عنها في الرواية السابقة، أحاسيسك وأنت في هذه السن، كيف تفكر... وما هي احباطاتك؟ هواجسك... الموت والمرض. الطلاق والوحدة. هذه هواجس التي تخيم على مناخات الرواية الجديدة، بعد أن صفّيت حساباتي في "البيضة". * مع من؟ - تصفية حسابات خاصة بي. علاقتي بأسرتي مثلاً. لم أتصالح مع أمي المتوفاة إلا بعد هذا النص، والكلام نفسه ينطبق على الحزب والسياسة بعد الناصر والدولية... على الجنس والدين. كنت أعيد النظر في أساسيات تكويني التي اهتزت مع خروجي من بيوت بعد حصارها، وتخلخلت مع انهيار العالم الاشتراكي. ولكي تكون اعادة النظر صحية، أخرجتها من "رحمها" ووضعتها مكتوبة على الورق امام عيني. * والرفاق القدامى؟ - لم أصف حساباتي مع الرفاق القدامي، بل حاولت رؤية ما حدث، كيف ولماذا؟ في "البيضة" كنت متهيباً من هذه المحاولة، ونصحني صنع الله ابراهيم بتجاوز أمور كثيرة، على الرغم من ان تجارب صدرت عن بعض الماركسيين مثل مصطفى طيبه والهامي سيف النصر ورفعت السعيد... في "الإحليل" تتسع الرؤية. لست مؤرخاً للحركة الماركسية، بل استرجع أحداث الماضي بحثاً عن مواطن الخلل في التطبيق السياسي والاجتماعي بوجه خاص، للحركة الماركسية المصرية. تناسينا في خضم الحماس والمثالية، انها كمثيلاتها العربية نتاج مجتمع متخلف، وانعكس ذلك على العلاقات في داخلها، خصوصاً في ما يتعلق بالجانب الانساني. * ألا تخشى غضب البعض؟ - من يقبلني كما أنا... أهلاً وسهلاً. لم تعد هناك "طبطبة" على أحد، ما دمت لا اتعرض لأحد بالتجريح الشخصي. ما تبقى من العمر لم يعد يسمح بأن تأخذ معك الى القبر، ما تشعر بضرورة قوله. عليك ان تقول "حواديتك"، والا لن تكون للكتابة متعة البوح. كُتّاب الغرب هم أستاتذتي هنا: الكتابة هي الهدف الاساسي بغض النظر عن الحسابات الاخرى. * تخوض في مجال الكتابة "الايروسية" مع انك تتوجه الى مجتمع شرقي؟ - انا نتاج هذا المجتمع، ابن قسيس وأسرة بروتستانتية متطهرة. ربما كان لولادتي في السودان حيث البدائية والبساطة أثرها في نقد هذه النظرة الشرقية. ثم ترسخ هذا التوجه مع اشتغالي في العمل السياسي الذي قمع الجسد من اجل القضية الكبرى! منذ الثلاثينات انفتحت على الثقافة الغربية التي تواصلت مع نشأتي السودانية، أدركت ان الجسد، يسارياً كان او يمينياً، يفرض قوانينه الخاصة... وعلي أن اصغي اليها. هذا الاصغاء احتل المساحة الأكبر من "البيضة"، وستجده اكثر رحابة في "إحليل التمساح". فأنا ممن يؤمنون بأن الجنس احد المحركات الأساسية للتاريخ، عكس المقولات الماركسية والشرقية، وأن الأنثى "هي الأصل"... هي اساس الحياة، "فاعلها" وقائدها الحقيقي. على الرغم من توهمات الرجل، كتابتي مُغلّفة بالأنثوية. روايتي الجديدة محاولة ذكورية فاشلة للسيطرة على الأنثى، باستخدام مساعدات خارجية، منها - حسب الاسطورة الشعبية - "مسحوق إحليل التمساح". * أنت تعيش وتكتب في "أرض ومحيط غربيين". فهل لهذا العامل تأثير على تجربتك؟ - لو كتبت في مصر لما امتلكت كل هذه الجرأة... الكتابة في هولندا حيث أقيم مع أسرتي، مختلفة تماماً. على الأقل أنا بعيد عن طقوس اجتماعية معروفة، وأحداث سياسية متفجرة. * وبعد "إحليل التمساح" ماذا في جعبتك؟ - أحاول كتابة روايات بوليسية... أحب هذه الكتابة كثيراً.