افتتح مهرجان السينما العربية في باريس دورته الثالثة في عشرين الجاري بفيلم مرزاق علواش "سلاماً يا ابن العم!"، الذي سبق له أن عرض قبل أسابيع في تظاهرة "اسبوعي النقاد" في مهرجان كان. المهرجان الذي سيستمر حتى الثلاثين من هذا الشهر يعرض العديد من الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة والتسجيلية، في واحدة من أقل دوراته حتى الآن احتواء لأفلام جديدة. هنا تساؤلات حول المهرجان ودورته الجديدة وجدواه. للمرة الثالثة يطلق معهد العالم العربي في باريس على تظاهرته السينمائية التي يقيمها مرة كل عامين اسم "مهرجان السينما العربية". وهو اسم يبدو في كافة الحسابات فضفاضاً، وربما كاريكاتورياً أيضاً. فالمعروف أن أي مهرجان سينمائي يريد لنفسه أن تكون له صفة عالمية، يتعين عليه أن يعرض أفلاماً جديدة وأن يكون من السمعة والأهمية، بالنسبة إلى السينمائيين ما يجعلهم يخصونه بأفلامهم قبل عرضها في أي مكان آخر. فإذا لم يتوافر مثل هذا الجانب، لا تعد الظاهرة كونها "أسبوعاً سينمائياً" يقام لمجرد التعريف بالانتاج السينمائي في منطقة أو أكثر. نقول هذا لأن قراءتنا للائحة الأفلام "الأسياسية" المعروضة - خاصة - في تظاهرة المسابقة الرسمية، التي تفترض عادة الجدة كل الجدة في الأفلام المعروضة، ستفيدنا بأن القسم الأكبر من الأفلام سبق عرضه، تجارياً وفي مهرجانات، وحتى ضمن تظاهرات سابقة لمعهد العالم العربي نفسه، بحيث يمكن لأي متابع عادي لنشاطات السينما العربية أن يستنكف عن حضور المهرجان من دون أن تكون خسارته، في ذلك كبيرة. بل أكثر من هذا، من المعروف أن عدداً من الأفلام المتسابقة سبق له ان تسابق في مناسبات أخرى وفاز بجوائز. ناهيك عن أن التظاهرة التي يطلق عليها "المهرجان" اسم "لقطة مكبرة للسينما اللبنانية الجديدة"، تظاهرة سبق أن اقيمت كما هي، في بيروت، قبل أكثر من عام، ومن الصعب العثور على ما يبرر اقامتها - بحذافيرها - مرة أخرى فتعرض فيها مجموعة صغيرة من شرائط قصيرة جيدة حققها شبان لبنانيون موهوبون حقاً - من أمثال ميشال كمون وشيلا بركات ورلى راغب وجيسي سلوم... الخ - إلى جانب ما هب ودب من شرائط حققها هواة، كان من المنطقي جمعهم في بيروت لأسباب انطولوجية ولكن جمعهم في باريس لا يستقيم بتاتاً. ناهيك عن أن هذه التظاهرة نفسها، تضم شرائط سبق عرضها وبالتحديد، في الدورة السابقة للمهرجان الباريسي العتيد نفسه. وكل هذا يدفعنا، بالطبع، إلى التساؤل حول هوية الطرف الذي "يختار" عروض التظاهرة، وعن المعايير التي تحكم ذلك الاختيار... من بلجيكا إلى فيتنام هذه التساؤلات نفسها تنطبق على بقية ما تبقى من اختيارات، فإذا كان جيء من سورية بفيلم "اللجاة" لرياض شيا - الذي سبق عرضه في المعهد - فلماذا لم يؤت بفيلم سوري آخر هو "صعود المطر" لعبداللطيف عبدالحميد، ويعتبر في كافة المقاييس أفضل من "اللجاة". ومن مصر لماذا يتم اختيار فارس بعنوان "البحر بيضحك ليه؟" - الذي عرض عشرات المرات قبل الآن - وليس "ميت فل" لرأفت الميهي مثلاً، أو "عفاريت الاسفلت" لجرجي فوزي وهو واحد من أفضل ما حقق في مصر في الآونة الأخيرة. ثم ما الذي أتى بفعله في "مهرجان السينما العربية" فيلم بلجيكي عن فيتنام لرشيد بو شارب، أو فيلم بربري هو "ماشاهو" لبلقاسم حجاج، كانت "فضيلته" الأدعى بالنسبة إلى الصحافة الفرنسية التي استقبلته بحرارة عجيبة أنه "أول فيلم جزائري يغض الطرف عن النطق بالعربية ولا يعتبر نفسه فيلماً عربياً"؟ كل هذا يدفعنا إلى التساؤل، تكراراً، كيف ولماذا ومن المسؤول؟ فإذا كان الجواب الوحيد المتوافر، كما يخيل إلينا، هو: "هذا كل ما توافر من أفلام، والحق ليس علينا بل على الانتاج السينمائي العربي نفسه"، سيحق لنا أن نتساءل: إذاً... هل هذا "المهرجان" ضروري حقاً، خصوصاً وأنه في ازاء كل سؤال يطرح وكل تقصير يلاحظ يأتي الجواب الخالد: الحق على الموازنة. مما يدفع إلى الاعتقاد بأن المهرجان يشكل عبئاً مالياً على المعهد، فهل هذا صحيح؟ حجج بالطبع إذا احتسبنا عدد "الجمهور" الذي يشاهد أفلام دورات المعهد وهو جمهور ضئيل العدد نسبياً، بحيث يمكننا أن نقول بأن هذا "المهرجان" الذي شاء لنفسه، في بداياته، بعد أن ورثه معهد العالم العربي عن مهرجان الفيلم العربي الذي كان يقام قبله في باريس - وكان في كافة المقاييس أكثر تواضعاً منه وبالتالي أكثر نجاحاً ومصداقية - شاء لنفسه ان يكون واجهة للسينما العربية الجديدة في أوروبا، فشل في مهمته، إذ لم يتمكن من استقطاب جمهور حقيقي، ولا تمكنت ندواته المتلاحقة من أن تحدث أي تغيير ولو هامشي في حياة السينما العربية، والتعاون السينمائي العربي - الأوروبي. بل ان كل الجهود التي بذلها القائمون عليه على مدى سنوات من أجل اقناع الصحافة الفرنسية الكبيرة بالاهتمام به، فشلت ولم تسفر عن نتيجة. وحسبنا أن نقارن بين اهتمام هذه الصحافة - وعلى رأسها "ليبراسيون" و"لوموند" - بتظاهرة "مائة عام من السينما المصرية"، واهتمامها ب "المهرجان" العتيد لندرك حقيقة هذه "الواجهة المطلة على أوروبا لتعرض جديد السينما العربية". فماذا يبقى إذاً من المهرجان؟ يبقى، وبكل بساطة، أنه يشكل مناسبة محمودة تمكّن بعض السينمائيين والصحافيين العرب - الذين من الصعب معرفة المعايير التي تتحكم في اختيارهم - من زيارة باريس والتجول في ربوعها لأسبوع أو أكثر. ويبقى بعد ذلك أنه يشكل مناسبة لبضع مئات من أفراد جمهور المعهد المعتاد، من الاهتمام ولو لأيام بفن السينما. صحيح ان الحصاد هذا العام لا يتبدى وفيراً، لأننا نشك كثيراً في أن تكون نوعية متفرجي "المهرجان" من تلك التي تهتم - حقاً - برؤية الشرائط اللبنانية القصيرة، أو بتكريم "الاخوين فرانكل" - رائدي الرسوم المصرية المتحركة، حسب ما جاء في برنامج المهرجان - أو من الذين سوف يتزاحمون حقاً لمشاهدة الأفلام التي اختيرت لتكريم ليلى مراد - بعد أشهر عديدة من رحيلها - وهي أفلام عرضت مئات المرات على شاشات التلفزة ولسنا ندري ان كان في امكانها، بعد، ان تثير أي اهتمام، بعد كل هذا الوقت المنقضي على وفاة الراحلة ليلى مراد! لماذا لم يكرم عاطف الطيب؟ أما الحصاد نفسه، والذي سيتعين على لجنة تحكيمية يرأسها مخرج فرنسي - لسنا ندري ان كان سبق له أن شاهد أي فيلم عربي من قبل، أو حتى ان كان يهمه أن يشاهد فيلماً عربياً - أن تختار من بينه - أي من بين ذلك الحصاد - من يمنح الجوائز المقررة التي هي أجمل ما في المهرجان دون شك. فاللجنة التي يرأسها جاك ديراي وفي عضويتها مرزاق علواش وعابد عازريه وحسين فهمي ومفيدة التلاتلي وغيرهم، سيكون عليها أن تختار بين فيلمين من الجزائر البربري "ماشاهو" والفرنسي "الاخوات هاملت" - علماً بأن الفيلمين الجزائريين الآخرين في "الاختيارات الرسمية"، وهما فيلم مرزاق علواش ورشيد بوشارب يعرضان خارج المسابقة - أما من مصر فإذا كان "ناصر 56" لمحمد فاضل يقدم بدوره خارج المسابقة، فإن هذه تشهد عرض ثلاثة أفلام هي "البحر بيضحك ليه؟" لمحمد كامل القليوبي، و"يا دنيا يا غرامي" لمجدي أحمد علي، ثم "ليلة ساخنة" لعاطف الطيب واشتراك هذا الفيلم يشكل، بدوره، ظاهرة غريبة، حيث أنه يشارك بعد عام من رحيل مخرجه، وهو أمر مستهجن بالطبع، حيث كان من المنطقي لمهرجان يدعي حماية السينما العربية الجديدة، أن يخص عاطف الطيب بتكريم خاص، لا أن يشركه - ميتاً - في مسابقة! ومن لبنان يأتي فيلم حقق قبل ثلاثة أعوام بعنوان "عصابة الحرية" من اخراج السويدية من أصل لبناني ليلى عساف، وهو يتحدث عن عصابة سرقة تقودها طفلة مراهقة. الفيلم سبق عرضه في "قرطاج 94" ولم ينل أي اهتمام يذكر. ومن المغرب يرسل جلالي فرحاتي فيلمه الجديد "احصنة الحظ" الذي ربما يكون المفاجأة الوحيدة في مهرجان من دون مفاجآت. ولئن كان الفيلم السوري "اللجاة" اختير ليمثل سورية، فإن تونس ترسل فيلمين أحدهما فرنسي خالص وهو "باي باي" لكريم دريدي، الذي شارك في "كان" العام الفائت وشبع عروضاً تجارية في فرنسا، منذ ذلك الحين. كما ترسل تونس أيضاً فيلم فريد بوغدير "الجديد" الذي لفت الأنظار في مهرجان برلين الأخير وعنوانه "صيف في حلق الوادي". هذا كل ما يعرضه "مهرجان السينما العربية في باريس" في مسابقة الأفلام الطويلة لدورته الثالثة، علماً بأن هناك أيضاً مسابقة للأفلام القصيرة ومسابقة للأفلام التسجيلية تتولى التحكيم فيها لجنة برئاسة الباحث الفلسطيني الياس صنبر وتشهد عروض مجموعة من أفلام كان معظمها حقق للتلفزة. والسؤال: هل سيكون من الصعب على اللجان التحكيمية أن تختار الفائزين السعداء لهذا العام؟ وهل ستتكرر بالنسبة إلى تلك الاختيارات، الشوائب نفسها التي يخيل إلينا أنها كانت من نصيب اختيارات الدورتين السابقتين، والتي كان منها ان تمنح جائزة الراحل مارون بغدادي - التي يقدمها "راديو الشرق" عادة - إلى المنتج المصري عادل حسين، الذي يمثل في أساليب انتاجه وعلاقته بالسينما نقيض ما كان يمثله مارون بغدادي الذي تحمل الجائزة اسمه؟ الأموال الأوروبية الغائبة مهما كان الأمر لا بد لنا من الاشارة إلى أن "مهرجان" معهد العالم العربي يطرح علينا مسألة السينما العربية، إذ حتى إذا كنا غير مرتاحين - كجمهور - للاختيارات التي كمنت وراء الأفلام المعروضة، لا بد لنا من الاشارة إلى أنها - وإلى حد ما - تمثل صورة مصغرة لما يعتري السينما العربية حالياً، من تضاؤل في الانتاج، وزوال للآمال الكبيرة التي كانت معلقة، ثم خصوصاً لحلول التلفزة مكان السينما كمصدر لانتاج معظم ما ينتج حالياً، اضافة إلى الواقع الآخر المتمثل في كون معظم الجديد الذي ينتج حالياً في بعض البلدان العربية، إنما ينتج بفضل أموال أوروبية بدأت تتقلص حجماً واهتماماً في العامين الأخيرين، بحيث نلاحظ كيف أن السينما التونسية التي كانت شهدت انطلاقة كبيرة قبل سنوات، باتت عاجزة عن فرض حضور جدي في مهرجان، ولو كان مهرجاناً متواضع الأهمية كمهرجان معهد العالم العربي. ونلاحظ كيف أن لبنان الذي يملك نصف دزينة من أفضل المخرجين العرب، لم يتمكن من ارسال فيلم روائي واحد ليشارك في المسابقة الرسمية، حتى ولو كان ازدهار سينماه الشبابية القصيرة والتجريبية يعوض جزئياً على هذا النقص، كما يعوض عليه خاصة اشتراك المخرجة رندة النهال بفيلمها الجديد "حروبنا الطائشة" الذي تعود فيه، بعد تجارب مترجرجة، إلى مستوى ابداعي طيب. وكان من شأننا أن نقول الشيء نفسه عن أفلام لبنانية أخرى مشاركة مثل فيلم ديمة الجندي "بيني وبينك... بيروت" وفيلم اولغا نقاش "لبنان قطعة قطعة" وغيرها لولا أن هذه الأفلام كانت - بدورها - عرضت في الدورة السابقة للمهرجان. وما يقال عن تونس وسورية ولبنان، يقال عن الجزائر التي ربما كانت الاختيارات الآتية منها أكثر كشفاً لأزمة مبدعيها السينمائيين. ففي وقت يتواصل غياب الأخضر حامينا وراشدي وبلوفة والطولبي وآسيا جبار وغيرهم، يأتي مرزاق علواش بفيلم حققه كله في "منفاه" الفرنسي، وتتمثل الجزائر إليه، بفيلم "بربري" يكشف عمق التمزق المقبل على الهوية الجزائرية، وبفيلمين آخرين يسهل اعتبارهما جزءاً من سينما فرنسية، أو فرانكوفونية خالصة. ولئن كانت فلسطين تبعث، في شخص رشيد مشهراوي، الفيلم الوحيد المتوافر "حيفا" الجيد، فإن السينما المصرية - على عادتها - تبدو قادرة وحدها على فرض تنوع، على رغم أزمتها هي الأخرى، حتى وإن كان في وسعنا أن نتساءل، طالما ان الاختيارات لا تقوم كما فهمنا على أساس الحصص المتساوية بين الدول المنتجة، لماذا نحرم من أفلام مصرية جديدة أخرى. ذكرنا أعلاه فيلم رأفت الميهي "ميت فل" ونذكر بالطبع "إشارة مرور" لخيري بشارة و"عفاريت الاسفلت" و"يوم حار جداً" لمحمد خان. كان يمكن تعزيز المهرجان بحضور من هذا النوع. وكان يمكن احضار "طيور الظلام" وضرب عرض الحائط بالحصص. ولكنه منطق الاختيارات مرة أخرى، بالطبع. مهما يكن، قد يكون في الامكان الافتراض بأن "الاختيار الرسمي" في مجال السينما التسجيلية، سيكون أكثر أهمية وأكثر لفتاً للنظر، حتى ولو كنا - مرة أخرى - أمام أفلام سبق أن عرض معظمها و... في معهد العالم العربي تحديداً. فهنا لدينا افلام عن شخصيات فنية وتاريخية مثل علي مبارك وحنان عشرواي وفاتح المدرس. ولدينا أفلام عن مدن القاهرة ووقائع الحجاب والصبيان والبنات خصوصاً عن حروب حرب لبنان وخيبتها كما في فيلم رندة الشهال. وهنا في مثل هذا الاختيار قد يمكننا أن نأمل جديداً... بالطبع، ومفيداً... بالتأكيد. وللثرثرة مكانها أيضاً ويبقى من فعاليات "المهرجان" أن منظميه، رغم فشل كافة الندوات السابقة، بالنسبة إلى اجتذاب الحضور أو بالنسبة إلى قول ما هو جديد، يصرون هذه المرة أيضاً على عقد ندوات من النوع نفسه، وخاصة منها الندوة التي ستعقد يوم 28 حزيران يونيو تحت عنوان "قطاع خاص، قطاع عام: أي مستقبل للسينما العربية؟". هذه الندوة من المفروض أن يديرها الناقد نور الدين صايل الذي يأمل منها أن تشتمل على "تجابه بين الأفكار والفرضيات والتحليلات"، فماذا يمكننا أن نتوقع؟ بكل تأكيد ندوة، ينقسم حضورها بين ثلاثة أنواع من الناس: نوع فضولي يأتي هنا، خطأ، ويبارح بعد عشر دقائق، ونوع ثان يتألف من مبدعين سينمائيين عرب يأتون هنا لمعرفة ما إذا كان في وسعهم أن يأملوا بعد في العثور على من يمول لهم أفلامهم المقبلة. ونوع ثالث يتألف من مسؤولين حكوميين وغير حكوميين يأتون ليسدوا النصائح ويفسرون كيف أن السينما المقبلة العربية هنا بات عليها أن تعتمد على نفسها. وفي يقيننا أن السينمائيين إذا لم يأخذوا بهذه النصيحة، ستكون النتيجة تحول هذه الدورة من دورات "مهرجان السينما العربية في باريس" لتكون الدورة الأخيرة. فإذا حدث، هل سيأسف كثيرون على ذلك؟ في اعتقادنا أن الوحيدين الذين سوف يأسفون سيكونون أولئك الذين اعتاد المهرجان دعوتهم مرة كل عامين فيأكلون هنيئاً ويشربون مريئاً ويتجولون سعداء على ضفاف السين، فإن سألتهم ما لكم لا تشاهدون أفلاماً، سيجيبونك: لقد سبق لنا أن شاهدنا كل أفلامكم من قبل.